باكستان وأمريكا.. هل حان الفراق؟
لم تبتعد الطريقة التي تعاملت بها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مع الحكومة الباكستانية كثيراً عن أسلوبها الذي اعتمدته مع الدول الإسلامية بصفة عامة، والذي تميز بأمرين: هما الاستعلاء والاستتباع للإرادة الأمريكية، والتأكيد على عدم وفاء الطرف الآخر بالتزاماته حيال علاقة منحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية خدمات أو أموالاً أكثر مما يستأهل الشريك!
وفي الحالة الباكستانية، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حرص مؤخراً على تذكير باكستان بأن «إسلام آباد لم تعط الولايات المتحدة مقابل المليارات التي قدمتها لها سوى الأكاذيب والخداع»، وهي عبارة فاقت كل مستويات الانتقادات الدبلوماسية المعتادة، وخرجت كثيراً عن المألوف، غير أنه لم يكن بعيداً عن لغة اعتمدها الرئيس الأمريكي، وعبر بها عن استياء بلاده مما اعتبره تجاهل باكستان لدورها في مكافحة الإرهاب.
لكن في الواقع لم يكن ما دفع الرئيس الأمريكي إلى التصعيد مع باكستان هو وحده المنطق «التجاري» الذي يتعامل به حتى مع حلفائه الأقربين في الاتحاد الأوربي، فثمة دوافع إستراتيجية واضحة، ومنها ما جعل واشنطن تتحول إستراتيجياً نحو الهند بدرجة أكبر بعدما تراجعت أهمية النظام الباكستاني لديها كثيراً في الآونة الأخيرة من جهة، وبعدما تضاعفت حاجة الأمريكيين أكثر إلى نيودلهي من جهة أخرى.
غضب واضح حيال باكستان أظهرته واشنطن على لسان ترمب، الذي استهل العام الميلادي الحالي بتغريدة صادمة تقول: «إن الولايات المتحدة أعطت باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الـ15 الأخيرة، في حين لم يعطونا سوى أكاذيب وخداع معتقدين أن قادتنا أغبياء»، «انتهى الأمر».. بهذه العبارة لخص ـ متوعداً ـ اتهامه لباكستان بإيواء «إرهابيين» تتعقبهم بلاده التي تحتل أفغانستان منذ نحو عقدين. حيث يتوقع أن توقف إدارته ـ وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز ـ مبلغ 255 مليون دولار من المساعدات المتأخرة أساساً لإسلام آباد بسبب ذلك.
الدور الوظيفي لباكستان في السياسة الأمريكية
بادي الرأي أن العلاقة الأمريكية الباكستانية تأسست على قواعد مصلحية متعددة، داخل إطار محدد يتعين عدم إغفاله، وهو أن الولايات المتحدة تضع في صدر اهتماماتها الدولية قضية الدين؛ فهي تنظر إلى باكستان على أنها دولة مسلمة تتوجب إدارة العلاقة معها عبر الجيش أولاً، كما ينبغي ألا تسمح تلك العلاقة أن تجعل من باكستان دولة قوية، وفي هذا السياق ترى واشنطن نفسها مضطرة لمنع أي انخراط لتلك الدولة الكبيرة نسبياً في أحلاف «إسلامية»، كما ترى ضرورياً من جانب آخر الحؤول دون نمو هذه الدولة اقتصادياً وسياسياً للحد الذي يجعلها تمثل خطراً على المصالح الأمريكية أو تجعلها قادرة على الخروج من المدار الأمريكي.
وفيه أيضاً، أن الولايات المتحدة معنية بعدم خسارة علاقتها مع الهند، فيما تقدم مساعدات لعدوتها اللدود باكستان، ومدفوعة إلى تطوير علاقتها بنيودلهي للمستوى الذي يحقق قدراً من الاحتواء لها.
وفي داخل هذا الإطار، تأسست العلاقة على حاجة الولايات المتحدة لحليف إقليمي مهم أدارت من خلاله معركة تفكيك الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي بحرب أفغانستان، وأسندت إليه مهمة تحجيم نشاطات الفصائل الأفغانية لاحقاً بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، وتعاونت معه لاحقاً في الإطاحة بحركة طالبان من سدة الحكم الأفغاني في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، واستمرت تلك العلاقة مع تعقب الولايات المتحدة للمسلحين في منطقة وزيرستان القبلية بمحازاة الحدود الباكستانية الأفغانية.
تراجع العلاقات الأمريكية الباكستانية
بجرد حساب بسيط للطرفين، يمكن استنتاج أسباب تراجع العلاقات الأمريكية الباكستانية في الآونة الأخيرة، وحتى قبل وصول الرئيس الأمريكي إلى منصبه في يناير 2017م، حيث لم يحرص الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على تطوير هذه العلاقة وأبقاها في حدها الأدنى الذي وصلت إليه مع تجديد واشنطن اتهاماتها الدورية لباكستان بإيواء إرهابيين.
من زاوية واشنطن
الأمر لا يتعلق باهتزاز ثقتها بالنظام الباكستاني بعد ممارسته «لعبة مزدوجة» - مثلما أطلقت عليها السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي - في تحالفه مع الولايات المتحدة في «حرب الإرهاب» المفترضة، فإسلام آباد لم تأتِ ببدعة في تعاطيها مع الملف الأفغاني، فأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون كلاهما لا يشكان قيد أنملة في علاقة الجيش الباكستاني بطالبان، ولا يجهلان الطريقة التي نشأت بها حركة طلاب العلم الأفغانية (طالبان) التي مثلت ثقباً أسود ابتلع القسم الأكبر والقوى الضاربة للفصائل الأفغانية لاسيما البشتونية منها، إلا إنها تأخذ باعتبارها صعود قوة طالبان الآن بعد تلقيها دعماً من جهات دولية عديدة تريد أن توقع الولايات المتحدة في مأزق عسكري في آسيا.
أبداً هي لم تتفاجأ بعلاقة الباكستانيين بطالبان؛ فهي تدرك أن هذه العلاقة مهمة للطرفين، وكذلك الأمر عينه بالنسبة لشبكة حقاني ذات التاريخ العريق مع الاستخبارات الباكستانية، وتنظيمات أخرى دولية. ليست المسألة هي ثقة قد تزعزعت، وإنما وظيفة قد أديت، وحاجة قد تراجعت.
فالأمريكيون يدركون جيداً أن تطوير علاقاتهم بالهند يمر بالضرورة عبر تخفيض علاقاتهم بباكستان، الخصم التقليدي لنيودلهي، وأن حاجة الأمريكيين لباكستان لم تعد كالسابق في ظل بروز الصين كأكبر عدو الآن للولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي، واحتمال حلوله أولاً في قائمة الخصوم العسكريين أيضاً بعد تطوير بكين لصناعاتها العسكرية بوتيرة عالية.
والهند التي بزغت من جديد على خريطة التجارة العالمية، بعد تربعها على قمة معدلات النمو في العالم، حيث وصلت معدلات نمو الاقتصاد الهندي السنوية إلى 7,2 % في الربع الأخير من العام الماضي، وفقاً لفاينانشال تايمز (1/3/2018م)، لتصبح بذلك الدولة الأولى في العالم متفوقة على الصين، غدت أكثر أهمية للولايات المتحدة المعنية باحتواء الصين، والشراكة الاقتصادية مع حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي التي تسعى لأن تكون الولايات المتحدة الدولة الأكثر استثماراً في الهند، وهي تمضي بخطة طموحة لجذب تريليونات الدولارات للاستثمار تحت شعار «صنع في الهند»، أضحت كذلك بالغة الأهمية بالنسبة لواشنطن.
أيضاً، في ظل رغبة نيودلهي في تنويع مصادر تسليحها التي تعتمد في معظمها على الأسلحة الروسية والمحلية، وفي ظل مساعيها لتضييق الهوة بين قواتها والقوات الصينية من حيث التقنية العسكرية وحجم السلاح، والتي تتفوق فيها بكين على دلهي، وبعد أن أصبحت الهند «شريكاً دفاعياً رئيساً» للولايات المتحدة الأمريكية بعد اتفاق أبرم أواخر حكم الرئيس الأمريكي السابق أوباما، وسمح لكلا الجانبين بالاستخدام المتبادل للقواعد العسكرية لأغراض الصيانة وإعادة التزود بالإمدادات، وفي ظل اعتزام واشنطن إقامة حلف ثلاثي بينها وبين الهند واليابان لاسيما على الصعيد البحري والربط الإقليمي والأمن السيبراني، وكذلك في ضوء النمو السكاني الهائل للهند والذي اقترب من تبوء مكانة الدولة الأكبر في عدد السكان قريباً، بما يجعلها سوقاً تجارية هائلة ولاعباً كبيراً في المنطقة؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية تبعاً لكل هذا معنية بتطوير علاقاتها كثيراً بالهند على حساب باكستان.
باكستان التي باتت تعتبرها واشنطن عبئاً عليها على الصعيدين الاقتصادي والأمني، علاوة على المخاوف التقليدية التي تعتري واشنطن عادة من الدول الإسلامية وشعوبها، وتجعلها أكثر حذراً وقلقاً من إقامة شراكة حقيقية يستفيد منها الطرفان بشكل متوازن.
من زاوية إسلام آباد
فإن الولايات المتحدة لم تكن يوماً حليفاً جيداً لها؛ فإليها ينتهي الاتهام في عملية اغتيال الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق، والتي تضافرت شواهد عديدة على ضلوعها في قتله قبل ثلاثين عاماً، وهي التي قصرت تعاونها مع الجانب الباكستاني على الجانب العسكري وحده، حيث اعتبرت باكستان مجرد سوق لبيع السلاح الأمريكي القديم، ولم تفدها شيئاً يذكر على المستوى الاقتصادي، كما أنه غير بعيد عن الذاكرة الجمعية الباكستانية قسوة العقوبات الأمريكية التي فرضت على باكستان عقب إجرائها تجارب نووية كرد فعل تحذيري بعد أسبوعين فقط من إجراء نيودلهي خمس تجارب نووية، حيث تعاطت واشنطن بخفة مع الهند فيما تعاملت مع باكستان بقسوة ملحقة بها عقوبات أقسى مما فرضته على إيران «العدوة» على سبيل المثال!
أصيبت باكستان بخيبة أمل عندما أحجمت واشنطن عن تسليحها أثناء حربها مع الهند أواسط ستينات القرن الماضي، وأخرى حين لم ترمِ بثقلها خلف باكستان في حرب استقلال بنغلاديش والاضطرابات التي سبقتها مع بداية سبعينات القرن الماضي، ما أدى إلى انفصال بنغلاديش عن باكستان بدعم قوي فعال من الهند والاتحاد السوفيتي في مقابل دعم أمريكي هش، وثالثة إذ لم تساند واشنطن إسلام آباد في قضيتها العادلة حول كشمير التي تحتل الهند ثلثيها. وأصيبت بخيبة أمل رابعة حيثما ارتضى رئيسها الجنرال برفيز مشرف فتح مطارات بلاده وقواعدها للقوات الأمريكية، والتي استباحت سماء باكستان وقصفت أهدافاً داخل أراضيها باسم مناهضة الإرهاب في أعقاب أحداث 11 سبتمبر وأثناء حربها على أفغانستان، ما أسفر ـ وفقاً للتقديرات الروسية ـ عن مقتل 22 ألف مدني باكستاني ونحو سبعة آلاف جندي باكستاني، خلال «الحرب على الإرهاب»، من دون أن يكون لذلك أي مردود إيجابي على العلاقات الأمريكية الباكستانية، بل بالعكس فقد تراجع الاقتصاد الباكستاني كثيراً إثر ذلك، وكادت البلاد أن تسقط في الفوضى نتيجة الأزمات الاقتصادية المتعاقبة التي لم يعمل الحليف الأمريكي على حلها، والتي يقدر الخبراء الروس خسائرها بنحو 118 مليار دولار تكبدتها باكستان بسبب تعاونها مع الأمريكيين في تلك الحرب.
باكستان نظرياً تُعد حليفة للولايات المتحدة، غير أن هذه «الصداقة» ما زادت باكستان في الحقيقة إلا رهقاً؛ فلم تزل واشنطن تنظر لباكستان على أنها دولة مسلمة يتعين أن تكون تابعة لها، ويتعين كذلك ألا تعد الولايات المتحدة رافعة اقتصادية لباكستان، ولهذا اقتصرت مساعدات واشنطن البالغة نحو 33 مليار دولار على مر العقود الماضية على شراء ذمم الجنرالات والتحكم بهذه الأمة العريقة من خلال الجيش، إضافة إلى إبرام اتفاقات عسكرية مجحفة لبيع السلاح الأمريكي القديم إلى هذا البلد واستباحة قواعده العسكرية، من دون أن يكون لصداقتها ومساعداتها تلك أي انعكاس تنموي على باكستان التي ظلت فقيرة تعاني الاضطرابات المتوالية، وبحيث أمست باكستان الدولة الوحيدة التي استبيحت سماؤها وانتهكت سيادتها بعد امتلاكها مباشرة سلاحاً نووياً، وهي مفارقة عجيبة لم تتكرر خلال التاريخ المعاصر كله!
وبمقارنة بسيطة بين «الصديقة» باكستان، و«العدو» الإيراني، للولايات المتحدة الأمريكية (في الظاهر!)؛ فإنه يلحظ أن باكستان تضررت كثيراً بمساعدتها للولايات المتحدة في غزو أفغانستان؛ ففقدت معظم حلفائها في هذا البلد، وتقلص نفوذها فيه، واتهمت بالأخير بدعم الإرهاب بسبب جهودها المضنية لمعاكسة السياسة الأمريكية واستعادة جزء من نفوذها وأمنها القومي في أفغانستان المجاورة بعد أن تعاظم نفوذ الإيرانيين والأمريكيين والروس والهنود فيها على حساب باكستان. ويلاحظ كذلك أن واشنطن غدت حجر عثرة أمام استعادة باكستان لنفوذها هناك، على عكس إيران التي سمحت لها واشنطن بالتغلغل في إقليم هيرات الأفغاني وإنشاء العديد من المنشآت الإعلامية والتعليمية والصحية وغيرها لبسط نفوذها في هذا الإقليم المتاخم لإيران خصوصاً وبعض الأقاليم الأخرى ومنها كابوا عموماً، بل سمحت لطهران بنسج علاقة مع حركة طالبان الأفغانية من دون أن توصم مع هذا بدعم الإرهاب أو تتخذ إجراءات «حقيقية» ضدها.
وبمقارنة بين «الصديقة» باكستان، والهند التي هي بالعموم أقرب للروس من الأمريكيين تسليحاً واقتصاداً وتعاوناً بصفة عامة؛ فإن الكفة لا تميل أيضاً ناحية الباكستانيين؛ فالعلاقات الأمريكية الهندية الاقتصادية والعسكرية ـ كما تقدم ـ في صعود مستمر وبوتيرة أعلى منذ وصول رئيس الوزراء الهندي اليميني المتطرف ناريندرا مودي إلى سدة الحكم قبل أربعة أعوام، وتضاعفت مع وصول الرئيس الأمريكي اليميني دونالد ترمب إلى منصبه، وكلاهما يحمل توجهاً وأجندة معادية للمسلمين.
باكستان لم تحصد إلا قتاداً من علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا؛ فلم يكن غريباً أن ترد إسلام آباد على اتهامات المسؤولين الأمريكيين بالقول على لسان السفيرة الباكستانية لدى الأمم المتحدة، مليحة لودهي التي قالت عقب الاتهامات الأمريكية إن «بلادي مستعدة لإعادة النظر في تعاونها مع الولايات المتحدة ما لم يتم تقدير هذا التعاون». وأن تستدعي وزارة الخارجية الباكستانية السفير الأمريكي في إسلام آباد «ديفيد هيل» لإبلاغه احتجاجها على اتهامات ترمب وخيبة أملها من هذه الاتهامات، التي حذرت من أنها تقوض الثقة بين البلدين.
والحاصل أن باكستان لم تكن لتعبر عن غضبها بهذه الطريقة، وعن خيبة أملها تلك، إلا حالما أدركت أن الخرائط تتبدل وأن عليها أن تفكر بطريقة مختلفة عن الماضي؛ فمساعي روسيا لاحتلال مكانة الاتحاد السوفيتي السابقة، ومد نفوذها العسكري إلى حدود أوربا الشرقية مجدداً، وتقزيمها للاتحاد الأوربي، وفرض إرادتها على الأوربيين في المسألة الأوكرانية وضم القرم ونفوذها الصاعد في سوريا وتحالفها مع إيران لإقامة محور ممتد حتى البحر المتوسط، ومحاولاتها لجذب تركيا بعيداً عن الناتو، قد جعل ذلك كله منها لاعباً يستحق أن يؤخذ التحالف العسكري معه بعين الاعتبار، وهو ما شرعت إسلام آباد في النظر إليه جدياً.
إسلام آباد عمدت إلى تجسير علاقتها بروسيا، وشرعت في تنويع مصادر تسليحها بما اشتمل على أسلحة روسية، مثل ابتياع باكستان أربع طائرات مروحية هجومية روسية بالإضافة إلى شراء محركات روسية لمقاتلات سلاح الجو الباكستاني من طراز جيه إف-17 التي يتولى الجيش الباكستاني تجميعها على الأرض الباكستانية. وسعت إلى محو آثار حقبة الحرب الأفغانية التي كانت فيها باكستان عدواً مباشراً للسوفيت، مثلما قال خورام داستجير خان وزير الدفاع الباكستاني: «هذه فرصة، على البلدين تجاوز الماضي من أجل فتح باب المستقبل».
وهذا في الحقيقة لم يكن إلا بعد إدراك موسكو أن ثمة فراغاً خلفه فتور العلاقات الأمريكية الباكستانية، وهو بالضبط ما فعلته موسكو البراغماتية الجديدة مع تركيا التي تنتمي إلى حلف الناتو، والذي خذلها بدوره حين سحب العديد من صواريخ باتريوت من الأراضي التركية في أعقاب إسقاط سلاح تركيا الجوي للطائرة العسكرية الروسية التي اخترقت الحدود التركية، وقد فتحت روسيا ذراعيها لباكستان الغاضبة من الأمريكيين تماماً مثلما فعلت مع الأتراك.
أما الصين فقد سعت هي الأخرى لملء هذا الفراغ لكن عبر شراكات يغلب الاقتصاد عليها، لاسيما بعد بروز أهمية باكستان أكثر بالنسبة للصين (بعد الرفض الهندي لمرور طريق الحرير عبرها)، لتأمين طريق الحرير البري إلى أوربا عبر باكستان، ولإقامة الشراكة الصينية الباكستانية في تنفيذ مشروع تطوير ميناء جوادر العملاق المطل على بحر العرب بالقرب من مضيق هرمز، والذي يعد الميناء الأقرب للصين نفسها في تجارتها الغربية من موانيها الشرقية.
كذلك؛ فإن أهمية باكستان قد تضاعفت بالنسبة لتركيا التي خرجت من بعد فشل الانقلاب العسكري بها أكثر حاجة إلى نسج تحالفات جديدة يمكنها الاستعاضة جزئياً عن حلف الناتو.
وثمة اندفاع تركي باكستاني، كلا الطرفين باتجاه الآخر بشكل واضح، خصوصاً في مجال الصناعات العسكرية، فعلاوة على الصفقة الباكستانية التركية لشراء 30 طائرة مروحية من طراز أتاك تي 129 ـ التي قادها رئيس وزراء باكستان الطيار شاهد خاقان عباسي بنفسه في سماء إسطنبول ـ و4 سفن حربية تركية من طراز إيه دي إيه، واعتزامها شراء 4 سفن حربية أخرى، وعمل هندسة تقنيات الدفاع التركية حالياً على مشروع تصنيع أكبر سفينة في باكستان والتي تزن 17 ألف طن، وتطوير سفينة «أغوستا بي90، وعلاوة على عرض وزير الخارجية الباكستاني خواجه محمد آصف على تركيا وأذربيجان إقامة مجمع للصناعات العسكرية، لتعزيز التعاون بين الدول الثلاث في منتجات الدفاع؛ فإن الجانبين (الباكستاني والتركي) يشهدان تقارباً لافتاً في الصعيد الاقتصادي حيث زادت التجارة البينية بينهما بنسبة تبلغ نحو 39% العام الماضي، وثمة تقارب آخر في الصعيد السياسي شجع الأتراك على طرح فكرة الوساطة بين باكستان والهند في المسألة الكشميرية (وهو ما لم تقم به الولايات المتحدة الأمريكية خلال سبعين عاماً بشكل جدي مع باكستان «الصديقة»!)، وهو ما رحبت به إسلام آباد ووجهت شكرها للأتراك عليه. هذا الاندفاع تحتاجه الدولتان بشكل متسارع لتفادي تحديات عديدة، اقتصادية وإستراتيجية، ولا يغيب عن صناع القرار في واشنطن أن تقارباً متصاعداً على هذا النحو قد يفضي إلى نقل تقنية نووية من باكستان إلى تركيا في مقابل ما تعزز عسكرياً من خلال اتفاقات الشراكة في الصناعات العسكرية المتطورة، لكنه مع هذا يبدو حائراً بين استحقاقات الإستراتيجية وأطماع البراغماتية الترمبية.
لاقت باكستان إذن بغيتها في ترحيب صيني روسي تركي بتطوير علاقاتها معهم في أعقاب التوتر الحاصل في علاقة إسلام آباد بواشنطن، والذي أدركت فيه الأخيرة أن محوراً يتشكل بالفعل على إثر إعلان الرئيس الأمريكي ترمب عن إستراتيجيته في أفغانستان؛ فالمشكلة الأبرز التي أقلقت واشنطن هي أن كلاً من الصين وروسيا وباكستان بالفعل يدعمون عدوتها طالبان، ويريدون تحويل هذا البلد الفقير إلى مستنقع للأمريكيين مثلما كان للاتحاد السوفيتي إبان غزوه لأفغانستان أواخر سبعينات القرن الماضي، وبحسب ما رجحته الكاتبة الروسية بولينا تيخينوفا في تحليل لها نشره موقع فاليو ووك الأمريكي؛ فإن «باكستان في طريقها لتشكيل جبهة موحدة مع تركيا والصين وروسيا رداً على إستراتيجية الرئيس الأمريكي في أفغانستان، وأن البداية كانت بإعلان إسلام آباد عن سفر وزير خارجيتها، خواجه آصفي، إلى بكين وموسكو وأنقرة لإجراء محادثات لإيجاد حل للحرب الأفغانية».
هذا إن اكتملت أركانه سيغير حقيقة الوضع في آسيا كثيراً، وسيفضي إلى إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية من جديد. وسيعيد توازنات العالم بشكل دراماتيكي ستحصد من خلاله واشنطن ثمار علاقاتها المتعالية على حلفائها، وستدفع أثمان شراكاتها المجحفة دوماً مع شركائها.