منذ اعتقال رئيس بلدية إسطنبول "أكرم أوغلو" والأحداث لم تهدأ داخل تركيا، تستخدم المعارضة التركية كافة أوراقها السياسية لحشد الجماهير وتراها فرصة لكسب التعاطف الشعبي، في حين يسعى حزب العدالة والتنمية لإثبات فشل المعارضة وفسادها
إن المتابع لتطورات الأحداث على الساحة الداخلية في تركيا، خاصة بعد حكم محكمة
الصلح الجزائية بحبس "أكرم إمام أوغلو" على ذمة قضايا تتعلق بجرائم مالية، سيجد أن
الوضع أشبه بـ"الصفيح الساخن" الذي تزيد من شعلته وحرارته عدة أطراف، وخاصة جبهة
المعارضة التي تريد الحفاظ على غليان الشارع لكسب أكبر قدر ممكن من التعاطف الشعبي
معها، ولكننا سنحاول جاهدين الوقوف على أبرز ممارسات المعارضة وتصعيدها منذ حبس
"أكرم"، في محاولة لفهم خطواتها وسياقها وأبعادها ومن ثم الحكم على مدى تأثيرها
عليها وعلى المشهد الحالي برمته، كما سيكون لنا وقفات مع جلسات محاكمة "إمام أوغلو"
التي بدأت عقب قرار حبسه، خاصة أننا نتحدث عن مشهد سيكون له تأثير على عدة جوانب
وأصعدة، لعل أهمها الجانب السياسي وهو الذي سيكون محور حديثنا بشكل أكبر في هذا
المقال.
تصعيد المعارضة التركية
حرصت قيادات حزب الشعب الجمهوري منذ قرار حبس "أكرم إمام أوغلو" على حشد أنصارهم
والاحتفاظ بهم في الشوارع والميادين لإحداث حالة من الزخم تمكنهم من استثمار هذا
الحدث لصالحهم، ولكن كما يقولون "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، وهذا عين ما حدث
معهم حيث تلقوا ارتدادات سلبية جعلت المتعاطفين معهم ينفرون منهم، ومن أبرز الأمثلة
على ذلك دعوة رئيس حزب الشعب الجمهوري (المعارض) "أوزغور أوزيل" إلى مقاطعة الأسواق
التركية، حيث دعا "أوزيل" الشعب التركي للامتناع عن شراء أي شيء من الأسواق أو عبر
الإنترنت لمدة يوم واحد، كأسلوب احتجاجي جديد على حبس "أكرم إمام أوغلو" على ذمة
قضايا فساد بالبلدية.
لم تلقَ حملة المقاطعة النجاح الذي كانت تنتظره المعارضة، بل انهالت عليهم
الاتهامات من هنا وهناك بعرقلة عجلة الإنتاج وتخريب الاقتصاد، خاصة في ظل وجود أزمة
اقتصادية تحاول البلاد الخروج منها عبر برنامج يتابعه وزير المالية التركي وفريقه
الاقتصادي عن قرب منذ عدة أشهر، ولعل أبرز الأسباب التي جعلت المعارضة تخسر جراء
هذه الدعوة أن حملة المقاطعة لو كانت نجحت كانت ستصيب بدايةً صغار التجار الذين
يحاولون تأمين ربح يمكنهم من مواصلة التواجد في السوق على أقل تقدير.
هذا بجانب أحداث الشغب وما شهدته مظاهرات المعارضة من حرص أنصارها على الاشتباك مع
قوات الشرطة، وذلك في الميادين المجاورة لمبنى بلدية إسطنبول الكبرى بمنطقة الفاتح،
والتي جرى خلالها استخدام مواد حارقة وآلات حادة أمام عناصر وأفراد الشرطة الذين هم
موظفون يؤدون واجبهم في الحفاظ على السلم والأمن العام بالبلاد.
ولعل من أبرز الأخطاء التي ارتكبها زعيم المعارضة "أوزيل" أنه خلال لقاء له مع
مراسلة قناة
(BBC)
البريطانية الناطقة بالإنجليزية، قد طالب رئيس وزراء بريطانيا "كير ستارمر" بالتدخل
في قضية "إمام أوغلو" المنظورة أمام قضاء بلاده، وألقى باللوم عليه وعلى حزبه
_العمال البريطاني_ واتهمهم بعدم الانحياز للديمقراطية والعدالة.
كما استقبل بعدها "أوزيل" رئيس الوزراء اليوناني السابق "أندرياس باباندريو" في مقر
حزب الشعب الجمهوري، وهو الذي صرح عقب لقائه بأوزيل بقوله: "نشعر بالفخر بسبب صمود
أوزغور أوزيل وأكرم إمام أوغلو، فهذا الصراع هو صراع بين الاستبداد والديمقراطية"،
وقد فعل أوزيل ذلك على الرغم من علمه الشديد بالعداء التاريخي والحضاري المتصاعد
بين الحين والآخر بين الدولتين (تركيا واليونان).
وهما الواقعتان _مطالبة بريطانيا بالتدخل، واستضافة رئيس الوزراء اليوناني لإعلان
دعمه للمعارضة_ اللتان سوف ينظر إليهم المواطن التركي المتعاطف مع المعارضة على
أنهما دعوة صريحة للغرب بالتدخل في الشأن الداخلي للبلاد، وهذا الأمر مرفوض لدى
الكثيرين ويعتبر خطًا أحمر لدى فئات ليست قليلة من الشعب، حتى وإن كانت هذه الفئات
ترفض سياسيات الحكومة الحالية وتختلف معها.
كل هذه الخطوات التصعيدية تسببت في توجيه انتقادات لاذعة لقيادات الحزب _ومنهم رئيس
الحزب على وجه الخصوص_ بسبب قيامهم بتجاوزات غير مقبولة لدى شرائح ليست قليلة من
أطياف الشعب التركي، وبالنظر إلى هذه الحقائق فإننا نستطيع القول إن التصعيد وإن
كان ناجحًا في ديموميته من قبل المعارضة إلا أنه كان غير عقلاني وغير متدرج في كثير
من أحيانه، حتى أصبح تصعيدها بشكل عام كمن يسدد أهدافًا في مرماه لا في مرمى الخصم.
أولى جلسات محاكمة إمام أوغلو
ظهر رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، يوم الجمعة الماضي الموافق 11 أبريل
الجاري، أمام المحكمة في جلسة قصيرة بشأن تهمة إهانة المدعي العام في إسطنبول "أكين
جورليك" وتهديده في وقت سابق، وهي قضية منفصلة عن تلك التي أدت إلى اعتقاله في مارس
الماضي بتهمتي "الفساد" و"الإرهاب" عبر إساءة استخدام منصبه العام.
عُقدت جلسة الاستماع داخل مجمع سجن سيليفري _حيث يُحتجز أكرم إمام أوغلو حاليًا_ في
ضواحي المدينة، تحت حراسة أمنية مشددة، بينما تجمع أنصاره خارج المحكمة.
أكد إمام أوغلو خلال الجلسة أنه مستهدف سياسيًا بسبب فوزه المتكرر في الانتخابات،
قائلًا: "أنا هنا لأنني فزت بـ3 انتخابات في إسطنبول، المدينة التي قالوا إن من
يفوز بها يفوز بتركيا"، في تلميح مباشر للعبارة الشهيرة التي سجلتها السياسة
التركية للرئيس "أردوغان".
وخلال هذه الجلسة نفى "إمام أوغلو" جميع التهم الموجهة إليه كما فعل سابقًا في
التحقيقات التي كانت حول تهم "الفساد والإرهاب" عبر إساءة استخدام منصبه كرئيس
لبلدية إسطنبول الكبرى، ولكن تتمحور القضية الحالية حول تصريحات أدلى بها إمام
أوغلو في وقت سابق هذا العام، حين انتقد المدعي العام في إسطنبول "أكين جورليك"
واتهمه بالتحيز، وهي تعليقات اعتبرها الادعاء العام محاولة ترهيب لمسؤول حكومي
أثناء أداء وظيفته المنوط بها.
وتسعى النيابة العامة للحصول على حكم بسجن "أكرم إمام أوغلو" في هذه القضية لمدة قد
تصل إلى 7 سنوات و4 أشهر، وبعد انتهاء الجلسة الأولى حددت المحكمة الجلسة التالية
للنظر في القضية يوم 16 يونيو المقبل.
المعارضة والحكومة وجهًا لوجه
تتهم قيادات حزب الشعب الجمهوري الحكومة باستخدام القضاء لاستهداف مسؤولي المعارضة
المنتخبين، مشيرة إلى أن حملة الاعتقالات بحق رؤساء البلديات المعارضين تأتي في
إطار خطة أوسع لتحييد المعارضة قبل أي انتخابات عامة مقبلة بالبلاد.
وعلى المقابل تنفي الحكومة التركية هذه الاتهامات وتؤكد استقلال السلطة القضائية،
خاصة أنها قضايا تتعلق بالفساد والرشاوى المالية وليست قضايا ذات طابع سياسي، وقد
أكد الرئيس التركي "أردوغان" في أكثر من مرة عبر تصريحات مختلفة له على أن هذه
القضية قد تم فتحها من الأساس عبر أنصار حزب الشعب الجمهوري أنفسهم، حيث إنهم هم من
جاءوا إلى الادعاء العام وقاموا بإجراء البلاغ وقدموا عددًا من المستندات والوثائق
التي تدين المتهمين، ولذلك طالب أردوغان الأصوات التي تؤكد على تسييس القضية أن
يقوموا بتقديم الأدلة التي لديهم والتي تثبت براءة المتهمين بها لتأكيد براءتهم
وإخراجهم من محبسهم، وهو الأمر الذي لا يلقى ردًا من قبل المعارضة عليه، مما يُعد
إشارة ضمنية منهم على اعترافهم بأن الوثائق المقدمة صحيحة وأنهم لا يملكون ما يثبت
عكس ذلك، بل ومن اللافت أن زعيم المعارضة "أوزيل" قد وصف في أحد اللقاءات من قدموا
هذه الوثاق بـ"الأغبياء"، وهو التصريح الذي يمكن فهمه في سياق الاعتراف بصحة ما
تؤكده الحكومة بخصوص هذه القضية.
رسائل من السجن
نقلت عدد من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء التركية تصريحات لأكرم إمام أوغلو قال
من خلالها أنه يقضي معظم وقته في السجن في قراءة القرآن الكريم، وبالأخص قراءة
الآيات التي تتحدث عن العدالة، وذكر أنه أحضر جميع دواوين الشاعر "ناظم حكمت"
ووضعها بجوار سريره لمطالعتها، وصرح أيضًا بأنه بدأ بقراءة كتاب صغير في عدد صفحاته
لكن عميق جدًا في فكره وهو كتاب يتحدث عن المتصوف التركي الشهير "حجي بكتاش ولي".
تندر الكثيرون من هذه التصريحات وتناولوها على سبيل الضحك والسخرية، ولكنها في
حقيقة الأمر تصريحات لها أبعاد ودلائل وتحمل رسائل لعدة فئات بعينها، فمَنْ لديه
اطلاع بالثقافة التركية ومن خلال معرفته بهذه الأسماء المذكورة في تصريحات إمام
أوغلو، سيدرك أنه قد غازل بهذه التصريحات القليلة 3 شرائح في وقت واحد.
فنجد أن تصريحه الأول حاول عن طريقه استعطاف الإسلاميين ومغازلتهم بمختلف توجهاتهم
(سواء مؤيدين أو معارضين)، أما تصريحه الثاني فسعى عبره إلى مغازلة التيار اليساري؛
لأن الشاعر "ناظم حكمت" يُعد رمزًا لليساريين الأتراك، أما تصريحه الثالث والأخير
فحاول من خلاله استقطاب فئة العلويين الأتراك؛ وذلك لأن المتصوف الشهير "حجي بكتاش
ولي" يُعد رمزًا للعلويين في تركيا.
وبالتالي فتصريحه هذا يُعد ذكيًا لأنه حاول من خلاله استقطاب ثلاث فئات مختلفة من
مكونات الشعب التركي بشكل غير مباشر، وذلك من خلال إعطائه معلومة لما يقوم به في
محبسه فقط.
الأمر الآخر الذي يجب التنبه والتطرق إليه وهو أن "أكرم إمام أوغلو" ما زال يستخدم
حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل اعتيادي وبكل أريحية ويخاطب الجماهير كما
يشاء، وبالمناسبة فقد غرد عبر حساباته داعيًا الشعب التركي للمشاركة في المقاطعة
التي دعا لها زعيم المعارضة "أوزغور أوزيل" والتي سبق الحديث عنها والتطرق إليها.
وبعد أيام قليلة من حبسه في سجن "سيليفري" شديد الحراسة، كتب "إمام أوغلو" مقالًا
بخط يده في سجنه وأرسله إلى صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية الشهيرة وتم نشره
بالفعل، وقد خاطب عبر مقاله هذا أيضًا عددًا من فئات المجتمع التركي إلا أنه قد وقع
في خطأ كبير عندما خاطب قادة الغرب وأوروبا مطالبًا إياهم بالتدخل للإفراج عنه،
خاصة أنه محبوس على ذمة قضايا فساد لا قضايا تحمل طابعًا سياسيًا، وهو الأمر الذي
ستنظر إليه عدة فئات من مكونات الشعب على أنه بمثابة فتح مجال أمام الجهات الخارجية
_وخاصة قادة أوروبا والدول الغربية_ للتدخل في الشأن الداخلي للبلاد.
كلمة أخيرة
لقد حرصت المعارضة التركية على لعب دور "المظلوم والضحية" لكسب التعاطف الممكن من
خلال هذه الأزمة التي عصفت بشكل جاد بأركان الحزب وتركته في مهب الريح، خاصة أن
إمام أوغلو قد شكّل مجموعات مقربة منه بشكل فجّ، جعل الكثيرون يستاءون منه ويقدمون
بلاغات للتخلص من ذاك الرجل الذي قضّ مضجعهم وأذهب مصالحهم التي كانوا ينتظرونها
بفارغ الصبر، ولكن تصعيد المعارضة لم يكن متدرجًا أو ذا خطة واضحة المعالم لتحقيق
أكبر قدر من المكاسب، بل كان أشبه ما يكون بالتصعيد من أجل التصعيد، ولو لاحظنا
سنجد أنه ربما أصبحت الحكومة أحد أكبر المنتفعين من تصعيد المعارضة؛ بسبب كثرة
الأخطاء المتتالية وخاصة تلك الأخطاء التي تزعج المواطن غير المحسوب على طرف ما.
وخلاصة القول: إذا استمرت المعارضة التركية في اتباع نفس الإستراتيجية التي سارت
عليها حتى الآن فستخسر المزيد بالتأكيد، لا سيما أن تحالفها الذي كانت تعتمد عليه
سابقًا والمكون من عدة أحزاب قد انفرط عقده بعد قرب عقد مصالحة سياسية بين الحزب
الكردي (حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب) والحكومة التركية، وهو الأمر الذي من شأنه
أن يؤثر في جدوى وفعالية تحركات المعارضة خاصة بعد انسحاب الحليف الأهم والأكثر
عددًا في تحالفاتها السابقة.