الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
من جسيم الخطأ، وكبير الخلل، أن يتوقف المرء عن الاستمرار في الطريق بمجرد رؤية أول الثمرة، بل إن هذا التصرف يعد نقيضاً للحكمة، ويقترب من الحماقة والسفه، فالنتيجة الناقصة وإن كانت جميلة؛ فهي قاصرة عن التمام.
والشأن أولى في حق البلدان والأمم، فأي أمة تتوقف في منتصف الطريق بالكسل، أو العجز، أو الوهم المريح، تكون كالمنبت الذي لم يقطع الأرض ولم يبق الظهر، ومن طبائع الأشياء أنها تنادي على أشباهها، واجتماع النقص مؤذن بالهلاك.
وخلال القرون الفائتة عانت أمتنا من تسلط قوى الكفر بالاحتلال بعد أن أضعفت الخلافة العثمانية، ثم خلخلة بنيانها بفساد «الإصلاحات»، وقبل إسقاطها من الواقع أسقطتها من عيون المسلمين؛ يوم أن أصبحت خاضعة للأجانب والأعادي، وغدت وبالاً على المسلمين وبلادهم أحياناً.
وبعد أن تخلص المسلمون من سيطرة الاحتلال البغيض، فرحوا بالاستقلال، وحق لهم أن يفرحوا، بيد أنهم اكتفوا بفرحة الجلاء، ورضوا بالقليل وهم لما يبرحوا أول الطريق بعد، ولذا أصبحت البلاد مستقلة فيما يبدو، ولكن مصيرها السياسي، والاقتصادي، والأمني، والثقافي، بيد المحتل السابق، أو وريثه، أو المنظمات الدولية؛ فأي استقلال هذا؟!
ولم تواصل الأمة مسيرة الاستقلال لتتخلص من أتباع المحتل وصنائعه، وحين طُرد المحتل خلفه على مقاليد السلطة أناس من أهل البلاد بألسنتهم، وأسمائهم، وهيئاتهم، لكن قلوبهم وأرواحهم اختلطت بهوى الأجنبي الكافر، وأصبح بعضهم أشد عداوة وضراوة من المحتل البعيد.
ومن خوارم الاستقلال التبعية في اللغة، والثقافة، والأنظمة، والجفول عن تاريخ البلد والأمة، واسترضاء المحتل في مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومباهج الحياة، فأي استقلالية هذه التي تجعل المحتل المطرود وصياً على البلاد وأهلها؟!
وانعتقت بعض الدول من الرضوخ لبلاد احتلتها أزمنة طويلة، وبدلاً من التنعم بالاستقلال، سلمت مفاتيحها وأسلمت قيادها لدول كبرى جديدة، ودخلت تحت عباءة الشرق أو الغرب، ودارت في أفلاك دولية لا تراعي مصلحة الأمة وثقافتها، وخدرت نفسها بدعوى أنها عضو فاعل في منظومة كانت تسمى «عدم الانحياز»!
ومن أعظم عيوب الاستقلال المتوهم، أن البلاد الإسلامية كانت بلداً واحداً في الجملة، ثم أصبحت في حقبة ما بعد الاستقلال أقساماً جاهزة لمزيد من التقسيم بإشارة من المحتل القديم، أو بمكر من خلفه، أو بتصويت جائر من المنظمات الدولية، فأي استقلال هذا؟
وما أكمل أن نعي لوازم الاستقلال الكامل ومعانيه، ونسعى لتحقيقها قدر المستطاع، وأول شروطه ينبع من استقلال العقل عن التبعية للآخرين، واستقلال القلب عن التعلق بهم، وبعد ذلك يمكن مواصلة الاستقلال العملي التام المتوافق جوهره مع مظهره.