لقد اتّبعت واشنطن إستراتيجية إنهاك لتدمير الدولة القومية العربية والإسلامية التي لا تُساير إستراتيجيتها ولا تُحاكي خطابها الاستعماري، وبدأت ذلك بسلسلة إجراءات قمعية كان أبرزها دعم الأقليات باعتبارها جيوبًا وقواعد للخيانة والتعاون الأمني والإشغال السياسي ف
دائمًا في العالم الإسلامي لدينا إثنيات فكرية مُشوّهة تشكَّلت بفعل عوامل التعرية السياسية التي استهدفت المنطقة منذ نهاية الإرث الحضاري والسلطوي العثماني الذي كان يحتكم إلى مظلة الهوية الإسلامية في بَسْط النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط والمنطقة عقب الحرب العالمية الأولى؛ التي سجَّلت نهاية الدولة العثمانية، وبداية تقسيم المنطقة جغرافيًّا تمهيدًا لتجزئتها إلى مشاريع سياسية وسلطوية مختلفة كانت استثمارًا فريدًا للهيمنة عليها وإضعافها، وقتل روح الوحدة والهوية فيها؛ تمهيدًا لحملة جديدة تهدف لإخضاع المنطقة بعد مرور أكثر من 800 عام على نهاية الحملات الصليبية على بلاد الشام.
تُعدّ الهوية الجديدة للحملات الصليبية خليطًا من الأطماع الرأسمالية والكراهية الدينية والإمبريالية الغربية التي تُفسَّر دائمًا في سياق التفوق الحضاري للعِرْق الأبيض على بقية الشعوب، لكنَّ سيادة اليهود المالية في العقود الأخيرة جعلتهم جزءًا من هذه العملية التي نشأت برعاية المحافظين الجدد منذ ستينيات القرن الماضي.
كان دعم الدولة العبرية منذ نشأتها في سياق الامتداد الاستعماري للغرب في المنطقة، واعتبارها قاعدة عسكرية متقدّمة يشرف عليها مجموعة من اليساريين اليهود؛ لتلعب دور الردع المتقدّم الذي يمنع أيّ تحشيد إسلامي أو عربي يُناهض نَهْج الاستعمار الجديد.
ولكن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م -التي إلى يومنا هذا لا يُوجد يقين مطلق بشأن هوية مَن يقف خلفها-، استثمرتها الإمبريالية المسيحية اليهودية للإفصاح عن أهمّ مشاريعها، وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو بترجمته البشعة التي عبَّرت عنها مستشارة الأمن القومي الأمريكية السابقة، كونداليزا رايس، «مشروع الفوضى الخلاقة»، والهدف الأبرز منه كان تدمير الدولة القومية، وتحويل النطاق الجغرافي المحيط بالدولة العبرية إلى أرض نزاعات وعمليات استنزاف دائم يُحرّك ذلك الحرب على «الإرهاب»، ومنع التوسع الإيراني، وكذلك تحييد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة؛ باعتبارها منطقة مصالح أمريكية.
عقب هجمات 11 سبتمبر 2001م التي تم إلباسها ثوبًا إسلاميًّا متطرفًا، ألقى الرئيس الأمريكي جورج بوش خطابًا أعلن فيه رسميًّا حملته الصليبية على المنطقة في تكرار لحالة التحشيد التي أطلقها بابا الكاثوليك أوربان الثاني من مجمع كليرمونت بفرنسا عام 1095م؛ لجمع المسيحية الصليبية خلف رايته في حملة عسكرية تستهدف القدس المحتلة، وقد كان خطاب أوربان الثاني يحمل نفس المعاني الذي كرَّرها بوش الابن؛ إذ استهدف «تأمين الحجاج المسيحيين»، ومحاربة المتطرفين المسلمين، وحماية المقدسات منهم، والبحث عن ثروات في الشرق، وتوسيع نفوذ الكنيسة.
لكن الخطاب الأمريكي أصبح أكثر تملُّقًا للعالم الجديد؛ فقد أوجدت عقودٌ من الاستعمار والتقسيم للمنطقة إثنيات فكرية وسياسية أكثر قبولًا لخطاب البيت الأبيض الذي استهدف «الإرهاب الإسلامي»، وحماية الأقليات، وهي بمفهوم آخر جيوب الخيانة التي زُرِعَت منذ عقود في حواضن العالم الإسلامي، وكذلك ما يصفونها بالمصالح الغربية، والمعنى الحقيقي لها هو تشريع سرقة ونهب ثروات المنطقة عبر شركات متعددة الجنسيات تعمل تحت مظلة الجيش الأمريكي.
عَنْوَن بوش خطابه بـــ«الديمقراطية»، لكنّه أراد به فرض الهيمنة الأمريكية، لذلك عَقَّب الباحث العراقي عادل بكوان على خطاب بوش قائلًا: «كانت أبرز أهداف «النظام الأمريكي المحافظ» هو استهداف الدولة القومية تحت ذرائع، مثل محاربة الطغاة، وحماية حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، وتهيئة الظروف في كل بلد إسلامي لمحاربة الإرهاب، ووفقًا لهذه النظرية العالمية، بالنسبة للمحافظين الجدد، يُنظَر للديمقراطية على أنها نشاط قائم على القِيَم لا على المصالح الحصرية. ولا يُخْجلهم التفاخر بأطروحة التفوق الأخلاقي للولايات المتحدة، المتجسِّدة في رسالتهم الحضارية التي تُحمِّلهم مسؤولية تاريخية في إدارة الاتجاهات الرئيسية للعالم. وهكذا، يصبح تدخُّل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية لأيّ دولة قاعدةً لا استثناءً. لذلك وجَّه بوش الابن خطابه إلى الشرق الأوسط قائلاً: «ستُّون عامًا من التساهل والتنازلات من جانب الدول الغربية تجاه الشرق الأوسط المحروم، لم تنجح في احتواء التهديدات الصادرة من المنطقة».
وفي 26 فبراير 2003م، وخلال اجتماع في معهد أمريكان إنتربرايز، وهو مركز أبحاث للمحافظين الجدد، تناول بوش الابن مسألة إعادة تنظيم الشرق الأوسط بوضوح. وأطلق على هذه العملية اسم «الشرق الأوسط الكبير»، وهي لا تشمل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية البالغ عددها 22 دولة فحسب، بل تشمل أيضًا دولًا أخرى مثل إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، ورسم خارطة «إسرائيل» الكبرى.
ولتبرير مبادرته؛ صرّح الرئيس بأنه «ما دام الشرق الأوسط مكانًا للاستبداد واليأس والغضب، فسيستمر في إنتاج أفراد وحركات تُهدِّد أمن الولايات المتحدة وحلفائها. ولذلك، تنتهج أمريكا إستراتيجية استباقية لتعزيز الحرية في الشرق الأوسط الكبير».
من جهته، لخَّص بول وولفويتنز إستراتيجية الإمبريالية الصليبية التي تعاني بسببها الأمة الإسلامية منذ عقود بالقول: «إن الطريق إلى القدس يَمُرّ عبر بغداد»، ولا شك أن تشابه الخطاب الاستعماري بين إيران وواشنطن كبير جدًّا؛ إذا ما قارنا مقولة وولفيوتنز بخطاب الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني حسن نصر الله الذي قال ذات يوم: «إن الطريق إلى القدس يَمُرّ عبر القلمون والزبداني وحمص».
لقد اتّبعت واشنطن إستراتيجية إنهاك لتدمير الدولة القومية العربية والإسلامية التي لا تُساير إستراتيجيتها ولا تُحاكي خطابها الاستعماري، وبدأت ذلك بسلسلة إجراءات قمعية كان أبرزها دعم الأقليات باعتبارها جيوبًا وقواعد للخيانة والتعاون الأمني والإشغال السياسي في كل دولة، وشاهدنا ذلك مع الأكراد في العراق، والمسيحيين في السودان، والأقباط في مصر، ثم استهدفت بإنهاك اقتصادي وحصار استمر لعقود بني عليه الكثير من العقبات؛ أولها الانهيار الاجتماعي، وتفشّي الفقر والتجهيل الممنهج، وتدمير بِنْية التعليم والهوية الحضارية للمجتمع، ثم تبدأ مرحلة جديدة عبر تشكيل ميليشيات مسلحة، كما نشاهد اليوم في السويداء بسوريا مع الميليشيات الدرزية التي تحتمي بالطائرات الحربية الصهيونية.
لقد أُنْهِك الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعدة مسارات؛ لتدمير وحدته الحضارية والعرقية والدينية من خلال الدولة القومية منعًا لإيجاد بديل سُنّي يقود هذه المنطقة؛ من خلال ابتداع الدولة القومية التي استُخدمت في تصارع القوى الكبرى في ستينيات القرن المنصرم لتصبح متقلبة ما بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي وتضع بين فكيها الهوية العربية والإسلامية بصفتها روحًا غريبة متطرفة لا تناسب مشاريع الاستيطان السياسي الحديثة.
وخلال العقدين الماضيين، بدأت الإمبريالية الغربية بتمزيق هذه الكيانات واحدًا تلو الآخر؛ تمهيدًا للمشروع الأكبر، وهو سيادة «إسرائيل» الكبرى التي وصفها ذات يوم الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بأنها أرخص قاعدة عسكرية أنشأتها الولايات المتحدة.
تم تدمير الدولة القومية في ليبيا والسودان والعراق واليمن ولبنان، ولا تزال الإدارات الأمريكية المختلفة تواصل معركتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير في مخطط لن تنجو منه دولة تقف في طريق هذا المشروع.
لقد أنشأت هياكل قومية لتمزيق وحدة الحاضنة العِرْقية والدينية، والحفاظ على مصالح المنظومة الغربية لامتداد إرث الاستعمار. ونجحت في ترك إرث من الصراعات الطائفية لا تزال منطقتنا تعاني منها إلى يومنا هذا؛ بسبب البدعة السياسية الإنجليزية القديمة «فَرِّق تَسُد».
لكن رغم الجهود الأمريكية الضخمة لاستكمال هذا المشروع؛ لا يزال يُواجه حالةً من المنافسة الإقليمية التي تَستنزف مُقدّراته العسكرية؛ من خلال نزاع قديم الأزل بين الدولة التركية والمشروع الإيراني في مواجهة مشروع «إسرائيل» الكبرى الذي توسَّع على حساب إرث من الفشل العربي في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، لم يُسْفِر استخدام الولايات المتحدة للأكراد ضد الأقلية العلوية في سوريا إلا عن إثارة غضب تركيا، وخلق أزمة ثقة في العلاقات التركية الأمريكية؛ أجبرت تركيا على قيادة مشروع يستأصل النفوذ العسكري للأكراد في الشمال السوري، وحرَّكها نحو دعم المعارضة السورية دون قيود أو شروط للنجاة من شَرَك الشّرّ الذي يُضيِّق الخناق حولها برًّا وبحرًا.
لكن رغم ذلك ستواصل القوى الغربية استخدام هذه الإستراتيجيات للعمل على تآكل أيّ حشد ينتمي للبُعْد العِرْقي والديني المصادم مع الغرب واليهود في المنطقة سواء لأهداف طويلة الأجل أو قصيرة الأجل.
وفي سياق هذا التصور، سعت واشنطن إلى تعزيز أدوات الديمقراطية وجيوب التمرد كذلك في إيران؛ من خلال ما اصطلح عليه «تقليصها إلى جوهرها الفارسي»؛ بمعنى آخر تقليص حَجْمها وفقًا لأُسُس عرقية عبر تشجيع الانفصال العرقي، وتقسيمها لعدة مناطق؛ فقد كان المخطط الأمريكي الصهيوني الأخير الذي استهدف إيران، يهدف إلى القضاء على القيادة السياسية الإيرانية، وشَلّ منظومة القيادة، والسيطرة على الداخل عبر سلسلة غارات لتصفية القيادة الإيرانية؛ تمهيدًا لحراك شعبي واسع يَنْشُر الفوضى ويُوسِّع دائرة الانهيار، ويُمهِّد للتقسيم، لكنَّ المحاولة الأمريكية فشلت، لذلك هددت واشنطن وتل أبيب بأنه لا يمكن استبعاد قصف إيران مرة أخرى!
الفرق بين الصراعات التي تدور في المنطقة بين القوى المحلية والإقليمية مثل تركيا وإيران هي مصالح على النفوذ والاقتصاد، بينما تركّز واشنطن في معاركها على البُعد الديني والهيمنة الإمبريالية الصليبية على المنطقة، وعلى ثرواتها تحت مظلة «إسرائيل» الكبرى التي لا تستثني أحدًا في قائمة أهدافها، وهذا الجهد المُوحَّد بين المشروعين يُعبِّر عنه السفير السابق للدولة العبرية في واشنطن «رون ديرمر» بقوله: إن المسيحيين الإنجيليين يُشكِّلون «العمود الفقري لدعم «إسرائيل» في الولايات المتحدة».
وهذا القول عبَّر عنه الكاتب الراحل عبد الوهاب المسيري بقوله: «إن وجود «إسرائيل» سببه «الدعم الأمريكي اللامحدود، والصمت الإسلامي والعربي اللامحدود». وهذا الأمر يحتاج إلى إزالة الغشاوة التي تُعْمِي أبصار الكثير من النُّخَب العربية والإسلامية التي تفصل بين المشروع اليهودي الذي يستظل تحت مظلة «الحق المشروع في الدفاع عن النفس»، والذي تُخْفي خلفه الدولة العبرية خطة طويلة الأمد لضمّ مساحات شاسعة من الدول المجاورة لأرض «إسرائيل» الموعودة، وبين القوى الغربية اللامحدودة، وعلى رأسها واشنطن، التي تُسلِّح وتُموِّل هذا المشروع. حتى إن موسكو التي كانت في أحد الأيام تُعدّ أبرز حلفاء النظام الإيراني رفضت التدخل للدفاع عن طهران خلال الهجوم الصهيوني الأخير، وبرَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقول: «هناك ملايين الإسرائيليين من أصل روسي»!
منذ 40 عامًا، قال مايكل هدسون عالم الاقتصاد الأمريكي: «إن ما يُحفِّز المشروع الصهيوني في المنطقة هو استمرار الدول العربية بالبحث عن الشرعية المرتبطة بحدود الدولة، وهذا الأمر خلَق سبيلًا لنُخَب اقتصادية فاسدة أصبح لها سطوتها في السياسة والسيادة، وركزت كل مصالحها في البحث عن الغطاء الغربي لتأكيد شرعيتها الوطنية، لذلك يمكن تبرير النزاعات في المنطقة بامتداد هذا الأساس الذي يرهن المنطقة للتبعية الغربية، لذلك يمكن تفسير سبب محاولة واشنطن و«إسرائيل» الدائمة لتحجيم الثقل الجيوسياسي الإيراني والتركي في المنطقة باعتباره أحد مُحفّزات النهوض في المنطقة العربية والخليج باعتباره القوة المتماسكة الباقية في المنطقة العربية.
في ديسمبر الماضي، عقدت مجموعة هربرت وجين دوايت المتخصصة في الإسلام والنظام الدولي التابعة لمؤسسة هوفر، اجتماعًا ناقشت فيه التحديات التي تُواجه السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وجاء في توجيهاتها: إن الشرق الأوسط منطقة حيوية للمصالح الأمريكية، ولا يمكن لأيّ إدارة أمريكية التخلي عنه لـــــ«أعدائنا» أو لـــ«فوضى الفشل»؛ باعتبار تلك المنطقة «حاضنة للإرهاب الدولي»، وكذلك فهو منطقة تضم طرقًا تجارية حيوية وموارد من النفط والغاز التي ستظل محورية للاقتصاد العالمي لعقودٍ؛ لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تؤكّد على دورها القائم في المنطقة.
ما سبق يُبرِّر بلا شك طبيعة التدخل الأمريكي والدعم المباشر للدولة العبرية في الحرب على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر عام 2023م، وقد صرَّح الرئيس السابق جو بايدن بأن تحريك الأسطول الأمريكي هدفه «التأكُّد من قدرة الدولة العبرية على حماية نفسها»، وهي إشارة ليس فقط للمقاومة في غزة، بل للمنطقة؛ بأن «إسرائيل» هي مشروع أمريكي بامتياز بعد أن فضح هجوم المقاومة قوة الردع الصهيونية، وأثبت عجزها أمام العالم، وأزال الكثير من الغشاوة عن عقول صُنّاع القرار في عالمنا الإسلامي. فقد قدَّمت الولايات المتحدة للدولة العبرية مساعدات عسكرية واقتصادية خلال العقد الماضي تُقدَّر بـ35 مليار دولار، بالإضافة إلى 52 مليار دولار لأنظمة الدفاع الجوي، وهي مبالغ ضخمة مقارنةً بعدد السكان والناتج القومي الصهيوني.
وامتدادًا للدعم الأمريكي فقد كشفت الحرب على غزة نوايا واشنطن الحقيقية التوسعية والإمبريالية في المنطقة عبر تحويل القطاع إلى مشروع عقاري استثماري يرسم مستقبله صِهْر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، ومستشاره في المنطقة ستيف ويتكوف، والذي يشاء القدَر أن يكونوا جميعًا من اليهود!
ولم يكن المشروع العقاري الأمريكي يَستهدف تهجير سكان قطاع غزة فقط، بل يمتد ليصل للإضرار بالأمن القومي المصري، الذي قدمت غزة وأهلها كلّ غالٍ ونفيس لحمايته؛ من خلال إفشال مشروع قناة بن غوريون الذي رُسمت خطته منذ ستينيات القرن الماضي، وتمحورت تفاصيله حول شقّ قناة تمتد من البحر الأبيض المتوسط عبر قطاع غزة وصولًا إلى ميناء «إيلات»؛ حيث البحر الأحمر، لتنتهي حقبة أهمية قناة السويس في التجارة العالمية.
مع صعود اليمين الصهيوني وتنامي نفوذه في الحكومة استُؤنِفَ النقاش عن المشروع باعتبار اليمين الصهيوني مرحلة من مراحل عنف الدولة اليهودية الذي تَستخدمه واشنطن لتطهير قطاع غزة من السكان تمهيدًا لاستكمال المشروع الذي ينافس طريق الحرير الصيني، ويمنح الولايات المتحدة فرصة لتعزيز هيمنته على المصالح التجارية في المنطقة. لكنّ صمود المقاومة وإفشال مخطط التهجير أجَّل هذا الملف الذي تقف غزة وحدها في التصدي له وسط صمت وتجاهل مصري عجيب. فهو امتداد لاستعمار أكبر تحدَّث عنه ثيودور هرتزل في مذكراته في القرن التاسع عشر؛ حيث ضمَّن سيناء وقبرص باعتبارهما جزءًا من أرض «إسرائيل»، وهذا الاعتقاد اليهودي سببه آيات فضفاضة من النصوص القديمة في سفر التكوين والتوراة اليهودية تُظهر خرائط «إسرائيل» الكبرى المزعومة على أنها تشمل حوالي 30 في المائة من الأراضي المصرية ومعظم العراق ومساحة واسعة من المملكة العربية السعودية، والكويت بأكملها، وسوريا، والأردن، ولبنان، وأجزاء من جنوب تركيا.
وقد دأب زعماء اليمين اليهودي في الحكومة الصهيونية الحالية مثل بتسلئيل سموتريتش، وإيتامار بن غفير، وأفيغدور ليبرمان، وأميحاي إلياهو، على الترويج لمثل هذه التصورات التوراتية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمثل المبعوث الأمريكي للملف اللبناني والسوري «توم براك» الوجه الناعم للإمبريالية الأمريكية والمصالح الصهيونية في سوريا؛ بهدف توجيه الدولة السورية إلى مواجهة مباشرة مع لبنان لنزع سلاح حزب الله بعد فشل محاولات سابقة لاستنزاف الحزب عبر معارك بين السنة والشيعة في لبنان والجيش اللبناني وحزب الله؛ فقد ألمح المبعوث الأمريكي إلى إمكانية إلغاء قرار رفع العقوبات عن سوريا بسبب محاولة الدولة السورية بسط سيطرتها على المثلث الأمني الذي صنعته الدولة العبرية بالتعاون مع الدروز في الجنوب.
وهنا يظهر جليًّا أن الحراك الأمريكي في هذا الملف يهدف إلى الحفاظ على منطقة جنوب سوريا خالية من أيّ وجود لحشد سكاني سُنِّيّ؛ منعًا لتشكيل جدران من الحماية البشرية تُحجّم التوسع اليهودي في المنطقة؛ فسوريا التي لم تَخُض مواجهة مع الدولة العبرية منذ اتفاقية الهدنة عام 1974م؛ تعرَّضت لغارات كثيفة خلال سنوات الثورة؛ بهدف تدمير بِنْيتها التحتية والعسكرية، ولمنعها من النهوض مجددًا، وتمهيدها لمسار الفوضى والحرب الأهلية الوسيلة الأكثر حيوية لمشروع التقسيم، وهذا الأمر أفرزته اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، والتي جعلت سيناء مُحرَّمة على المصريين إلى يومنا هذا، ومنعت وجود كثافة سكانية على عمق عشرات الكيلو مترات من الحدود مع فلسطين المحتلة، وهو نفس الأمر الذي تحاول صُنْعه الدولة العبرية مع لبنان.
وكذلك يمكن الإشارة إلى قبرص بوصفها واحدة من أبرز المناطق التي تضعها الدولة العبرية في رؤيتها التوسعية، وكثيرًا ما يتلقَّى الضباط القبارصة تدريبات في الدولة العبرية، وفي السنوات القليلة الماضية، شهدت كلٌّ من المنطقتين القبرصية اليونانية والتركية تدفقًا استثماريًّا من الأتراك والروس واللبنانيين والإيرانيين وعرب الخليج والصهاينة.
وقد ركَّز التدفُّق الاستثماري الصهيوني على شمال قبرص التركية، وتسبَّب هذا الأمر في تضخُّم أسعار العقارات، مما سبَّب بيئة طاردة للسكان القبارصة الأتراك في سياسةٍ استهدفت تهجيرهم بالدرجة الأولى؛ مما دفَع الدولة التركية للتدخل، وإصدار تشريعات في سبتمبر 2024م تمنع الأجانب من امتلاك العقارات، وتقصر شراء العقارات على الأتراك ومواطني جمهورية شمال قبرص التركية فقط، فاستهداف قبرص هو امتداد لاستهدف تركيا، وهذا الأمر حذَّر منه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكتوبر 2024م، حينما صرح بأن «إسرائيل» لديها خطة لضمّ أجزاء من الأناضول.
لذلك يمكن القول: إن المشروع اليهودي في المنطقة هو استكمال لمشروع غربي إمبريالي كبير هدفه تدمير الدولة القومية لصالح السيادة المطلقة على المنطقة، والتحكم في هويتها الدينية، والهيمنة على مُقدّراتها الاقتصادية ونطاقها الجغرافي الحيوي باعتباره أحد أهم محاور المواجهة بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، بالإضافة إلى مرجعيته الدينية والعرقية.