• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
معركة الشريعة وحق استرداد الهوية

معركة الشريعة وحق استرداد الهوية


إن العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ليست مجرد حنين عاطفي إلى الماضي القريب من جانب الشعوب المسلمة، وإنما هي استرداد لحق مسلوب، وإحياء للذات التي مُحيت والهوية التي فُقدت! فقد عاش المسلمون ونَعِمَ معهم غيرهم في كنفهم بالعدل والحياة الكريمة، في ظل شريعة القسط والرحمة، 13 قرناً من الزمان، كان الحكم فيها لله رب العالمين، غير أن أعداء الإسلام - تحركهم الأحقاد والكراهية والرغبة في الانتقام - سعوا إلى ضرب الإسلام في عقر داره للقضاء على عقيدته وشريعته؛ فكانت الحروب الصليبية التي أنهكت المسلمين على مدى مائتي عام، ثم كانت حقبة الاستعمار الغاشم، والتي كان هدفها الأول محو الإسلام شكلاً ومضموناً. وإذا كان أعداء الإسلام قد خسروا في جولتهم الأولى وهي الحروب الصليبية ولم يحققوا أهدافهم ودفعوا ثمناً باهظاً بسبب جهاد أهل البلاد؛ فإنهم قد كسبوا الجولة الثانية بسبب تغيير أدوات الصراع، والذي مر بمراحل متعددة، وبيان ذلك فيما يلي:

1 - مرحلة التجهيز والدراسة والتمهيد: وتمثلها الحملة الفرنسية عام 1798م، وكانت كارثة على مصر، وليس المقام بيان فظائع هذه الحملة، وما فعله جنودها وقادتها في المصريين، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر؛ يقول العلامة الجبرتي في كتابه المسمى «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»: (ثم دخلوا الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والكتبة ونهبوا ما وجدوه، ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وتغوطوا وبالوا...) الجزء الثالث - تاريخ الجبرتي، ص 36، مطبعة الأنوار المحمدية.. وكان الهدف الأساس للفرنسيين في هذه الحملة القضاء على الأزهر؛ لأن منه يتخرج القضاة الشرعيون والعلماء الدينيون، ولسرقة كتب التراث، ثم دراسة أحوال البلاد «جغرافياً» وسكانياً، ولعل كتاب وصف مصر الذي أُحرق مؤخراً في المجمع العلمي بالقاهرة - ومات رئيسه حزناً عليه - قد أفاد بعد ذلك الاحتلال الإنجليزي؛ فالهدف واحد والسعي مشترك!

2 - مرحلة الإجهاز والهدم والإزالة: وتمثلها فظيعة الاحتلال البريطاني عام 1882م، والذي جاء ليرسم «خريطة» تقسيم العالم العربي، وليؤسس أنظمة موالية، وليتولى بنفسه منظومة التحول إلى عصر جديد لا وجود للإسلام فيه! وجاء الاحتلال وهو يعرف أين يضع أقدامه؛ فقد مهد له وساعده أعوانه من بني جلدته أمثال «ألفريد بلنت» مؤلف كتاب (التاريخ السري لاحتلال مصر - راجعه ووافق عليه الشيخ محمد عبده، الناشر: مكتبة الآداب القاهرة)، والذي تجول في أنحاء العالم العربي ليدرس ويسجل أحواله، يقول «بلنت»: (أبحرت من إنجلترا في خريف 1880 إلى مصر وليس لي قصد غير الذهاب منها إلى جدة للتعلم والدرس استعداداً لما عسى أن يعرض في المستقبل من الفرص...) ص 74، والذي أنشأ علاقة صداقة ومودة مع الشيخ محمد عبده يعبر عنها في كتابه - ص 80 بقوله: (إنني رأيت الأستاذ الشيخ محمد عبده في منزله الصغير بحي الأزهر للمرة الأولى في 28 يناير سنة 1881م، وهذا يوم يجب على أن أميزه على سائر الأيام؛ لأنه فتح لي باب صداقة بقيت الآن ربع قرن مع رجل من أحسن وأحكم الرجال العظام...). وقد استفاد بلنتمن عبده ما نصح به مواطنيه الإنجليز؛ وفي ذلك يقول: (وقد شرحت الآراء كما تعلمتها من الشيخ محمد عبده أستاذ المدرسة الجديدة الحرة، وتوسلت إلى مواطنيّ بكل ما فيهم من خير أن يعطفوا على آمال أحرار المسلمين ويؤيدوهم ضد الرجعيين ذوي المكائد والتعصب الأعمى الذين يلجؤون في آخر الأمر إلى حل مشكلاتهم الإصلاحية بحد السيف...) ص 92، كما مهد له وأرشده وسانده القبط من أهل البلاد! ولا يتسع المجال الآن لبيان دور القبط في مساعدة المحتلين! ومع بواكير الاحتلال توالت الكوارث؛ ففي عام 1883م تم إصدار لائحة المحاكم الوطنية، والتي مهد لها نوبار باشاوزير إسماعيل المسيحي بإنشاء المحاكم المختلطة عام 1875م بالاشتراك مع المحامي الفرنسي مانوري، وبذلك حلت المحاكم الوطنية الأجنبية محل المحاكم الشرعية الإسلامية، وتدعيماً لهذا المسلك تم إنشاء مدرسة القضاء، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الألسن؛ لتخريج متخصصين في القوانين الوضعية الغربية، واستكمالاً للمخطط الاستعماري الغاشم تبنّى عملاء الاحتلال منظومة الشعارات التي تصب في صبغ الحياة بالصبغة الغربية، مثل: الدين لله والوطن للجميع، مصر للمصريين، تحرير المرأة، المساواة بين الرجل والمرأة، القومية، والوطنية... وعلى طريقة الهدم ثم البناء كان لا بد من الترويج للنظم والمذاهب الغربية، ومنها ما تم نقله إلى العربية بشحمه وعظمه: كـ الديمقراطية، فلم تترجم إلى لفظة عربية! والليبرالية، فلم تترجم إلى الحرية أو التحرر! بخلاف العلمانيةالتي أخطؤوا في ترجمتها؛ فهي بلغتهم «secularism»، وتعني: اللا دينية، ولا تعني (العلم) «sience»، ولا أظن أن ذلك كان على سبيل الخطأ، لكنه على سبيل العمد بقصد التضليل!

3 - قيام ما سمي ثورات التحرير: فبعد أن سارت الأمور على ما أراد وخطط لها الاستعمار، وتعالت أصوات المطالبين بالجلاء؛ كان السؤال لمن ستسلم مقاليد الأمور لضمان ألا تضيع إنجازات الاحتلال من إقصاء الشريعة واستمرار التبعية والمحافظة على النمط الغربي وألا تعود العجلة إلى الوراء؛ وذلك بعدم السماح لأي اتجاه إسلامي بالظهور أو حتى الوجود؟! وقد وقع الاختيار على مجموعة من العسكر، وقام بالاختيار والاتفاق وتولي إدارة عملية التسليم، الاستعمار الجديد، وهو الأمريكي، الذي ساند وأيَّد القادة الجدد؛ يقول “جايل ماير“ في كتابه «الولايات المتحدة وثورة 23 يوليو 1952» ترجمة د. عبد الرؤوف أحمد عمر، الهيئة المصرية للكتاب، ص 64: (لقد أكد مايلز كوبلاند، الدبلوماسي الأمريكي وعضو المخابرات C.I.A، أن من الضروري مساندة وتأييد القادة الجدد الذين سيتولون السلطة في مصر، وعقد كوبلاند عدة اجتماعات مع روزفلت، عضو المخابرات، ومندوبين عن الضباط الأحرار في وقت مبكر في مارس 1952، وفي مايو 1952 بعث السفير الأمريكي جيفرسون كافري بتقرير مؤكداً أن الجيش قادر الآن على حسم الموقف وتشكيل حكومة وطنية تستطيع القوى الغربية أن تبدأ معها محادثات ناجحة، وأعلن رسمياً أن الملحق العسكري البحري “دافيد إيفانز“ كان على صلة وثيقة بالضباط الأحرار ليلة الانقلاب...)، وفي أول تصريح لقادة الثورة، وذكره “ماير“، (أن الضباط الأحرار يبغضون الاتجاه الشيوعي وكذلك جماعة الإخوان المسلمين)، وحدث الانقلاب، وكان أول ما فعله القادة الجدد هو إلغاء ما تبقى من الشريعة الإسلامية، خصوصاً في قوانين الأسرة (الأحوال الشخصية)، والتي ناضل من أجل عودتها علماء أجلاء، ودعاة مخلصون، ومسلمون غيورون، وبُذلت جهود وقُدمت تضحيات، وظهرت جماعات وتعالت أصوات تطالب بعودة الشريعة الإسلامية، إلا أن النظم التي قامت على قهر شعوبها، وطمس هويتها، وتحطيم ذاتيتها، وحالت بينها وبين أن تحكم بشريعة ربها؛ كانت – دائماً – سداً مانعاً رافضاً كل محاولة وكل نداء للحكم بشريعة الله!.. وفي هذه المرحلة الحرجة التي هبت فيها الشعوب المسلمة رافضة الظلم والقوانين الوضعية، مطالبة وراغبة في عودة أحكام الإسلام؛ ثبت للعالم أجمع في سابقة لم تحدث في واحدة من قارات الأرض الخمس، أن الغالبية الساحقة من الشعوب اختارت الإسلام، وتريد أن تحكم بشريعة الله، فهل سيقدِّر النظام العالمي إرادة تلك الشعوب، وهل سيتعامل مع ما أسفرت عنه النتائج والأحداث، وهل سيعترف بحق المسلمين في أن يحكموا بشريعتهم، وهو الذي يتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان؟ أم أنها حرية وحقوق للإنسان غير المسلم؟.. أليس من حقنا استرداد ذاتنا وهويتنا؟.. وفي الختام، فإني أطالب الدول التي استعمرت بلادنا وغيّرت هويتنا وبدّلت شريعتنا بالاعتذار عما بدر منها وسلف، وأتمنى ألا تتعامل تلك الدول بعقلية الماضي!

:: مجلة البيان العدد  317 محرم 1435هـ، نوفمبر  2013م.

 

أعلى