• - الموافق2025/08/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
معركة ملاذ كرد

سبب هذه المعركة أنَّ السلطان ألب أرسلان أراد تطهير البلاد من دَنس الشيعة البويهيين في العراق والفاطميين في الشام ومصر، فبدأ بالعراق، وقبل أن يصل إلى مصر أراد تأمين الحدود الشرقية فثنَّى بحلب فحاصرها في سنة ثلاث وستين وأربعمئة


حينما نشرع في الكلام عن معركة ملاذكرد فإننا نتكلم عن معركة فاصلة في تاريخ الإسلام، لا تقل قيمةً عن معركة القادسية وحطين، مع فارق الزمن والقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أشبه ما تكون بحطين؛ فالعدو هو العدو، والأبطال هم الأبطال، مع فارق الصحبة وحال القرب من النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنّ التكتيكات الحربية والإعدادات للمعركة تكاد تكون واحدة، ونسبة المسلمين بالنسبة إلى الروم تكاد تكون واحدة، بل هي أقل في معركة ملاذكرد، ونتائج المعركة واحدة.

وبطل هذه المعركة هو السلطان ألب أرسلان، ومكان المعركة هو ملاذكرد، وأغلب كتب التاريخ تذكر هذا الاسم، وبعضهم يسميه ملازكرد ومنازكرد ومناذِكرد ومنازجرد وملسجرد وملاسكرد، وكثرة الأسماء تدل على عِظَم المسمى، وهو بلد مشهور بين خِلاط وبلاد الروم، ويُعدّ في أرمينية، وأهله أرمن وروم[1].

سبب هذه المعركة أنَّ السلطان ألب أرسلان أراد تطهير البلاد من دَنس الشيعة البويهيين في العراق والفاطميين في الشام ومصر، فبدأ بالعراق، وقبل أن يصل إلى مصر أراد تأمين الحدود الشرقية فثنَّى بحلب فحاصرها في سنة ثلاث وستين وأربعمئة، فاستسلموا له منقادين، وبهذا اقتربت حدود الدولة السلجوقية من حدود الدولة الرومانية، وباتت دولة سلجوق السُّنِّيَّة تُهدِّد كيان الإمبراطورية البيزنطية، فجاءت الروم بقَضّها وقضيضها بقيادة ملكها أرمانوس في مائتي ألف من الفرنج والروم والترك والمرتزقة، وغيرهم؛ قاصدين بلاد الإسلام، حتى وصل ملاذكرد، وهي بلدة من أعمال خلاط في أرمينيا، فحاصرها وضيَّق عليها ومَلَكها عنوةً وقهرًا، وخافه المسلمون في أقطار الأرض، وصارت سائبة لا تمتنع عليهم يقصدونها متى شاءوا[2].

وكان السلطان ألب أرسلان، قد غادر حلب إلى أذربيجان في خواصّ جنده، وجموع عساكره بعيدة عنه، فبلغه كثرة جموعهم، وليس معه من عساكره إلا خمس عشرة ألف فارس، ولم يَر العود إلى بلاده، فرأى أن الإمهال للحشد والجمع لا ينفع بل يضر؛ فقصدهم، وقال: أنا ألتقيهم صابرًا محتسبًا، فإن سلمت فبنعمة الله تعالى، وإن كانت الشهادة فابني مُلكشاه ولي عهدي[3].

ثم سار مُرتِّبًا جيشه قاصدًا جموع الروم. وكان ملك الروم قد ارتكب خطأً حربيًّا؛ إذ قسَّم جيشه قسمين فأضعف جيشه؛ قسم تحت إمرته هو، حاصر به ملاذكرد، وقسم تحت إمرة بعض قواد جيشه في عشرين ألف مُدرّع من شجعان عسكره، وقيل عشرة آلاف، ومعهم صليبهم الأعظم، رمى به المسلمين في خِلاط إحدى أعمال أرمينيا فحاصروها.

وعندها سار السلطان ألب أرسلان قاصدًا مَلِك الروم، وأرسل أحدَ الحُجَّاب الذين كانوا معه في جماعة من الغلمان مقدمةً له، فصادف عند خِلاط صليبًا تحته مُقدَّم الروم في عشرة آلاف، فحاربهم، فنُصِرَ عليهم، وأسر المُقدَّم، وكان من الروس، وأخذ منه الصليب، وبعث إلى السلطان بذلك، فاستبشر، وقال: «هذه أمارة النصر»[4].

وأرسل الصليب الذي كان في صحبته إلى نظام الملك في همدان، وأمره بإرساله إلى دار الخلافة في بغداد مُبشِّرًا بالفتح. وفي المقابل نزل ملك الروم بحيشه الثاني على منازكرد فأخذها بالأمان وقصد ناحية السلطان في موضع يُعرَف بالرَّهوة بين خِلاط ومنازكرد، وكان مع جيش الروم ثلاثة آلاف عَجَلة تحمل الأثقال والسلاح والمجانيق وآلة الزحف، وكان من جملتها منجنيق بثمانية أسهم تحمله مائة عجلة، ويمد فيه ألف ومائتا رجل، وزن حجره بالرطل الكبير قنطار، وكان في عسكره خمسة وثلاثون ألف بطريق، وكان في خزانته ألف ألف دينار ومئة ألف ثوب إبريسم، ومن السُّروج الذهب والمناطق والمصاغات مثلُ ذلك، وكان قد أقطع البطارقةَ البلاد، مصر والشام وخراسان والري والعراق، وحمل العسكر من أموالهم ما قدروا عليه.

فلمَّا رأى المسلمون منهم هول ما رأوا سلموها إليهم بالأمان؛ خوفًا من معرة جيوشهم إن استولوا عليهم، وذلك في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة.

فلما أصبحوا بكرة الخميس وصل السلطان ألب أرسلان في بقية عساكره، فنزل على النهر، وملك الروم على موضع يعرف بالزهوة في مائتي ألف فارس، والسلطان في خمسة عشر ألفًا، فلمَّا تقارب الجمعان، أرسل السلطان رسولاً حمَّله سؤالًا وضراعةً، ومقصوده أن يكشف أمرهم، ويختبر حالهم ويقول لملك الروم: «إن كنت ترغب في الهدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها وكلنا الأمر إلى الله -عز وجل-».

فقال أرمانوس: «لا هدنة إلا بالري». فانزعج السلطان، فقال له إمامه أبو نصر محمد بن عبدالملك البخاري الحنفي: «إنك تقاتل عن دينٍ وَعَد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالْقهم يوم الجمعة بعد الزوال، والناس يدعون لك على المنابر في أقطار الأرض»[5].

فلمَّا كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا فأمَّنوا، فقال لهم: إلى متى نحن في نقص وهم في زيادة؟ أريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي جميع المسلمين يدعون لنا على المنابر، فإن نُصِرْنا عليهم وإلّا مضينا شهداءَ إلى الجنَّة، فمن أحبَّ أن يتبعني فليتبَعْ، ومن أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر ولا ينهى، وإنما أنا واحد منكم، وقد فتحنا على المسلمين ما كانوا عنه في غَنَاء. وألقى القوس والنِّشاب، وأخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعَل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنَّط، وقال: «إن قُتِلْتُ فهذا كفني»[6].

وأقام الفريقان يوم الخميس على تعبئة الصفوف.

فلما أصبحوا يوم الجمعة ركب السلطان بجموعه وركبت الروم فتواقفوا، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلمَّا قاربهم ترجَّل وعفَّر وجهه بالتراب وبكى، وأكثر الدعاء، فلما حان وقت الزوال نزل السلطان عن فرسه، وأحكم مدّ حزامه، وتضرع بالدعاء إلى الله تعالى، ثم ركب وفرَّق أصحابه فِرَقًا؛ كل فرقة منهم لها كمين، ثم استقبل بوجهه الحرب.

وحمل ملك الروم بجمعه، فاستطرد المسلمون بين أيديهم، وصاحوا صيحة واحدة ارتجت لها الجبال وكبّروا، وصاروا في وسط الروم، وصدقوا اللقاء، وقتلوا الروم كيف شاءوا واستجروهم إلى أن صار الكمين من ورائهم، ثم خرج الكمين من خلفهم، وردّ المسلمون في وجوههم، وامتلأت الأرض بالقتلى، فأنزل الله نصره، وكُسِرت الروم، وتبعهم السلطان بقية نهار الجمعة وليلة السبت يَقتل ويأسر، فلم ينجُ منهم إلا القليل، وغنموا جميعَ ما كان معهم، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وسيطروا على آسيا الصغرى، فضمُّوا إلى ديار الإسلام مساحة تزيد على 400 ألف كم مربع، وغنموا ما لا يُعدّ كثرةً ولا يُحْصَى عددًا وعُدةً.

ورجع السلطان إلى مكانه، فدخل عليه كوهرائين وهو قائد بالجيش، فقال: إنَّ أحد غلماني قد أَسَرَ ملك الروم. وقِيدَ المَلِكُ أسيرًا إلى بين يدي السلطان. ومن عجيب الاتفاق ما حُكِيَ أنه كان لكوهرائين مملوك أهداه لنظام الملك وزير السلطان، فرده عليه فجعل يُرَغِّبه فيه، فقال نظام الملك مستهزئًا به: وماذا عسى أن يكون من هذا المملوك، يأتينا بملك الروم أسيرًا؟!

ثم أُنسي هذا الحديث إلى أن كان في هذه الحادثة فاتفق وقوع ملك الروم في أَسْر ذلك الغلام، فخلع السلطان عليه، وبالَغ في إكرامه، وحَكَّمه في طلبه واقتراحه، فطلب بشارة غزنة، فكتب له بذلك.

ولما أحضر ملك الروم بين يدي السلطان ألب أرسلان ضربه ثلاثة مقارع بيده، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيتَ؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد.

فقال له السلطان: فلو كان الظَّفرُ لك ما كنتَ تفعل بي؟ قال: القبيح. فقال: آهٍ، صدق وَالله، ولو قال غير هذا لكذب، هذا رجل عاقل جلد، لا يجوز أن يُقتل. ثم قال له: وما تظن الآن أن أفعل بك؟

فقال: إمَّا أن تقتلني، وإمَّا أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي وردّي إلى مُلكي مملوكًا لك نائبًا في ملك الروم عنك. فقال: ما اعتزمتُ فيك إلا هذا الذي وقع يأسك منه، وبَعُد ظنك عنه، فهات الأموال التي تفك رقبتك.

فقال: يقول السلطان ما شاء، فقال: أريد عشرة آلاف ألف دينار. فقال: والله إنك تستحق مني ملك الروم إذا وهبتَ لي نفسي، ولكني قد أنفقت واستهلكت، ففدا نفسه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار، وبكل أسير في مملكته، وأن يرسل إليه عساكر الروم أيّ وقت طلبها، فخلع عليه، وهادنه خمسين سنة، فقال: أين جهة الخليفة، فعرّفوه. فكشف رأسه وأومأ إلى الجهة بالخدمة، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله السلطان خيمته وأرسل عليه عشرة آلاف دينار يتجهّز بها، وأطلق له جماعة من البطارقة، وشيَّعه فرسخًا[7].

وأمَّا الروم فلمَّا بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فمَلك البلاد، فلمَّا وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر، فلبس الصوف وأظهَر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يُعرّفه ما تقرَّر من السلطان، وقال: «إن شئت أن تفعل ما استقر، وإن شئت أمسكت، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر، وطلب وساطته وسؤال السلطان في ذلك. وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك[8].

وختامًا، لقد كانت هذه الملحمة من أعظم الفتوح في الإسلام، ولله الحمد والمنة.


 


[1] معجم البلدان لياقوت الحموي، دار صادر، 5/ 202، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م.

[2] الكامل في التاريخ لابن الأثير، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، 7/291، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ/ 1997م.

[3] انظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي، 21/ 6، المكتبة التوفيقية.

[4] مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط بن الجوزي، 19/ 235، دار الرسالة العالمية، دمشق - سوريا، الطبعة: الأولى، 1434هـ- 2013م.

[5] زبدة الحلب في تاريخ حلب لعمر بن أحمد بن هبة الله، ص178، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1996م، والكامل في التاريخ لابن الأثير، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، 8/223، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ/ 1997م.

[6] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، 21/ 6، ومرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 19/236.

[7]-الكامل في التاريخ، 8/224.

[8]-الكامل في التاريخ، 8/225.

 

 

أعلى