جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بإحسان الظن بالآخرين؛ حتى تقطع الطريق على الشيطان أن يُفْسِد علاقات الناس بعضهم البعض، وإذا فسدت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان فَقَدَ النصير والحبيب
لما كانت العلاقات بين المسلمين بعضهم البعض علاقات مشروعة؛ فقد أرشدنا الله إلى
تعميقها وتقويتها؛ لما فيها من التعاون والتناصر والولاء؛ كما قال تعالى:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]،
وجاء في السُّنَّة النبوية:
«الْمُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»
(صحيح مسلم: 2585).
وفي ذلك من التعارف الذي أمر الله به في قوله -سبحانه-: {وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]؛ ليكون هناك في المقابل قيود
شرعية وضوابط أصلية يتوقف عليها سلامة البنيان؛ من هذه القيود المهمة: إحسان الظن
بالآخرين، وعدم إساءة الظن بهم في قولٍ أو فعلٍ أو تصرُّف؛ لأن الأصل في المسلم
براءة ذِمّته من كلّ ما يشوّش عليها أو يَطالها بسوء.
ويَعتبر الإسلام سوء الظن جريمةً متكاملة الأركان قد تؤدي بصاحبها ومقترفها إلى
دائرة العقاب الأخروي، لما يترتب عليها من المفاسد التي لا يمكن تداركها أو علاجها
من قطع الروابط ووقوع التنافر والتباغض، واتساع دائرة العداوة ممَّا يتسبّب في فقد
الولاء والنصرة والنصح والإخاء الذي أُمِرَ به المسلم نحو أخيه المسلم.
ومن هنا جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بإحسان الظن بالآخرين؛ حتى تقطع
الطريق على الشيطان أن يُفْسِد علاقات الناس بعضهم البعض، وإذا فسدت علاقة الإنسان
بأخيه الإنسان فَقَدَ النصير والحبيب؛ فيَبقى وحده مُنبتًّا مقطوعًا فيأكله الذئب
مع من يأكل ويُضِلُّه شيطانه ويُبْعِده عن سواء السبيل.
ففي الحديث الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يطوف بالكعبة، ويقول:
«ما
أطيبك! وأطيب ريحك! ما أعظمك! وأعظم حُرمتك! والذي نفس محمد بيده لحُرْمة المؤمن
أعظم عند الله حرمةً منك؛ ماله ودمه، وأن يُظَنَّ به إلا خيرًا»
(رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الترغيب).
ومن هنا جاءت التوجيهات النبوية الكريمة مُحذِّرة ومُخوِّفة من عاقبة سوء الظن؛ ففي
الحديث الذي أخرجه البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إيَّاكُمْ
والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ»
(صحيح البخاري 6724).
والمسلم الكريم لا يُمارس الكذب ولا يتأول فيه، والظن بالناس من غير بينة هو أشد
أنواع الكذب؛ لأنه يجعل المفسدين في الأرض يستمرؤون اللَّغط والقول والطعن بغيرهم..
لقد عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الظن السيئ.. وهو الذي لا دليل عليه، بل هو
محض افتراء وافتئات على غيره بما يثيره ضده من شبهة في عِرْض أو مال أو اعتقاد؛
فيأتي في الحديث بصيغة أفعل التفضيل
«أكْذَبُ
الحَديثِ»؛
أيّ شرّ كَذِب يُفْتَرى.
ولِمَ لا يكون كذلك؟ وقد يترتَّب عليه إفساد امرأة على زوجها، أو تشريد أطفال صغار
وفكّ عروة الميثاق الغليظ، بل قد يؤدي سوء الظن إلى إقامة حدّ على بريء، أو ارتكاب
جريمة لم تتوافر أركانها إلا في مخيلة الظانّ وحده فيدفعه سوء الظن -وهو أكذب
الحديث- إلى إشاعة الفاحشة بأهل الإيمان وهم فوق مستوى الشبهات؛ لأنهم موطن القدوة،
وعلامات الفضيلة، ومنارات الهدى.
وقد عاتب القرآن الكريم الصحابة في حادث الإفك، وكيف أنهم لم يدفعوا تلك الفِرْيَة
وهذه الشبهة كما فعل أبو أيوب وزوجته -رضى الله عنهما- ونزل فيهما قوله تعالى:
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ
خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12]، والآية أصلٌ في أنَّ
درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن، ولُبْسَة
العفاف التي يَستتر بها المسلم لا يُزيلها عنه خبرٌ محتمَلٌ، وإن شاع؛ إذا كان أصله
فاسدًا أو مجهولًا»
(أحكام القرآن للقرطبي 2/203).
لقد وقع ذلك في المجتمع الأول -خير القرون- بل وفى أشرف بيت (بيت النبوة)؛ حاك هذه
الفرية وتطاول بها نفَرٌ من المنافقين الموتورين الكارهين لما أنزل الله.. لقد كان
بيت النبوة هو الواجهة التي تصدّ الفتن لينزل التشريع بَعدها بَرْدًا وسلامًا على
القلوب المؤمنة ونبراسًا يضيء الطريق أمام السائرين إلى الله، وفي الوقت نفسه يقطع
الطريق على المُرْجفين والحاقدين.
ولقد عالَج الإسلام هذه الجريمة التي جعلت بيت النبوة يغلي على مِرْجَل، ولحكمة
يعلمها الله أن يبطئ الوحي بنزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يصعد صلى
الله عليه وسلم المنبر، ويقول في غضب:
«مَن
يَعْذِرُنَا في رَجُلٍ بَلَغَنِي أذَاهُ في أهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ
مِن أهْلِي إلَّا خَيْرًا، ولقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلَّا خَيْرًا»
(صحيح البخاري: 2637).
إنّ سوء الظن بالمسلم خطيرٌ، وأخطر منه أن يُسَاء الظن بالقادة من المسلمين
والفاتحين وموضع الثقة ومحل الوفاء، لتبقى الجريمة في حقهم أكبر، والتعدي عليهم
أشنع؛ وذلك لهزيمة الأتباع أمام القدوة وانهيار جانب التأسي، قال النحاس المفسِّر
المصري:
«أوجب
الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحدًا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به
أن يُنكروا عليه ويُكذِّبوه»
(فتح القدير للشوكاني ص1001).
فليس من عجب أن يكون سوء الظن جريمة، وأن يكون العقاب عليها دنيويًّا وأخرويًّا..
وكيف غاب عن بعض المسلمين ذلك وهو ما عاتبهم القرآن الكريم عليه بقوله: {لَوْلَا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
وقد أفرزت هذه الجريمة (جريمة سوء الظن بالمسلمين) التي وقعت كذبًا وبهتانًا على
بيت النبوة ثلاثة أصناف من البشر:
- نوع آثر السلامة، وتَمثَّل ذلك في أسامة بن زيد -رضي الله عنه-:
«فأمَّا
أُسَامَةُ فَقالَ: أهْلُكَ، ولَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا»
(صحيح البخاري: 2637)، وكذا فعلت زينب بنت جحش -رضي الله عنها-:
«فَقَالَتْ:
يا رَسولَ اللَّهِ، أحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي، واللَّهِ ما عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلَّا
خَيْرًا»
(صحيح البخاري:2661).
- والنوع الثاني أخذ موقف الدفاع عن القدوة باستعمال النظر العقلي والشرعي للوصول
إلى الحقيقة الواضحة المُبرَّأة من الطعن عليها أو مصادمتها. وتمثَّل ذلك في موقف
الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- فيما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير
وابن المنذر عن بعض الأنصار أنَّ امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما
قالوا:
«ألا
تسمع ما يقـوله الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكـذب، أكـنتِ فاعلـةً ذلـك يـا أم
أيـوب؟ قالت: لا والله. قال: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منك وأطيبُ، وإنما هذا كذبٌ وإِفك
وباطل».
- وأخيرًا موقف الفريق الصامت الذي آثر الصمت من هَوْل ما سمع، وكان عليه أن يرد
الأمور إلى نصابها كما فعل
«أبو
أيوب»
.
يعاتبهم القرآن الكريم ويزيد في لومهم {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُّبِينٌ} [النور: 12]؛ فلولا هذه التحضيضية تأكيدٌ للتوبيخ والتقريع، ومبالغة
في معاتبتهم؛ أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الافك أن يقيسوا ذلك على
أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد منهم؛ فهو في أُمّ المؤمنين أبعدُ»(فتح
القدير للشوكاني: 4/13).
يقول الإمام الغزالي:
«فلا
يُستباح ظنُّ السُّوء إلا بما يُستباح به المال، وهو نفس مُشاهدته أو بيِّنةٍ
عادلةٍ. فإذا لم يكن كذلك، وخطر لك وسواس سوء الظَّن، فينبغي أن تدفعه عن نفسك،
وتقرِّر عليها أنَّ حاله عندك مستور كما كان، وأنَّ ما رأيته منه يَحتمل الخير
والشَّر. فإنْ قلت: فبماذا يُعرف عقد الظَّن والشُّكوك تختلج، والنَّفس تُحدِّث؟
فتقول: أمارة عقد سوء الظَّن أن يتغيَّر القلب معه عما كان، فينفِر عنه نُفُورًا
ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقُّده وإكرامه، والاغتمام بسببه. فهذه أمارات
عقد الظَّن وتحقيقه»
(إحياء علوم الدين للغزالي: 5/533).
ولقد تعلم الجيل الصالح من سلف الأمة هذا الدرس، حتى إن أحدهم أراد أن يُطلِّق
زوجته؛ فقيل له: ما الذى يَريبك فيها؟ فإذا به يقول لمُحدِّثه: العاقل لا يَهتك ستر
امرأته، وبعد أن فـرغ مـن طـلاقها سُئـل: لماذا طلقتها؟ فكان ردّه أعجب؛ قال: ما لي
ولامرأة غيري!!.. يفعل ذلك حتى لا يدع للشيطان مسلكًا أو طريقًا ينفذ منه لتشريح
غيره والنَّيْل منه.
وإنَّا لنجد من أدب الرواة الذين نقلوا إلينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
رغم أنَّ مَهمتهم أن يتعرّضوا للرجال في سلسلة الحديث من حيث جَرْحهم أو تعديلهم؛
فإذا بهم لا يقولون بأنَّ فلانًا هذا كذّاب، بل تجدهم يقولون: فلان حديثه ليس بشيء،
فيه كلام، سكتوا عنه.
إنَّ هذا الأدب العالي لا يمكن أن يَصْدر إلا عن المسلمين الفاقهين العالمين الذين
عناهم الله بقوله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وما على المسلمين اليوم إلا أن يُنقّبوا البحث، ويفتّشوا في صفحات التاريخ ليروا
فيه أنفسهم؛ لأن التاريخ هو المرآة التي يرى فيها الإنسان نفسه في أيّ طريق يقف،
وإلى أيّ أُفُق ينظر، وفي أي ميدان يُقاتل..
إنها أخلاق الإسلام ومبادئه تحتاج إلى رجال ينثرون عطرها وأريجها بين الناس، وذلك
أضعف الإيمان.