(ابن الجنرال) هو الكُولونيل «ميكو بيلد» الذي نشأ صهيونيًّا، ثمَّ ما لبثَ أن تحوَّل إلى واحدٍ من أبرز المناهضين للصهيونية، وإنهاء النظام العنصري البغيض، نراه كثيرًا ما يُؤكِّد أنَّ إسرائيل «دولة وظيفيَّة» بمعنى أنَّ «القوى الاستعمارية اصطنعتها وأنشأتها للق
كثير مِن الناس لم يعرفوا مغزى اللَّافتات التي رفعها أهالي الأسرى الإسرائيليين أثناء احتجاجاتهم الأخيرة في تل أبيب، والمكتوب عليها: (בנו של הגנרל)!
وقد انكشفَ السِّرّ، عندما تساءلت إحدى الصحف العِبرية، قائلة: هل تنجح رواية (ابن الجنرال בנו של הגנרל) في خلْق انتفاضة فكرية، وثورة دينيّة بما تحمله من رسائل حارقة ونبوءات وشيكة؟ وهل ستُشكِّل هذه الرواية خطرًا على الأحزاب الدينية الصهيونية؟ وهل يمكن أن تفتح شهيَّة صُنَّاع السينما لتحويلها إلى عمل درامي يشاهده الملايين؟!
في البداية، لا بدَّ مِن الإشارة إلى أنَّ رواية (ابن الجنرال) للضابط الإسرائيلي (ميكو بيلد)، ليست الأولى من نوعها؛ فقد سبقها عدة أعمال أدبية وفكريّة في ذات النَّسَق، كتبها أُدباء ومؤرخون يهود مشاهير، مثل: بيني موريس، وإيلان بابيه، ودافيد هانون، ونعوم تشومسكي، وإسرائيل شاحاك، وغيرهم مِمَّن عارضوا «إسرائيل»، وهي في أوج قوتها، وإنْ اختلفتْ مرجعيَّـة هؤلاء ودوافعهم، وتباينت رؤاهم في رسْم سيناريوهات انهيار «إسرائيل» وزوالها.
لكنّ الفارق بين الكُولونيل (ميكو بيلد) وبين غيره مِمَّن صحَّحوا مسيرتهم، وتمرّدوا على الواقع، وبشّروا بزوال الكيان الجاثم على أرض فلسطين؛ أنه سجَّلَ رحلته أوْ حكايته بأسلوبٍ مملوء بالسخريّة، متدفّق بالشّاعرية، غزير المعلومات، صاخب بالحوارات والمناقشات، يطرح تساؤلات كثيرة، ويُحرِّض على فعل ثوري، بلْ وانقلاب سياسي، سيّما أنه انخرط في الخدمة العسكريّة مثل أبيه الجنرال «ماتي بيلد»؛ الذي قاد سريَّة اشتُهِرَت ببسالتها في حرب 1948م.
وقد تباينت الآراء، واختلفت وجهات النظر حول مضمون (ابن الجنرال): هل هي ذِكريات أمْ مذكّرات؟ أمْ مِن «أدب الرحلات»؟ أمْ كتاب سياسي؟ أمْ مراجعة فكريّة؟ أمْ هي رواية أدبيّة؟!
الأرجح -في تقديري- أنها خليطٌ من هذا وذاك، فمَن زعَم أنها نبوءة سياسيّة في قالبٍ أدبيّ، فما جانَبَه الصواب. ومَن زعَم أنها رواية أدبية مُسيَّسة، فقد صدق، خاصةً أنها تحتوي على جميع عناصر الفن القصصي: البطل، والشخوص والشهود، والحوار والسرد، واللغة الساحرة، والخيال الجامح، والمَشاهِد العديدة، وحبْس الأنفاس، وعنصر المفاجأة، والإخفاق والنجاح، والمحاكمات، والإحالات، والنبوءات والبشارات، والنهاية المفتوحة على مختلف الاحتمالات!
«إسرائيـل دولة وظيفيَّة»
في ما يقُرب مِن (خمسمائة صفحة) يروي الضابط «ميكو بيلد» بعض ما كان يقوم به بناءً على أوامر رؤسائه العسكريين، وامتعاضه مِن حماقتهم، ثمَّ تحوُّله الفكري، وإعادة النظر في حياته من جديد، يقول: «إنَّ حكايتي هي حكاية صبي إسرائيلي-صهيوني، أدرك أنَّ روايته للقصَّة لم تكن الرواية الوحيدة، واختار أن يزرع الأملَ في واقعٍ يَعتبره الجميع مستحيلًا».
ويُضيف: «أشعر أنَّ رحلاتي ورُؤَاي السياسيّة التي اكتسبتُها من أبي يمكن أن تُقدَّم نموذجًا للمصالحة؛ ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن في أيّ مكان يَنظر فيه الناسُ إلى «الآخَر» مُرتابين ويَسكنهم الخوف، أكثر مِمَّا تسكنهم إنسانيتنا المشتركة».
(ابن الجنرال) هو الكُولونيل «ميكو بيلد» الذي نشأ صهيونيًّا، ثمَّ ما لبثَ أن تحوَّل إلى واحدٍ من أبرز المناهضين للصهيونية، وإنهاء النظام العنصري البغيض، نراه كثيرًا ما يُؤكِّد أنَّ إسرائيل «دولة وظيفيَّة» بمعنى أنَّ «القوى الاستعمارية اصطنعتها وأنشأتها للقيام بوظائف ومهام تترفَّع عن القيام بها مباشرة، وأنها مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية».
رحلـة «ابـن الجنرال»
لقد دوَّنَ «ابنُ الجنرال» رحلته في فلسطين -التي ابتدأت بحُلمٍ صغيرٍ؛ هو أن يصبح عضوًا في الوحدات الخاصة، ويعتمر القبعة الحمراء رمز القوة والإقدام في إسرائيل. كان حُلمه النهائي أن يصبح جنرالًا مثل أبيه، وقد تحقّقت أُمنية «ميكو بيلد» بدخول الجيش والالتحاق بالقوات الخاصة، ويعود ذات يوم والقبّعة الحمراء على رأسه، وفي قلبه فَخْر قومي لا حدود له.
ولكنَّه اكتشف فجأةً أنه لا يريد أن يصبح جنرالًا. فألقَى القُبّعة، ومِن ورائها طموحه العسكري، وشرع في حياة جديدة، سافر معها عبر الزمان والمكان: من أمريكا إلى اليابان، ومِن بلعين إلى غـزَّة، ومِن «إسرائيل» إلى فلسطين.
وقد شكّل «الإنسان الفلسطيني» المحور الرئيسي في تفكير «ابن الجنرال»، وذلك من خلال معايشته للمعاناة اليومية، والواقع المرير الذي يعيشه الفلسطيني البائس، المسلوبة كرامته!
هذا، ويروي «ميكو بيلد» بعض المقدّمات والأحداث التي أدَّت إلى تغييره كإنسان من الداخل، وكراهيته للظلم... إذْ بدأت معركته مع نفسه حينما شارَك في دوريَّة صهيونيَّة داخل أراضي الضفة الغربية، وأخذ ورفاقه من الجنود الإسرائيليين يُهْلِكون حرثَ فلاحٍ فلسطيني في الضفة الغربية دون سبب!
بعدما عاد الكُولونيل «ميكو بيلد» إلى منزله؛ مكَث يُفكِّر فيما اقترفه ورفاقه بمزرعة ذلك الفلّاح الفلسطيني البائس... فاشتدّ الصراع بينه وبين نفسه على أَشُدّه، وقرَّر عدم الرجوع إلى الخدمة العسكرية مرةً أخرى، مهما كان الثمن!
منذ تلك اللحظة، حدثت انعطافة فكرية في حياة هذا الضابط، ومِنْ ثَمَّ تطورت نظرته النقديَّة للسلوك العدواني الذي تقوم به إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فبدأ يتخلَّى تدريجيًّا عن حُلمه الصهيوني حتى وصل إلى مرحلةٍ وصفها بقوله: «لم تَعُد لديَّ أيّ رابطة عاطفية مع الصهيونية»!
ثقافـة «ابـن الجنرال»
أشار «ميكو بيلد» إلى أنَّه حرَّر عقله من الشعارات العنصريّة، والتقى ببعض المثقّفين، وعكَفَ -في ذات الوقت- على القراءة والبحث والاطلاع كي يصل إلى حقيقة الصراع الدائر بين اليهود وخصومهم، وعلاقة الصهيونية بالدين اليهودي؟ ومآلات المستقبل القريب والبعيد؟!
يقول: لقد جمعتني الصدفة في أحد مطاعم حيفا بالشَّاعر الإسرائيلي «دافيد أفيدان»، وقد أخبرني بأنه سوف يسافر إلى «كندا»، ولن يعود إلى إسرائيل مرةً أخرى؛ بحثًا عن الأمان. وأنَّ مقولة: «دولة إسرائيل»، هي فكرة من خيال الصهاينة المرضى!
يُعلّق «ميكو بيلد» قائلًا: وقد تأكدتُ من صحة تلك المقولة عندما علِمتُ أنَّ الأشكيناز -اليهود الغربيين- يحتفظون بعناوين ذويهم في الخارج. وبعد توالي الهزائم زاد عدد مَن يطلبون الحصول على جوازات سفر غربية بالتزامن مع الهجرة العكسيَّة من إسرائيل للخارج.
ويستطرد قائلًا: عندما تأملتُ في حصاد الحروب التي خاضتها إسرائيل في العقود الأخيرة، أدركتُ أنَّ إسرائيل أوشكتْ شمسها على الغروب، وأنها لن تنتصر فيما هو قادم من المواجهات، بلْ ستتراجع وتتقهقر، وتخسر رهانها أمام داعميها، بدليل أنها خرجت من سيناء، وانسحبت من لبنان، وتخلّت عن الضفة، وانهزمت أمام حزب الله، وأمام حركات المقاومة الفلسطينية.
نبـوءات توراتيّة
لقد روى «ابنُ الجنرال» حكايات كثيرة ومواقف عديدة، حمَلَتْ في طيّاتها حملةً شعواء ضد الصهاينة، فقال: «منذ عشر سنوات التقيتُ في القُدس بالحاخام «مئير هيرش»، وكان يمسك بيده العَلَم الفلسطيني، ولمَّا سألته عن ذلك؟ قال: أنا سأُشارك مساءً في المظاهرات ضد جرائم إسرائيل؛ لأنّني متضامن مع الفلسطينيين، وصديق شخصي لإسماعيل هنيّة!».
ويستطرد قائلًا: «في أثناء زيارتي الأخيرة لأمريكا، حضرتُ مؤتمرًا للحاخام «دوفيد وايز» -وهو ابن أحد الناجين من الهولوكوست-، وقد كشف عن عدم شرعية الصهيونية وفْق الديانة اليهودية. وقال: إنها فكرة باطلة وخدعة كبرى، زعماؤها علمانيّون وملاحدة لا يؤمنون بأيّ دين سماوي، لكنّهم نجحوا في المتاجرة بالديانة اليهودية فوظَّفوها توظيفًا قوميًّا، ولذلك وضع الخبثاءُ أساس الدولة على منهج علماني يسمح بممارسة الطقوس المختلفة، بوصفها رباطًا قوميًّا. وزعموا بأنَّ «اليهودية» ليست مجرد دين، وإنما هي رباط قومي وثقافي، وأنَّ الارتباط الحقيقي باليهودية ممكن حتى لو كان المرء رافضًا للدين اليهودي والشريعة اليهودية!
هذا، وتطرّق «ابنُ الجنرال» إلى عدة نبوءات أوْ يمكن أن نُسمِّيها: رؤى استشرافيَّة، فقال: لقد تنبّأَ الأديبُ الإسرائيلي «پنحاس سديه» بانقراض إسرائيل، لعدة أسباب اجتماعية؛ فالعرب يتكاثرون واليهود يتناقصون بسبب النزوح المستمر، وعدم الإنجاب، وتوقُّف الهجرة إلى إسرائيل.
وقال -أيضًا-: «ذات مرة، شاهدتُ مؤتمرًا للسياسي الإسرائيلي «أفراهام بورغ»، والذي قال بالحرف الواحد: إسرائيل تأخذ بجميع أسباب الانهيار وتُعجِّل بالنهاية المحتومة»، ودلَّلَ على ذلك بقوله: «نحن دولة عنصرية، مازالت تحكمنا عقلية «الغيتو»، وننبذ الديمقراطية، ونُهْدِر القِيَم الإنسانية!».
ومضى قائلًا: «سمعتُ بنفسي من جماعة «ناطوري كارت» اليهوديّة؛ بضرورة الوقوف بجانب الفلسطينيين والدفاع عنهم ضد أطماع الصهاينة! ولمَّا اقتربتُ فيما بعد من جماعة «ناطوري كارت» لمستُ فيهم الصدق وروح الإنسانية، مِمَّا جعلني أقرأ أدبيّاتهم ومؤلفاتهم فوجدتها مطابقة لِمَا كنتُ قد سمِعته من أبي في أُخريَات حياته، وهو أنَّ العقيدة اليهودية تُؤكّد على أنه ليست هناك دولة لليهود، وأنَّ المزاعم الصهيونية تَضُرّ باليهود أكثر مِمّا تخدمهم!
أيقنَ «ابنُ الجنرال» أنَّ إسرائيل زائلة -كما يقول-، وسيهرب الصهاينة إلى الشتات، وربّما لا تقبلهم البلاد لشناعة جرائمهم. ثمَّ يقول: «ليس هذا رأيي وحدي، بلْ معظم المتديّنين اليهود يعتقدون أنَّ الكيان الصهيوني زائل مهما طال الزمن، وأكّدوا لي أنَّ اليهود ليس لهم دولة كما تقول التوراة: «إن الله خلق زوجيْن من البشر، ووضعهما في مكانٍ أطلقت عليه اسم «جنَّة عدن»، وهذا المكان كان على الأرض، لكنَّ الزوجيْن البشرييْن ارتكبا خطأً كبيرًا، عندما عصيا أوامر الله وأكلَا ثمرةً من شجرة حذّرهم من الاقتراب منها أثناء إقامتهم، فطردهم الربُّ إلى مكانٍ آخَر».
وقد استنتج العقلاء المتديّنون، ومنهم جماعة «ناطوري كارت»، أنّ الشتات كُتِبَ على اليهود، وهذا ما أكَّدته الكتب والرسالات التي نزلت بعد التوراة.
في الختام، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ «الكاتب» استَشْهَد بعددٍ من الكُتُب المهمة التي تُدعِّم رؤيته، ومعظمها جاءت بأقلام حاخامات ومفكّرين يهود، مثل: المؤرخ الإسرائيلي «بيني موريس» الذي أعلن إفلاس المشروع الصهيوني، وغروب شمس الدولة العبريّة. وكذلك المؤرخ اليهودي «جان بيير فيليو» صاحب كتاب «إحكام القبضة على إسرائيل: نتنياهو ونهاية الحلم الصهيوني». فضلًا عن سلسلة الكتب التي أصدرتها جماعة «ناطوري كارت»، التي ترى أنَّ قيام دولة إسرائيل هي غضب من الربّ، ولعنة من الله، ومخالفة لشرائع التوراة، واعتراضًا على وصايا الأنبياء التي أخبرتْ أنه لا تقوم لليهود دولة!
وما يزال السؤالُ قائمًا: هل ستنجح رواية (ابن الجنرال) في خلْق انتفاضة فكرية في إسرائيل؟ وهل ستفتح شهيّة صُنَّاع السينما لتحويلها إلى عمل درامي يشاهده ملايين البشَر؟!