إننا إذًا أمام ما يُسمَّى بثورة الاتصالات، التي على إثرها أضحت المعرفة تتدفق، وأصبح تناولها قريب المأخذ دون عَنَت؛ فلم يَعُد البحث عن معلومة أو فكرة أمرًا يتطلب وقتًا وجهدًا وانتقالاً يُنفق لأجله صاحبُهُ العمرَ والمالَ، لكن بالتوازي مع ذلك كله صِرْنا أمام
تعتمد منظومة الاتصال اللغوي بين بني البشر على عناصر ثلاثة أثيرة:
- مُرسِل.
- رسالة.
- مُرسَل إليه.
وإذا ما نظرنا إلى الرسالة الواصلة بين الطرفين نجد أن الفضاء الحامِل لها لم يتجمَّد عند شكلٍ ثابتٍ، بل اتَّسم بالتنوُّع عبر الزمن؛ فوجدنا الوسيط الورقي، والسمعي، والمرئي، وأخيرًا الوسيط الإلكتروني الذي يأخذنا إلى شبكة الاتصال الرقمية العالمية (الإنترنت).
وفي عالمنا العربي كان تدفُّق المعرفة منذ عصور بعيدة يعتمد على آليتين بارزتين:
الآلية الشفاهية المعتمِدة على السماع والحفظ والنقل اللساني، وتلك كانت سمة التسجيل المعرفي لعصور طويلة منذ ما يُسمَّى بالعصر الجاهلي، وصولاً إلى العصر العباسي؛ حيث أزمنة التدوين التي تَميَّز بها القرنان الثاني والثالث الهجريان على وجه الخصوص.
وهنا ننتقل إلى العهد الورقي؛ عهد النقل المعرفي الذي كان الكِتَاب فيه، ولزمن طويل حتى العهد الحاضر، يُشكّل سلطة غالبة في الأوساط الثقافية العربية. والكتاب هاهنا نستطيع أن نقول: إنها كلمة جامعة لكل فضاء ورقيّ يحمل مادة معرفية، أيًّا كان اتجاهها، فالصحيفة والدورية بمختلف إصداراتها؛ أسبوعية كانت أو شهرية، أو فصلية أو نصف سنوية، والكتاب بهيئته التقليدية كلها تندرج تحت ما يسمى (مكتوب).
ولم يبقَ الحال على ما هو عليه، لا في عالمنا العربي، ولا في العالم بأَسْره؛ لقد انتقلت الأسرة البشرية على امتدادها واختلاف بيئاتها المكانية والثقافية إلى حقبة جديدة، لا تزال تعيشها، وتعيش التأثيرات الناجمة عنها حتى الآن؛ ألا وهو العهد الرقمي، الذي صار فيه الوسيط الإلكتروني -أو لو شئنا قلنا الشاشة المموّهة، أو الشاشة متغيِّرة التصميم والألوان- غوايةً تشدّ إليها الملايين أو المليارات من البشر حول العالم، مع تنوُّع فضاءات الاتصال المنضوية تحتها؛ كالفيس بوك وتويتر، وتليجرام، وإنستجرام، ووتساب... وغيرها، مع الانتقال من الشكل التقليدي المتعارف عليه منذ أزمنة غارقة في القدم في عمر البشرية لوسيلة نقل الرسائل، إلى ما يسمى بالبريد الإلكتروني الذي تتشعب أشكاله[1].
إننا إذًا أمام ما يُسمَّى بثورة الاتصالات، التي على إثرها أضحت المعرفة تتدفق، وأصبح تناولها قريب المأخذ دون عَنَت؛ فلم يَعُد البحث عن معلومة أو فكرة أمرًا يتطلب وقتًا وجهدًا وانتقالاً يُنفق لأجله صاحبُهُ العمرَ والمالَ، لكن بالتوازي مع ذلك كله صِرْنا أمام حقيقة تَفرض نفسها، بالنظر إلى عالمنا العربي تحديدًا الذي يُعدّ جزءًا من هذه القرية الصغيرة المسماة (عالم)، بعد أن أمسى لوسائل الاتصال الحديثة سطوتها على الحياة، وما يترتب عليها من أداءات سلوكية[2]؛ هذه الحقيقة تقول: إننا أمام إعادة تصنيع للشخصية العربية في ضوء عملية فَرْز وترتيب لسُلّم الأولويات والاهتمامات، في ثنايا هذه العملية نجد أنفسنا أمام كيانات بشرية لا طاقة لها على القراءة، ولا صبر لها على الإمساك بكتاب ورقيّ، وإن كان متوسّط الحجم أو حتى صغيره؛ لقراءته، والإمعان في محتواه.
إننا هاهنا نقسم القراءة قسمين: القراءة المُطالِعة القائمة على التصفح والانتقال. والقراءة المتأنية الواعية المؤسَّسة على الاستيعاب، وتقريب محتوى رسالة الكاتب إلى عقل القارئ.
إن فضاءات الاتصال الرقمي بأنواعها فرضت -ولا تزال- أسلوبًا مُحدَّد المعالم على مرتاديه المتعلقين به؛ قوامه الاختصار والسرعة في الانتقال التي لا تُتيح وقوفًا متأنيًا أمام المادة المعرفية المعروضة، هذا إذا افترضنا في هذه المادة طولاً نسبيًّا من حيث الحجم[3].
بالتوازي مع هذه الحال، صرنا على موعد مع اتساع وتمدُّد مُبالَغ فيه لشريحة الكُتَّاب؛ لقد كانت الكتابة فيما مضى سلوكًا يمكن نَعْته بالنخبوي، مقصورًا على شرائح بعينها من مُمْسكي القلم، أما الآن، وفي زماننا هذا، فقد صار كل جمهور الإنترنت لهم حسابات على وسائل الاتصال المنضوية تحته، وكلهم أمسوا كُتّابًا! هنا نجد أنفسنا أمام مفارقة تقوم على اجتماع النقيضين؛ تمدُّد دائرة الكتابة، وتناقص مساحات القراءة إلى حد كبير.
لقد صار للكتابة بريق وغاوية تشدّ إليها كل أفراد هذا الجمهور، ونجم عن ذلك أننا صِرْنا على موعد مع: من يحب أن يُرَى -بضم الياء- لا أن يَرَى ويَقرأ -بفتحها-، وبموازاة ذلك تراجعت نسبيًّا منزلة الورقيَّات الحاملة للفِكْر بأنواعها.
هنا نختم المقال بسؤالٍ لا يزال يبحث عن جواب: هل من حلٍّ لتلك المشكلة؟
[1] انظر: د. أحمد يحيى علي، أعمال ندوة الثقافة العربية في ظل وسائل الاتصال الحديثة، ص222، 223، 224، عدد 79، 2011م، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[2] انظر: عمر زرقاوي بن عبد الحميد، العصر الرقمي وثورة الوسيط الإلكتروني، ص112، 113، 114، العدد الأول، 2009م، مجلة المخبر، جامعة بسكرة، الجزائر.
[3] انظر: د. أحمد يحيى علي، أوراق نقدية، 53، 54، إصدار أغسطس، 2023م، سلسلة الرافد الرقمي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.