• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بريطانيا والاتحاد الأوربي.. من الخاسر؟

بريطانيا والاتحاد الأوربي.. من الخاسر؟

حتى اللحظة الأخيرة قبل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي كانت المخاوف من التداعيات تدفع المسؤولين السياسيين والمراقبين والمحللين إلى تأكيد تفاؤلهم بالنتيجة المرتقبة، وهذا ما ضاعف مفعول الصدمة عند ظهورها بما خيب الآمال، فظهرت ردود أفعال متسرعة تتحدث عن بداية النهاية للاتحاد نفسه، وعن انفصال بعض مكونات «المملكة المتحدة»، وعن أزمة مالية عالمية، بل انتشرت تكهنات أشبه بالتمنيات أن يجري استفتاء آخر قبل تنفيذ نتائج الأول، واختلط جميع ذلك بتصريحات تتضمن التهديد والوعيد، بأن المفاوضات على ما بعد الانسحاب من الاتحاد ستكون عسيرة للغاية ولن يكون فيها تنازلات.. هذا مع أن بريطانيا ليست دويلة ضعيفة لتنهار أو تتفتت بين ليلة وضحاها إذا استقلت عن المسيرة الأوربية، كما أن الاتحاد الأوربي ليس مجموعة ضعيفة، وليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها أزمة كبيرة ثم يتجاوزها ليتابع المسيرة الأوربية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة.

الاستشراف الموضوعي لنتائج الحدث يتطلب نظرة متأنية تبين أن القرارات السياسية المقبلة ستخضع لموازنة المصالح والحلول الوسطية، وليس لردود فعل «انتقامية» أو متسرعة. كما ينبغي تجاوز مفعول المفاجأة بالعودة إلى طبيعة ما كانت عليه العضوية البريطانية في المجموعة الأوربية، متميزةً عن سواها، ليس في الجانب الاقتصادي فحسب، علماً بأن تصويت المواطن البريطاني لم ينطلق من موازين المكاسب والخسائر في ميادين التجارة والاستثمار وما شابه ذلك.

من المفارقات أن بريطانيا أول دولة عضو تنسحب من الاتحاد، بينما كانت أول من دعت إلى فكرة توحيد أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما ينسب إلى ونستون تشرشل، في فترة لم يكن خلالها رئيساً لوزراء بريطانيا، إذ تسلم المنصب أثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٤٠-١٩٤٥م) ثم في الفترة (١٩٥١-١٩٥٥م)، إنما استخدم عام ١٩٤٨م تعبيراً أكبر من مضمون ما كان يدعو إليه وهو «الولايات المتحدة الأوربية» كما ورد في كلمة له في زيوريخ، كما كان له دور عملي في انطلاق المسيرة الأوربية عندما اختير رئيس شرف لاجتماع انعقد في لاهاي عام ١٩٤٨م وضم ٨٠٠ نائب من الدول الأوربية، وقد أسفر عن تأسيس المجلس الأوربي عام ١٩٤٩م (وهو كيان قائم بذاته)، ولعب دوره أيضاً في تأسيس المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان عام ١٩٥٩م، إنما نادراً ما يقترن الاستشهاد بذلك على هامش الاستفتاء الأخير حالياً بالتذكير أنه كان يتحدث منذ ذلك الحين عن «دور خاص» لبريطانيا، ويذكرها في مصاف الجهات «المرجو دعمها» لمسيرة توحيد أوربا، فيصنفها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي والكومنولث البريطاني.

وقد بقي الدور «الخاص» البريطاني يلقي بظلاله على العلاقة مع أوربا باستمرار منذ ميلاد النواة الأولى للاتحاد الأوربي، وهو «اتحاد الفولاذ الأوربي» من ست دول مع امتناع بريطانيا عن المشاركة، ويبدو أن تشرشل عندما اعتبر الصلح بين ألمانيا وفرنسا شرطاً لنجاح المشروع الأوربي، لم يكن يقدّر أن العلاقة بين البلدين ستهيمن على المسيرة الأوربية وتوصف بمحرك الاتحاد الأوربي، بينما نأت بريطانيا بنفسها فامتنعت عن المشاركة في توقيع وثيقة روما الأولى عام ١٩٥٧م، وحاولت إيجاد بديل يحقق الميزات الاقتصادية عبر تأسيس منظمة للتجارة الحرة الأوربية، ولكن سرعان ما رأت لنفسها مصالح أكبر فتقدمت بطلب العضوية عام ١٩٦١م، ووجدت الرفض مرتين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٧م، ومن وراء الرفض الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، وكان في مقدمة الأسباب التي ذكرها عامل المنافسة الاقتصادية، ثم العادات والتقاليد البريطانية المحافظة، والأهم العلاقات البريطانية - الأمريكية الوثيقة، في فترة شهدت غياب فرنسا عن حلف شمال الأطلسي، إنما كانت معارضة العضوية البريطانية قائمة على المستوى الشعبي داخل بريطانيا نفسها أيضاً، فحتى عندما تقرر الانضمام فعلاً عام ١٩٧٣م أظهر استطلاع للرأي أن ٣٩ في المائة يعارضونه مقابل ٣٨ في المائة يؤيدونه كما ذكرت مؤسسة «بي بي سي» الإذاعية.

منذ ذلك الحين وحتى الاستفتاء على الانسحاب لم تغير هذه السلبيات العلاقة البريطانية - الأوربية، وإن تبدلت طريقة تأثيرها، وبالمقابل لم تعمل فرنسا وألمانيا لتوسيع مفعول «محرك أوربا» مثلاً لتشمل آليات عمله بريطانيا باعتبار وزنها اقتصادياً ومالياً وسياسياً وعسكرياً، وكانت الضغوط الشعبية من حجج الحكومات البريطانية المتعاقبة، لاسيما حكومة تاتشر وأخيراً حكومة كاميرون، لتنتزع تنازلات أوربية تعطي بريطانيا ميزات استثنائية، فضلاً عن عرقلة مزيد من خطوات التوحيد السياسية، مما جعل المسيرة الأوربية تمضي بسرعتين، كما ظهر في تأسيس مجموعة اليورو، وكما يدور الحديث الآن مجدداً في نطاق ردود الفعل الأوربية على قرار الانسحاب البريطاني.

من الخاسر من الطرفين؟

هذا سؤال متكرر ولا يوجد جواب قاطع بصدده، فتشابك العلاقات مكثف وعميق عبر الحدود عالمياً وليس أوربياً فقط، فمن جهة يسبب حدث من مستوى الانسحاب البريطاني أضراراً جسيمة للجميع، ومن جهة أخرى يشكل الخوف من تفاقم الأضرار عامل ضغط على صناع القرار أن يتجنبوا التصعيد ويسارعوا لإيجاد «وضع طبيعي» مجدداً، وهو ما يرتبط هنا بما سيستقر عليه تنظيم العلاقات الثنائية بعد الانسحاب، ويقرر الميثاق الأوربي أن الانسحاب يتم من خلال المفاوضات حول بدائل عن العلاقات الاندماجية. الثابت على أي حال أن حالة الانفصال تعطي المفاوضات صبغة انتزاع المصالح والمكاسب الأولوية على لغة التوافق برغم التنافس، وهذا ما بدأ يظهر في التصريحات الرسمية المتوالية من جانب المفوضية الأوربية ومن جانب ساسة الدول الرئيسية في الاتحاد. ولا يؤخذ من التشكيلة الحكومية الجديدة في بريطانيا أنها تفكر بصورة أخرى.

صحيح أنه توجد حالات مشابهة لعلاقات ثنائية شبه اندماجية بين الاتحاد الأوربي وكل من سويسرا والنرويج، ولكن لا يمكن مقارنة البلدين ببريطانيا اقتصادياً ومالياً، وكانت تحتل في ذلك المرتبة الثانية بين أعضاء الاتحاد، فستكون المفاوضات مضنية، ومن أسباب ذلك تزامن الحدث مع فترة حرجة من تاريخ المسيرة الأوربية، تخيم عليها ذيول أزمة اليورو لاسيما في اليونان، إضافة إلى مشكلات مالية في ميزانيات دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال، وأزمة مصرفية في إيطاليا، وكذلك على الصعيد السياسي والأمني، مما يتعلق بصعود اليمين المتشدد في عدة دول، لاسيما بولندا والمجر، وازدياد مخاطر التعرض لهجمات «إرهابية» كما ظهر في بلجيكا وفرنسا، علاوة على غلبة الخلاف في سياسات خارجية مشتركة مع غياب سياسات موحدة، كما أظهرت الأزمة الأوكرانية مع روسيا، والتعامل مع تيار اللجوء بأعداد بشرية ضخمة، ولا يخفى أنها مشكلة تعكس مدى العجز عن ممارسة سياسات أوربية فعالة تجاه أحداث المنطقة الجغرافية المجاورة لأوربا.

إنما لا يصح القول إن خروج بريطانيا هو بداية انهيار الاتحاد الأوربي نفسه، وإن ازداد اعتماد المسيرة الأوربية بسرعتين مختلفتين في بعض الميادين، فحتى وإن وقعت أبعد المخاوف الحالية بأن تحذو دول أخرى حذو بريطانيا، فليس بين الدول المرشحة لذلك فعلاً ما يقارن ببريطانيا، وبالمقابل يعتبر الخطر الداخلي في «المملكة المتحدة» هو الأكبر، وكان قائماً من قبل الانسحاب، وضرره الآن يصيب بعض المكونات مثل إسكتلندا وأيرلندا الشمالية أكثر مما يصيب المكونات الأخرى (إنجلترا وويلز)، وستواجه رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة تيريزا ماي الصعوبات ما لم تنجح سريعاً في امتصاص مفعول الاستقطاب السياسي والشعبي بين مؤيدين ومعارضين، وقد يفسر هذا نوعية الوزراء الذين اختارتهم لتشكيل الحكومة الجديدة، فكأنها راغبة في ترضية جميع التيارات، ولا يتوقع النجاح «سريعاً» على كل حال فعلاوة على حجم المشكلات التي تنتظرها، يخطئ من يقارنها بمارغريت تاتشر الملقبة بالمرأة الحديدية، نتيجة حسمها القاطع في صناعة القرار، بينما تشبّه ماي بالمستشارة الألمانية أنجلا ميركل، من حيث التروي في اتخاذ القرار ومراعاة التوازنات السياسية الداخلية باستمرار.

صحيح أن ماي نفسها أشبه بالورقة البيضاء على صعيد السياسة الخارجية لاسيما التعامل مع قضايا العالم العربي والإسلامي، وكانت تعترض على سياسات براون عموماً فيما عدا السياسات الخارجية، إنما ينبغي أن يوضع في الحسبان أن السياسات الخارجية للدول الغربية عموماً من صنع مؤسسات قائمة بوجود المسؤول السياسي الأول وغيابه، ومن المنتظر أن يسيء وزير الخارجية البريطاني الجديد بوريس جونسون التعامل مع قضايا أساسية كقضية فلسطين وقضية سوريا وقضية اللجوء عموماً، بما في ذلك الهجرة الأوربية البينية، ناهيك عن احتمال تأثيره سلباً على السياسات الداخلية البريطانية بصدد مستقبل التعامل مع غير ذوي الأصل البريطاني داخل بريطانيا ومعظمهم من العرب والمسلمين، ولكن لا يحد من ذلك في بريطانيا وما يشابهه في دول أخرى سوى استقرار سياسات رشيدة، داخلية وخارجية في البلدان العربية والإسلامية نفسها.

:: مجلة البيان العدد  351 ذو القعدة  1437هـ، أغسطس  2016م.

أعلى