لا تعيش حربًا تقليدية بقدر ما تواجه محاولة منهجية لإعادة صياغة وجودها الجغرافي والبشري، ومع دخول المعركة مراحلها الأخيرة في مدينة رفح جنوبًا، يتضح أن ما يجري يتجاوز العمل العسكري إلى هندسة سياسية تسعى لإنتاج واقع جديد في القطاع
بينما تُطوِّق القوات
الإسرائيلية مدينة رفح من كل اتجاه، وتُنشئ محورًا جديدًا يعزلها عن امتدادها
الجغرافي والسكاني في قطاع غزة، تتصاعد الأسئلة الكبرى حول الغاية الحقيقية من هذا
التمركز العسكري الكثيف: هل تسعى إسرائيل إلى فرض واقع ديموغرافي جديد يمهد لاقتلاع
المدينة من عمقها الفلسطيني؟، وهل يتحوّل "محور موراغ" من ممر عسكري إلى حدود فعلية
تفصل الجنوب عن سائر القطاع؟، وكيف يمكن قراءة هذا التطويق في سياق أوسع يتجاوز
الاعتبارات الأمنية، ليطال بنية المكان وسكانه وتاريخه؟ في قلب هذه التحولات
الميدانية، يبدو أن رفح تدخل طورًا غير مسبوق من الاستهداف، حيث تتقاطع خرائط النار
مع خرائط السياسة، ويُعاد رسم الجنوب الفلسطيني وفق منطق العزل والإخضاع والتهجير
الصامت.
خـنق رفـح
منذ بداية عدوانها على
قطاع غزة، اختارت إسرائيل أن تجعل مدينة رفح آخر المحطات في حربها المستمرة، لكنها
اختارت أن تكون هذه المحطة أعنفها وأعمقها تأثيرًا في البنية السكانية والجغرافية
للقطاع. فبينما كان يُظن أن الهدف العسكري هو ضرب البنية التحتية لحركة حماس، يتضح
الآن أن الأهداف تتجاوز حركات المقاومة المسلحة إلى إعادة رسم خريطة القطاع
ديموغرافيًا وجغرافيًا، فتطويق رفح مؤخرًا لم يكن مجرد مناورة عسكرية، بل مقدمة
لخطة أكبر تتضمن اقتلاع السكان وفرض واقع حدودي جديد، ومع استكمال "محور موراغ"
الذي يفصل رفح عن خان يونس، أصبح واضحاً أن إسرائيل لا تستهدف حركة حماس فحسب، بل
تسعى إلى تفكيك نسيج غزة، وتحويل المدن إلى كانتونات مفصولة، يسهل التحكم بها
والسيطرة على إمداداتها.
يرتبط هذا التوجه بخطط
طويلة الأمد لوضع مدينة رفح ضمن ما يُعرف بـ"المنطقة العازلة"، أي منطقة خالية من
السكان أو ذات كثافة منخفضة، ما يفتح الباب أمام تهجير قسري واسع النطاق، وتسويق
ذلك على أنه جزء من سياسة أمنية، رغم أنه من حيث الجوهر يمثل تطهيرًا ممنهجًا للأرض
من سكانها. وتندرج هذه الخطط ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى خنق قطاع غزة
بالكامل، لا فقط عبر القوة العسكرية، بل أيضًا من خلال أدوات الحصار الطويل الأمد،
الذي شلّ الاقتصاد، وأفقر السكان، وأجهز على البنية التحتية الصحية والتعليمية،
وجعل الحياة اليومية فعل مقاومة بحد ذاتها.
إن ما يجري في رفح ليس تطويقًا بل خنقًا مقصودًا، يستهدف جعل المدينة غير صالحة
للحياة، عبر ضرب الخدمات والمرافق والبيئة المجتمعية، تمهيدًا لإفراغها من سكانها، وفرض واقع جديد لا يعترف
بوجودهم أصلاً، بل يسعى لمحوهم من الجغرافيا والذاكرة معًا.
محور موراغ
كانت "موراغ" إحدى أوائل
المستوطنات الزراعية التي أنشأتها إسرائيل في جنوب قطاع غزة بعد احتلاله عام 1967م،
وجاء تأسيسها في سياق استراتيجية تطويق القطاع بشبكة من المستوطنات الصغيرة ذات
الطابع الزراعي والعسكري، تهدف إلى خلق وقائع ميدانية تحول دون أي انسحاب مستقبلي،
وقد مُنحت موراغ أهمية رمزية تتجاوز مساحتها المحدودة، إذ كانت بمثابة رأس رمح
لمشروع الاستيطان الإسرائيلي في غزة، وقد تعاقب على إدارتها نُخب استيطانية متدينة
تبنّت فكرة استصلاح الأرض الموعودة كجزء من عقيدة دينية وسياسية لا تعترف بوجود
الفلسطينيين كأصحاب للأرض.
|
هذا النموذج يندرج ضمن مشروع سياسي بعيد المدى، يرمي إلى إلغاء الوجود
الفلسطيني في غزة، مع مرحلة أولى تقوم على تحويل هذا الوجود إلى طيف من
التجمعات البشرية التي تنتظر المعونات |
كانت المستوطنة محاطة
بجدران أمنية ونقاط مراقبة دائمة، ومعززة بوحدات عسكرية لحماية عشرات العائلات التي
استوطنتها، وشكّلت بؤرة احتكاك دائم مع البلدات الفلسطينية المجاورة.
في عام 2005م وضمن خطة
"الانفصال أحادي الجانب" التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون، تم
إخلاء مستوطنة موراغ في لحظة فارقة في وعي الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، إذ إن
الانسحاب من موراغ ومثيلاتها في قطاع غزة لم يكن نتيجة مفاوضات، بل قرارًا
استراتيجيًا منفردًا هدفه تقليص الكلفة الأمنية والبشرية للاحتلال في القطاع، وقد
رافق عملية الإخلاء صدامات بين جيش الاحتلال والمستوطنين الذين رفضوا مغادرة
منازلهم، معتبرين الخطوة خيانة لرؤية "أرض إسرائيل الكاملة"، لكن إسرائيل، ولأول
مرة بهذا الوضوح، اختارت المنفعة الأمنية على حساب العقيدة الأيديولوجية، لتتحول
موراغ بعد إخلائها إلى رمز للثمن الباهظ الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل، أما في
الذاكرة الفلسطينية فقد ظلت موراغ وأخواتها شاهدًا على هشاشة المشروع الاستيطاني
حين يصطدم بإرادة الصمود ومأزق الاستمرار.
لا شك أن إعادة تسمية
المحاور الأمنية الآن وفق أسماء مستوطنات سابقة تحمل رسالة سياسية بالغة، فإسرائيل
لم تتخل عن مشروعها الاستيطاني، وإنما تؤجل بعض عناصره وتعيد توظيفه في الوقت
المناسب، "موراغ" ليست مجرد اسم، بل استعادة لذاكرة استعمارية تسعى لإعادة ترسيخ
فكرة الهيمنة والسيادة على الأرض، والهدف من هذا المحور الآن لا يقتصر على العزل
العسكري بين رفح وخان يونس، بل يمتد إلى تحقيق مكاسب استراتيجية بعيدة المدى،
حيث تستطيع إسرائيل قطع طرق الإمداد، ومراقبة حركة السكان، ومنع أي تواصل جغرافي
بين مناطق القطاع. وهذا يشبه نموذج الضفة الغربية، حيث حولت إسرائيل المدن إلى جزر
معزولة يسهل التحكم بها، إضافة إلى ذلك، فإن سيطرة إسرائيل على هذا المحور تتيح لها
إعادة توزيع السكان ضمن سياسة "المناطق الآمنة"، التي لا تعني سوى طرد السكان إلى
مناطق ضيقة ومكتظة، بحجة توفير الحماية، بينما هي في الواقع استراتيجية خنق جماعي
تهدف إلى تحطيم الإرادة المجتمعية، وتسهيل التهجير في وقتٍ لاحق، في هذا السياق
يتحول محور موراغ إلى أداة مزدوجة: فهو من جهة خط عسكري، ومن جهة أخرى رمز لسياسة
إعادة الهيمنة على الأرض وتفكيك الجغرافيا الفلسطينية.
إعادة تشكيل
غزة
التحول الأخطر الذي تكشفه
الحرب الغاشمة الحالية على غزة ليس فقط في عدد الضحايا أو حجم الدمار، وإن كان هذا
لا يمكن إغفاله بأي حال، ولكن الكارثة الكبرى أيضًا تكمن في المعمار السياسي الجديد
الذي تُراد له غزة: لا عودة إلى ما كانت عليه، بل تحول إلى جزر بشرية محاصرة، مقطعة
الأوصال، تُدار عبر مسارات الإمداد والتحكم، ومن ثمَّ التهجير وتفريغ القطاع من
سكانه، ووفقًا للتقارير فإن إسرائيل تسعى إلى تقسيم غزة إلى مناطق منفصلة، حيث يعيش
الفلسطينيون في تجمعات ساحلية ضيقة، بعد أن يُطردوا من المدن والبلدات الرئيسية،
وخاصة رفح، هذا النموذج يعيد للأذهان أسوأ نماذج الفصل العنصري في التاريخ، ويفرض
واقعاً تتبدد فيه فكرة المدينة، لتحل مكانها معسكرات مكتظة وفقيرة، والهدف ليس فقط
عزل الناس، بل جعل الحياة مستحيلة في مناطقهم الأصلية، تمهيداً لتهجيرهم، فبجعل
الماء نادرًا، والطعام شحيحًا، والدواء نادرًا، تتحول الحياة اليومية إلى صراع من
أجل البقاء، ما يضعف الروح العامة ويهدم البنية النفسية لأي مقاومة.
هذا النموذج يندرج ضمن مشروع سياسي بعيد المدى، يرمي إلى إلغاء الوجود الفلسطيني في
غزة، مع مرحلة أولى تقوم على تحويل هذا الوجود إلى طيف من التجمعات البشرية التي
تنتظر المعونات، وتُدار
عبر السيطرة العسكرية لا السيادة السياسية، ولأن هذه الخطة لا يمكن أن تُمرر إلا في
ظل تواطؤ دولي، فإن إسرائيل تعتمد على انشغال المجتمع الدولي بأزماته الاقتصادية،
ووجود حليف قوي في البيت الأبيض وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يدعم تهجير
سكان غزة وجعلها منطقة عقارية فاخرة تدرّ الأرباح، كما أن بعض السياسيين في واشنطن
يرون في الحرب
الحالية على غزة
فرصة لإعادة رسم
الخارطة السياسية للمنطقة، بما يخدم مصالح أمريكا على المدى الطويل.
المنطقة
العازلة: حدود جديدة
المنطقة العازلة التي تسعى
إسرائيل إلى إنشائها بين محوري فيلادلفيا وموراغ، والتي تضم رفح وأجزاء من خان
يونس، تمثل في حقيقتها حدوداً جديدة تُرسم بالنار، وتُفرض بالقوة، خارج أي اتفاق أو
تفاوض. هذه المنطقة التي تصل مساحتها إلى 75 كلم مربع، تشكل نحو 20% من مساحة غزة،
ويجري تجهيزها لتكون منطقة خالية من السكان، بذريعة الأمن، لكن في الواقع تمثل هذه
الخطة توسعة خفية للحدود، وتغييراً في المعادلات الجيوسياسية للمنطقة، الخطر الأكبر
في هذا التحول أنه يجري من طرف واحد، وفي ظل غياب أي ضغط دولي حقيقي، بمعنى أن
إسرائيل باتت ترى أن بإمكانها إعادة ترسيم الجغرافيا السياسية لغزة دون أي مساءلة.
ومن خلال هذه المنطقة
العازلة، تخلق إسرائيل حاجزاً جغرافياً وسياسياً يفصل غزة عن مصر، ما يضعف البعد
العربي للقضية، ويزيد من عزل القطاع، ويحوّله إلى كيان مشوّه، لا هو جزء من فلسطين
الموحدة، ولا هو مرتبط فعلياً بعمقه العربي، والأدهى أن إقرار هذا الواقع الجديد
سيكون كارثة جيوسياسية، لأنه سيُشرعن نموذج تفكيك الأراضي بالقوة، ما سيؤثر لاحقاً
على الضفة الغربية والقدس.
سيناريوهات
مفتوحة على الكارثة
منذ السابع من أكتوبر،
وغزة لا تعيش حربًا تقليدية بقدر ما تواجه محاولة منهجية لإعادة صياغة وجودها
الجغرافي والبشري، ومع دخول المعركة مراحلها الأخيرة في مدينة رفح جنوبًا، يتضح أن
ما يجري يتجاوز العمل العسكري إلى هندسة سياسية تسعى لإنتاج واقع جديد في القطاع،
ولم تعد الأسئلة المطروحة تتعلق فقط بمآلات الحرب الحالية، بل بما بعدها: من سيحكم
غزة؟ وكيف ستُدار؟ وهل ستبقى غزة أصلًا كما عرفها العالم؟ أم أننا أمام لحظة تفكيك
بطيء لمجتمع كامل تحت عناوين أمنية وإنسانية؟ هذه الأسئلة تمثل جوهر النقاش حول
مستقبل القطاع، وهي أسئلة لا يملك أحد إجابات قاطعة عليها، لكنها تُختبر يوميًا على
الأرض بالنار والحصار والهدم، وفي ضوء ذلك يمكن قراءة مستقبل غزة من خلال ثلاثة
سيناريوهات رئيسية، تختلف في درجة تحققها، لكنها تظل جميعًا مرتبطة بمصير رفح،
باعتبارها آخر العقد الاستراتيجية التي يحاول الاحتلال فكّها بالقوة:
* السيناريو الأول:
استمرار الحرب
يُعد استمرار الحرب
السيناريو الأكثر دموية، والأقرب إلى الواقع الحالي، خاصة في ظل إصرار إسرائيل على
أنها لم تحقق بعد أهدافها الاستراتيجية، وفي مقدمتها تفكيك بنية حماس العسكرية
واستعادة الرهائن، هذا السيناريو لا يعني فقط استمرار العمليات العسكرية في رفح، بل
توسيعها لتشمل إعادة الاحتلال المباشر لمناطق سبق انسحاب الجيش منها، مما يطيل أمد
المعركة ويزيد من كلفتها الإنسانية والسياسية على حد سواء، وفي هذا السياق تتحول
غزة إلى ساحة اختبار لفرض نموذج جديد من الردع، يقوم على التدمير الشامل لا للقدرات
العسكرية فقط، بل للمجتمع المدني والبيئة السكانية، بهدف تفكيك الحاضنة الشعبية
للمقاومة.
* السيناريو الثاني: تهدئة
مؤقتة
يقوم هذا السيناريو على
فرض هدنة محدودة، تتضمن اتفاقًا إنسانيًا يشمل تبادلًا للأسرى، وفتحًا جزئيًا
لمعابر الإغاثة، وربما وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار، وهذا السيناريو قد يبدو واعدًا
للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة لا يرقى إلى كونه تحولًا سياسيًا، بل هو مجرد محطة
استراحة قصيرة يعيد فيها كل طرف حساباته الميدانية والسياسية، فإسرائيل ستستفيد من
الهدوء لإعادة التموضع على الأرض، وترميم قواتها، وتوسيع مشروع المنطقة العازلة
بصمت، دون ضجيج المعارك. وفي المقابل قد تُستخدم هذه الهدنة دوليًا كـ "إنجاز
إنساني" يُسوّق لإخفاء فشل المجتمع الدولي في وقف الحرب بالكامل. كما أن هذه الهدنة
لن تُفضي إلى اتفاق طويل الأمد، ما دامت لا تتناول جذور الأزمة، وفي مقدمتها
الاحتلال والحصار. بمعنى آخر، فإن هذا السيناريو لن يوقف النزيف، بل يؤجله، بينما
يبقى الواقع على حاله: غزة محاصرة، مدمرة، تنتظر جولة قادمة من القصف، وربما أخطر.
* السيناريو الثالث: واقع
ما بعد الحرب
السيناريو الأخطر والأكثر
غموضًا هو الدخول في "مرحلة ما بعد الحرب" بدون إطار سياسي واضح أو اتفاق نهائيـ في
هذا السيناريو يُعاد تعريف قطاع غزة ككيان هشّ يخضع لاحتلال مباشر، أو حتى غير
مباشر، بمعنى لا وجود إسرائيلي دائم على الأرض، لكن هناك تحكم كامل بالمنافذ،
والمعابر، والمساعدات، والحركة السكانية، ما يعني أن إسرائيل تدير غزة من الخارج،
عبر أدوات الحصار والابتزاز، وتُخضعها لنظام مراقبة صارم يجعل من كل شيء من الخبز
إلى الدواء رهينة للإرادة الإسرائيلية. وفي هذا الواقع، تتحول غزة إلى منطقة معزولة
أشبه بمحمية بشرية، تُدار بشروط أمنية، وتُمنع من النهوض أو الإعمار أو ممارسة أي
شكل من أشكال السيادة، ثم ينتهي الأمر في نهاية بتهجير السكان وبناء مدينة جديدة
تابعة لإسرائيل، ستكون بحسب وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هي "ريفييرا الشرق
الأوسط".
ما يجري في رفح ليس معركة
موضعية، بل مؤشر على مصير غزة بأكملها، وإذا لم يتم تدارك الوضع دولياً، فإن نموذج
رفح سيتكرر في خان يونس، ثم في غزة المدينة، حتى يتحول القطاع إلى مجرد مساحة بشرية
هامشية تُدار بالمعونات والرقابة الأمنية، المؤسف أكثر أن الزمن لا يعمل لصالح غزة،
ومع كل يوم يمر تزداد كلفة إعادة البناء، ويتعزز المشروع الإسرائيلي الهادف إلى
إنهاء الكيان السياسي والمجتمعي لغزة، وتحويله إلى حالة إنسانية دائمة بلا أفق
سياسي.