حكـايةُ أبٍ غــيَّبه الأَسْر
قد يستطيع السجان أَسْر جسد إنسان وتكبيله بالحديد وحصر رؤيته في زنزانة ضيقة لا تتسع حدودها لأكثر من شخص، ولكن من المؤكد أنه غير قادر على محاصرة فكر وخيال أسير أُسِر جسده وبقيت روحه وقلبه يحلقان في سماء مَنْ عشق وأحب، ومِن أجله قاتل وأُسِر.
وقد يضطر هذا الأسير إلى إعادة شريط الذكريات كلَّ يوم أكثر من مرة حتى تبقى هذه الذكريات عالقة في الخاطر، أو لأنها قليلة من حيث المدةُ الزمنيةُ وغير غنية وغير حافلة بالأحداث الكثيرة والكبيرة؛ لأن الأيام التي جمعتهم بمن أحبوا وعشقوا تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة من قلَّتها.
هذا حال صاحب قصتنا وبطل حكايتنا الأسير البطل (خالد المرداوي): إنه راحلة من رواحل فلسطين، وقصة من قصص البطولة التي سجلها الفلسطيني بصبره وثباته على أرض هذا الوطن؛ فتجاوز خياله وآماله وذكرياته حدود الزنزانة الصغيرة، ولم يسمح لعقارب الساعة المتوقفة في سجن عسقلان وقت الغروب بإيقاف خيالاته وطموحاته وذكرياته الجميلة. فَحضَن ابنتَه الوحيدة التي رزقه الله بها وهو أسير من دون أن يلامسها وهذب لها شعرها من دون أن يراه وحلَّق خيالُه بعيداً إلى ذلك اليوم الذي دخلت فيه المدرسة وكيف كانت تجلس في الصف، وكيف كان الخوف يسيطر عليها، وكيف كانت تقول اسمها على استحياء، وكيف كانت تلهو مع رفيقاتها، وهي تكبر مع كل يوم... كان يمر عليه العام، بل الأعوام الكثيرة فتخيل يوم نجاحها بالثانوية العامة، ويوم دخولها الجامعة، ويوم أن تقدَّم أحد الشباب لخطبتها وكيف كان ردُّه؟ وكان هو من يوصلها لبيت زوجها وهو أول من حمل حفيده الصغير وحلق له شعر رأسه وضمه إلى صدره.
كل هذه الأفكار والصور جالت برأس الأسير خالد المرداوي الذي رُزِق بمولدته البكر الوحيدة (إباء) قبل أكثر من ثمانية عشر عاماً ونيِّفاً، وما زال فكره يجول ولكن إلى أبعد مما سبق؛ فإباء كبرت ودخلت المدرسة ونجحت، وهي الآن طالبة في العام الأول بجامعة النجاح الوطنية، وبقي من أحلامه وأفكاره الكثيرة أن يخرج ليحتضن ابنته الوحيدة ويزفها إلى بيت زوجها بحضور أصحابه من رفاق القيد والزنزانة.
إن خالد المرداوي المعتقل في سجن عسقلان من تاريخ 28 / 8 / 1992م وقد مضى من عمره خمسة وأربعون عاماً، وهو محكوم بالسجن مدى الحياة أربع مرات، إنه عُمْلَة نادرة، ومعدِن ثمين لا يقدَّر بثمن، ورجل أحبَّه كل من التقى به، واستطاع بدماثته ورفيع خُلُقِه أن يأسر قلب كل من التقاه وأن يترك بصمة في صدر كل من جمعته به زنزانة أو سجون؛ فكان خالد المرداوي من الأسماء التي لا يمكن لإنسان أن ينساها.
إنه الشاب الجميل الذي كسا شعرَه الشيبُ وغيرت تجاعيد الزمان بعض ملامحه حباه الله بكثير من الميزات؛ فقد رزقه الله بزوجة مجاهدة صابرة مصابرة لا مثيل لها في وقتنا الحالي، حكاياتها تذكرنا بزمن الصحابيات والفدائيات؛ كيف لا وهي التي قبلت أن تقترن بخالد وهو مطارَد من قِبل جيش الاحتلال وقد زُفَّت إليه بالخفاء ولم يحضر أحد عرسها، ولم تلبس البدلة البيضاء، لقد قبلت بكل هذا وهي تقول: شرف لنا أن نقترن بالمجاهدين، وكل متاع الدنيا يزول.
قَبِلت أن تُزفَّ بلا ناس ومن دون غناء ولا حناء؛ فقط أن ترتبط بهذا المجاهد الذي كان قد اختار لنفسه الكهوف وأعالي المغارات بدل البيوت والقصور، وعاشت معه أحد عشر شهراً بالتمام والكمال قبل أن ينقضَّ عليه شذاذ الآفاق بليل ويعتقلونه ويضربونه ويحكمون عليه بأكثر من أربعمائة عام.
ما زالت ميسون (أم إباء) تذكر تفاصيل كل الساعات والأيام التي أمضتها مع زوجها الحبيب وفي كل يوم تعيد شريط الذكريات وتتمنى عودة الحبيب الغائب والفارس الهصور، رفضت أم إباء كلَّ الدعوات التي دعتها لترك زوجها الذي يواجه حكماً عالياً ولا أُفُقَ لخروجه وبقيت مخلصة له وهي التي كانت تحمل في أحشائها طفلتها الصغيرة البكر إباء، وكلما قيل لها: انظري إلى مستقبلك وفكري بنفسك واتركيه وشأنه. كان قرارها حاسماً: لن أجعل إباء تعيش اليتم الذي تعرضْتُ له وأنا صغيرة، وسأصبر وسأرضعها لبن العزة والإباء، ويكفي أن صورة أبيها تزين جدران المنزل.
مرت الأيام وما زالـت بقسوة على إباء وميسون وخالد وجميعهم يحلمون بذلك اليوم الذي تُكسَر فيه جدران الزنزانة ليخرج ذلك البطل ويضمَّ بين ذراعيه زوجته ميسون وابنتَه إباء يمسح على رأسيهما يعوضهما الحرمان ويحاول أن يجعل القادم من الأيام أفضل من تلك التي مضت؛ وهل هناك من يستطيع أن يجزي أمَّ إباء على صبرها وإصرارها على البقاء على ذمة زوجها الذي تركها عروساً وهي التي حفظت غيبته وسترت عرضه وربَّت ابنته أجمل تربية.
لقد فقد خالد المرداوي والدته وهو في الأسر، وكان آخر لقاء له بها محزناً ومبكياً؛ فقد ذهبت الوالدة إليه وهي على فراش الموت من خلال سيارات الصليب الأحمر، وفي زيارة كانت هي الأخيرة جلس بين يديها قبَّلهما وقبَّل قدميها وبكت العيون وسكتت الألسن، وطلب منها أن تسامحه؛ لأنه كان سبباً في إتعابها عقداً ونصف عقد يتنقل من سجن لآخر، أومأت الأم برأسها وطلبت منه أن يهتم بنفسه، وجر عربتها المتحركة موظف الصليب الأحمر، وودعها ولدُها وفِلْذة كبدها الوداع الأخير، وبعد ذلك توفاها الله وأُنزلَت قبرها من دون أن يلقي عليه نظرة وداع أو قبلة حانية.
ما يزال خالد المـرداوي في زنزانته العاجزة عن سرقة فرحته بالقادم من الأيام تزين جدران زنزانته صورة الطفلة إباء التي أصبحت شابة في مقتبل العمر، تمسح الماضي القاتم وتفتح دفتر الغد المشرق، تخفف القيد عن المعصم، وترسم المستقبل مع زوجته الصابرة في ربوع بلدته التي أحبها (حبلة) القريبة من مدينة قلقيلية.
وإلى أن يأتي ذلك اليوم أقول لك: خالد حُقَّ لك أن تفخر بزوجتك التي صبرت على بُعدِك وشقَّت طريق العلم فانتزعت مؤهلاً علمياً عالياً وأصبحت مديرة مدرسة وربَّت لك درة عينك؛ فكانت إباء التي يتمنى كل إنسان أن يرزق بابنة مثلها. وإلى أن نلقاك نقول: فرَّج الله كربك وفكَّ أسرك وعُدْتَ لنا ولهم سالماً غانماً.