• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
(أصول وقواعد منهجية) الباب الثاني: قواعد في المنهج 2-2

(أصول وقواعد منهجية) الباب الثاني: قواعد في المنهج 2-2


الرئيسية - أصول وقواعد منهجية

 

القاعدة السابعة: وجوب التثبت في النقل عن الصحابة - رضي الله عنهم -:

من مقتضيات الموضوعية والأمانة العلمية التي أكدها ابن تيمية عند دراسة أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - الحرص على التثبت في كل ما ينقل من الأخبار، وليس من الديانة ولا من الموضوعية أن ترد الأخبار اليقينية المتواترة في فضلهم وعدالتهم، بأخبار واهية ومنقولات لا تثبت،ولا يفعل ذلك إلا الجهلة وأهل الأهواء الذين يتعلقون بكل خبر، ويتقصدون الإساءة والإفساد.

قال ابن تيمية في بيان منزلة عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه -: «والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنَّة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك ممَّا يوجب العلم القطعي بأنَّه من كبار أولياء الله المتقين، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يُدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده، ولا يُعرف كيف وقع، ويجعل لعثمان ذنباً بأمر لا يُعرف حقيقته؛ بل مثل هذا: الذين يعارضون المحكم بالمتشابه، وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ، الذين يبتغون الفتنة.

ولا ريب أنَّ الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمَّهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»[19].

ولـمَّا نقل الرافضي عن الشهرستاني بعض المنقولات الواهية في القدح في الصحابة، قال ابن تيمية ردَّاً عليه: «وقد تبيَّن أنَّ هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل[1] فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل، ولا يحتج به إلا من هو جاهل، وأنَّ هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال، وأنَّه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب، مع أنَّه ليس من علماء النقل والآثار، وإنـما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا تعتمد عليها أولو الأبصار.

ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب، فقد خرج عن جملة أولي الألباب، ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها، ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها، كالصحاح والسنن والمسانيد، والمعجمات والأسماء والفضائل، وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك، وكتب السير والمغازي، وإن كانت دون ذلك، وكتب التفسير والفقه، وغير ذلك من الكتب التي مَنْ نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضدَّ ما في النقل الباطل، وعلم أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأنَّ أصل كل فتنة وبلية هم الشيعة ومن انضوى إليهم..»[2].

وقال أيضاً: «ما علم بالكتاب والسُّنَّة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم، لا يجوز أن يُدفع بنقول بعضها منقطع، وبعضها محرَّف، وبعضها لا يقدح فيما عُلم، فإنَّ اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقنَّا ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف قبلنا، وما يُصدِّق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل، من أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في أمور مشكوك فيها، فكيف إذا عُلم بطلانها؟!..»[3].

وفي موضع آخر يُحدّد ابن تيمية الموقف مـمَّا يُنقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - من المثالب، فيقول: «ما يُنقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان:

أحدهما: ما هو كذبُ، إمَّا كذب كله، وإمَّا محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يُخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بين يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهم من الكذابين، ولهذا استشهد الرافضي بما صنَّفه هشام الكلبي في ذلك، وهو من أكذب النَّاس، وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف، وكلاهما متروك كذاب.

النوع الثاني: ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيه فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وعامَّة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قُدِّر من هذه الأمور ذنباً محقَّقاً فإنَّ ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنَّة، لأنَّ الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة:

منها: التوبة الماحية، وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم.

ومنها: الحسنات الماحية للذنوب، فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، وقد قال الله - تعالى -: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31].

ومنها: المصائب المكفرة.

ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكلِّ مدح ونفي كلِّ ذنب مـمَّن بعدهم من الأمَّة»[5].

ومن الأمثلة التي يحسن ذكرها في هذا المقام: الطعون التي كانت تنقل عن عثمان ابن عفان - رضي الله عنه -، حيث قال ابن تيمية في الذبِّ عنه: «ثبت في الصحيح: أنَّ رجلاً أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر،فقال: إنه قد فرَّ يوم أحد، ولم يشهد بدراً، ولم يشهد بيعة الرضوان، فقال ابن عمر: أما يوم أحد فقد عفا الله عنه، وفي لفظ: فرَّ يوم أحد فعفا الله عنه، وأذنب عندكم ذنباً فلم تعفوا عنه، وأما يوم بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على ابنته، وضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مكة وبايع عنه بيده، ويد النبي صلى الله عليه وسلم خير من يد عثمان[6].

فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلوه عيباً، ما كان منه عيباً، فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات، وهكذا عامة ما يُعاب به على سائر الصحابة هو إمَّا حسنة، وإمَّا معفو عنه»[7].

فهذه النصـــوص تــؤكد علــى ضــرورة البحث والدراسة فيما يُنقل عن الصحابة - رضــي الله عنهم - والتثبت في ذلك تثبتاً دقيقاً، كيلا يقع الإنسان في المكذوبات الكثــيرة، والتحـــريفات العــديدة، التي افتراها أهل الإفساد والفجور، وقد قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦].

القاعدة الثامنة: عدم تتبع زلَّات الصحابة - رضي الله عنهم -:

ذكر ابن تيمية قاعدة عظيمة في تقويم تاريخ الصحابة - رضي الله عنهم -، وهي أن يحكم على المرء بمجموع أعماله، وليس من العقل أبداً أن تنتقى الزلات ويتغافل عن الحسنات[8]!

قال ابن تيمية: «ولا ريب أنَّ الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، الذين عيَّنهم عمر، لا يوجد أفضل منهم، وإن كان في كل منهم ما كرهه، فإنَّ غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم، ولهذا لم يتولَّ بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة، ولا تولَّى بــعد عليّ خير منه، ولا تــولَّى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية - رضي الله عنه - كما ذكر النَّاس سيرته وفضائله.

وإذا كان الواحد من هولاء له ذنوب، فغيرهم أعظم ذنوباً، وأقل حسنات، فهذا من الأمور التي ينبغي أن تُعرف، فإنَّ الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير[9] ولا يقع على الصحيح، والعاقل يزن الأمور جميعاً: هذا وهذا.

وهؤلاء الرافضة من أجهل النَّاس، يعيبون على مَنْ يذمّونه ما يُعاب أعظم منه على من يمدحونه، فإذا سُلك معهم ميزان العدل: تبيَّن أنَّ الذي ذمُّوه بالتفضيل مـمَّن مدحوه»[10].

ويؤكد ابن تيمية هذه القاعدة بقوله: «.. وإنَّما يغلط مَن يغلط أنَّه ينظر إلى السواد القليل في الثواب الأبيض، ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض، وهذا من الجهل والظلم»[11].

القاعدة التاسعة: ضرورة الذبِّ عن أعراض الصحابة - رضي الله عنهم -:

من تمام المحبة والولاء للصحابة الكرام - رضي الله عنهم  أجمعين -: الدفاع عنهم، والذبُّ عن أعراضهم، وحماية حياضهم وأقدارهم، فالدفاع عنهم دفاعٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بطانته وخاصته، ودفاعٌ عن دين الإسلام، فهم حملته ونقلته.

قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بدَّ من الذبِّ عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل»[12].

ولهذا قال ابن تيمية في موضع آخر: «ولولا أنَّ هذا المعتدي الظالم [يعني: ابن المطهر] قد اعتدى على خيار أولياء الله وسادات أهل الأرض، وخير خلق الله بعد النبيين، اعتداءً يقدح في الدين، ويُسلِّط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين، لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله»[13].

القاعدة العاشرة: جمهور الصحابة - رضي الله عنهم - لم يدخلوا في الفتنة:

أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى أنَّ الخلاف الذي حصل بين الصحابة - رضي الله عنهم - في خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يدخل فيه جمهورهم؛ بل اعتزلوا الفتنة، وهذه مسألة في غاية الأهمية، إذ إن كثيراً من الناس يظنُّ أن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - انقسموا فريقين متصارعين، ولم يعتزل الفتنة إلا عدد قليلٌ منهم..!.

قال ابن تيمية: «.. وأمَّا الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في الفتنة»، ثم نقل عدداً من أقوال السلف في هذا الباب، ومنها قوله: «قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل، يعني: ابن عليَّة، حدثنا أيوب، يعني: السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مئة؛ بل لم يبلغوا ثلاثين».

ثم قال ابن تيمية عن هذا النص: «وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل».

ثم ساق شيخ الإسلام ابن تيمية نصوصاً أخرى، ختمها، بما رواه ابن بطَّة عن بكير بن الأشج قال: «أمَّا إنَّ رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم»[14].

وعند زعم الرافضي أنَّ المسلمين أجمعوا على قتل عثمان - رضي الله عنه - رد عليه ابن تيمية قائلاً: «هذا من أظهر الكذب وأبينه، فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله، ولا شاركوا في قتله، ولا رضوا بقتله.

أما أولاً: فلأن المسلمين لم يكونوا بالمدينة، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان، وأهل المدينة بعض المسلمين.

وأما ثانياً: فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان، لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان علي - رضي الله عنه - يحلف دائماً: إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، ويقول: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل. وغاية ما يقال: إنهم لم ينصروه حق النصرة، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان، حتى تمكن أولئك المفسدون. ولهم في ذلك تأويلات، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ، ولو علموا ذلك لسدوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة»[15].

القاعدة الحادية عشرة: الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -:

وبكل حال فحق الصحابة - رضي الله عنهم -: محبتهم وموالاتهم، والترضي عليهم، والإمساك عمَّا شجر بينهم، حتى لا يخوض الناس في أعراضهم، ويقعوا في الباطل الذي حرَّمه الله عليهم.

قال ابن تيمية: «.. والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد منهم - يعني: الصحابة - باطناً وظاهراً، وحسناته وسيئاته واجتهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته، فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام، فلهذا كان الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك - أو أكثره - كلاماً بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاماً بهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنَّة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنَّة، ورجل علم الحق قضى بخلافة فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)، فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره، فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة؟.

فمن تكلَّم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجباً للوعيد، ولو تكلَّم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله - تعالى - أو يعارض به حقَّاً آخر، لكان أيضاً مستوجباً للذم والعقاب»[16].

وقال أيضاً: «ولهذا كان من مذهب أهل السُّنَّة: الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منهم ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنهم ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً.

فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من النَّاس بغضاً وذمَّاً، ويكون هو في ذلك مخطئاً، بل عاصياً، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلَّم في ذلك، فإنهم تكلموا بكلام لا يُحبه الله ولا رسوله، إمَّا مِن ذمِّ مَن لا يستحق الذم، وإمَّا من مدح أمور لا تستحق المدح؛ ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف»[17].

وقال ابن تيمية بعد أن ذكر بعض ما ينقل من كلام الصحابة بعضهم في بعض، على تقدير صحته: «فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس؛ بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلا تكلَّم بما يُعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله. ولهذا أوصوا بالإمساك عمَّا شجر بينهم، لأنَّا لانُسأل عن ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهَّر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب بها لساني، وقال آخر: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]...»[18].

القاعدة الثانية عشرة: وقوع الصحابة - رضي الله عنهم - في الخطأ أو الذنب لا يمنع خيريَّتهم:

يؤمن أهل السنة بأن الصحابة - رضي الله عنهم - بشر يصيبون ويخطئون، وخطؤهم لا يمنع خيرتهم، والتزام هذا المنهج الوسط يجعل المنصف يضع أخطاءهم في موضعها الصحيح، ولا يسقطهم لخطأ عارض أو زلة عابرة.

قال ابن تيمية في سياق حديثه عن حرب الجمل: «ولكنَّ حرب الجمل جرت بغير اختياره ولا اختيارهم [يعني: علي من جهة، وطلحة والزبير من جهة ثانية] فإنَّهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتلة عثمان، فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخراً كما أقاموها أولاً، فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما، فحملوا دفعاً عنهم، وأشعروا عليَّاً أنَّهما حملا عليه، فحمل عليٌّ دفعاً عن نفسه، وكان كلٌّ منهم قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال، هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير، فإذا كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه: فلا كلام، وإن كان قد وقع خطأ أوذنب من أحدهما أو كليهما، فقد عرف أنَّ هذا لا يمنع ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة من أنَّهم من خيار أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنَّهم من أهل الجنَّة»[19].

القاعدة الثالثة عشرة: الصحابة - رضي الله عنهم - أعظم النَّاس اجتماعاً على الهدى:

قال ابن تيمية: «ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفِرَق تبيَّن له أنَّه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقاً على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هم خير الخــلق بشـــــهادة الله لهــــم بذلك، إذ يقـــول - تعالى -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعاً على الهدى، وأبعد عن التفرق والاخلاف، من هذه الأمَّة، لأنهم أكمل اعتصاماً بحبل الله، الذي هو كتابه المنزَّل، وما جاء به نبيه المرسل، وكل من كان أقرب إلى الاعتصام بحبل الله، وهو اتباع الكتاب والسُّنَّة، كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح، وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة..»[20].

القاعدة الرابعة عشرة: لم يقتتل الصحابة - رضي الله عنهم - لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام:

من القضايا المنهجية المهمة أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يقتتلوا بسبب اختلافهم في قواعد الإسلام، فدين الله - عز وجلَّ - محفوظ، وهم حملته ونقلته، ولو أنهم اختلفوا في أصول الإسلام لأصاب الأمة بلاء وشر، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - عصمهم من ذلك.

قال ابن تيمية: «.. والمقصود أنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلاً، ولم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام: لا في الصفات، ولا في القدر، ولا في مسائل الأسماء والأحكام، ولا في مسائل الإمامة، لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال، فضلاً عن الاقتتال بالسيوف؛ بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله، مثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد، مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره، مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله، مع إثباتهم للقدر.

ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقَدَر، ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر، ولا من يُكذِّب بعلم الله ومشيئته الشاملة وقدرته العامة وخلقه لكلِّ شيء، وينكر فضل الله وإحسانه ومنَّه على أهل الإيمان والطاعة، وأنَّه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة، وخصَّهم بهذه النعمة، دون أهل الكفر والمعصية ولا من يُنكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين، وأنَّه لا حول ولا قوة إلا به في كل ما دقَّ وجلَّ، ولا من يقول: إنَّ الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك، وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يُدخل إبليس وفرعون الجنَّة، ويدخل الأنبياء النار، وأمثال ذلك..»[21].

القاعدة الخامسة عشرة: لم يقتتل الصحابة - رضي الله عنهم - لاختلافهم في الإمامة:

لم يتنازع الصحابة - رضي الله عنهم - طلباً للحكم وتنافساً على السلطة، كما يصوِّر ذلك بعض الرافضة، وبعض أهل الأهواء والمستشرقين وأتباعهم. وهذه قاعدة مهمة جداً في فهم سياق الأحداث التاريخية.

قال ابن المطهر الرافضي: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلَّ على الإمامة في كل زمان»!.

فردَّ عليه ابن تيمية ردَّاً مفصلاً، قال فيه: «هذا من أعظم الغلط، فإنه  - ولله الحمد - لم يسلَّ سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة، فضلاً عن السيف، ولا كان بينهم سيف مسلول على شيء من الدين، والأنصار تكلَّم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم، كأسيد بن حضير وعبّاد بن بشر وغيرهما مـمَّن هو أفضل من سعد بن عبادة نفساً وبيتاً...

وإنما نازع سعد بن عبادة والحُبَاب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق، ولم يعرف أنَّه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة. وسعد وإن كان رجلاً صالحاً فليس معصوماً؛ بل له ذنوب يغفرها الله، وقد عرف المسلمون بعضها، وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم...

وأيضاً: فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة، فإنَّ أهل الجمل وصفين والنهروان، لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي، ولا كان معاوية يقول: أنا الإمام دون علي، ولا قال ذلك طلحة والزبير.

فلم يكن أحد مـمَّن قاتل عليَّاً قبل الحكمين نصب إماماً يقاتل على طاعته، فلم يكن شيء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها، لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعناً في خلافة الثلاثة، ولا ادِّعاءً للنص على غيرهم، ولا طعناً في جواز خلافة عليّ..»[22].

القاعدة السادسة عشرة: من ذكر ما عيب على الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يذكر توبتهم؛ كان ظالماً لهم:

من تمام الإنصاف الإشارة إلى أنَّه لم يعرف عن الصحابة - رضي الله عنهم - المكابرة والإصرار على الذنب والتمادي في الخطأ، ولم يستنكفوا من الاعتراف به والتوبة منه؛ بل كانوا رجَّاعين أوَّابين إلى الحق، ومن اقتصر على ذكر أخطائهم دون ذكر توبتهم كان ظالماً لهم.

قال ابن تيمية: « من ذكر ما عيب عليهم، ولم يذكر توبتهم التي بها رفع الله درجتهم، كان ظالماً لهم، كما جرى من بعضهم يوم الحديبية، وقد تابوا منها؛ بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مُكس لغُفر له، كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى طهَّره بإقامة الحد عليه[23]، وكذلك الغامدية بعده[24]، كذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره فقال: طهِّرني وأقم عليَّ الحد، فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين يعلمها حراماً، فكيف إذا أتى أحدهم الصغيرة أو ذنباً تأوَّل فيه ثم تبيَّن له خطؤه؟!.

وعثمان بن عفان - رضي الله عنه - تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها، ويظهر له أنها منكر، وهذا مأثور مشهور عنه - رضي الله عنه وأرضاه -.

وكذلك عائشة - رضي الله عنها - ندمت على مسيرها إلى البصرة، وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبلَّ خمارها.

وكذلك طلحة ندم على ما ظنَّ من تفريطه في نصر عثمان وعَلَى غير ذلك، والزبير ندم على مسيره يوم الجمل.

وعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ندم على أمور فعلها من القتال وغيره، وكان يقول:

لقد عثرت عثرة لا تنجبر

سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وكان يقول ليالي صفين: للَّه در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك، إن كان برّاً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إنَّ خطره ليسير.

وكان يقول: يا حسن. ما ظَنَّ أبوك أنَّ الأمر يبلغ إلى هذا، ودَّ أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة.

ولما رجع من صفين تغير كلامه، وكان يقول: لا تكرهوا إمارة معاوية، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها. وقد روي هذا عن عليّ - رضي الله عنه - من وجهين أو ثلاثة، وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر، ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل»[25].

القاعدة السابعة عشرة: العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية:

ذكر ابن تيمية قصة الحديبية ومخالفة بعض الصحابة - رضي الله عنهم - للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «والقصة كانت عظيمة، بلغت منهم مبلغاً عظيماً لا تحمله عامَّة النفوس، وإلا فهم خير الخلق، وأفضل النَّاس، وأعظمهم علماً وإيماناً، وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم، وهم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار.

والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية، لا بنقص البداية، وقد قصَّ الله علينا من توبة أنبيائه، وحسن عاقبتهم، وما آل إليه أمرهم، من علو الدرجات، وكرامة الله لهم، بعد أن جرت لهم أمور، لا يجوز أن يُظنَّ بغضهم لأجلها، إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.

وهكذا السابقون الأوَّلون: من ظنَّ بغضهم لأجلها - إذا كان الاعتبار بكمال النهاية كما ذُكر - فهو جاهل..»[26].

إلى أن قال يرحمه الله تعالى: «.. ومن علم أنَّ الاعتبار بكمال النهاية، وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مـمَّا كان عليه: علم أنَّ ما فعله اللَّه بعباده المؤمنين كان من أعظم نعم الله عليهم»[27].

- الباب الثاني: قواعد في المنهج 1-2

- الباب الثاني: قواعد في المنهج 2-2


 [1] (6/268).

[2] يعني: الشهرستاني.

[3] (6/369 - 370).

[4] (6/305).

[5] (5/81 - 83)، وانظر: (4/310  - 312 و 325) و (5/460 - 461) و (6/206 - 238).

[6] أخرجه البخاري: (5/15 و 98 - 99).

[7]  (6/238 - 239).

[8] أفردت في هذا الباب مصنفاً خاصاً بعنوان: (منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم).

[9] العقير: الجريح، أفاده المحقق.

[10] (6/150 - 151).

[11] (6/367).

[12] (6/254).

[13] (7/292).

[14] (6/236 - 237).

[15] (4/322 - 323).

[16] (4/311 - 312).

[17] (4/488 - 449).

[18] (6/254).

[19] (6/363).

[20] (6/364 - 365).

[21] (6/336 - 337).

[22] (6/324 - 327)، وانظر ما بعدها إلى: (ص 345).

[23] قال المحقق: حديث إقامة الحد على ماعز بن مالك جاء من وجوه كثيرة، وهو في البخاري ومسلم، ولكن النص على أنَّه تاب وأنَّ الله قبل توبته جاء في حديث عن سليمان بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - في: مسلم (3/1321 - 1323)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: (لقد تاب توبة لو قُسمت بين أمَّةً لوسعتهم).

[24] أخرجه: مسلم (3/1323 - 1324)، وأبو داود (4/212 - 213).

[25] (6/207 - 209).

[26] (8/412 - 413).

[27] (8/416).

أعلى