استخدام الشافعي للفظة «ناظرت» دالٌّ على أن المناظرة نهج أهل العلم في تراثنا الإسلامي، بل هي من سُبُل التعلم، وتنهض في تاريخنا بكونها سبيلاً لتبيان الحقائق والمعرفة العميقة
إن شرط الاختلاف في الحوار، أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، وهنا تأتي أهمية
مقولة الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
«ما
ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفَّق ويُسدَّد ويُعان، ويكون عليه من الله رعاية
وحفظ. وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه»،
وكان الشافعي يقول لصاحبه الربيع:
«لو
قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك»[1].
فالشافعي - رضي الله عنه - يضع أساساً لفقه الحوار في منظور الرؤية الإسلامية؛ أَلا
وهو ابتغاء الحق أيّاً كان وليس الانتصار في الجدال، فالحقيقة غاية ينشدها الشخص
المتجرِّد لها، وليست المسألة على أي لسان تأتي، ولكن الوصول إليها هو المبتغى من
أي حوار.
واستخدام الشافعي للفظة
«ناظرت»
دالٌّ على أن المناظرة نهج أهل العلم في تراثنا الإسلامي، بل هي من سُبُل التعلم،
وتنهض في تاريخنا بكونها سبيلاً لتبيان الحقائق والمعرفة العميقة، ولها آداب وقواعد
ومجالس تتضمن أسئلة وأجوبة، وشخصيات محايدة محكِّمة، تحدد نقاطَ التناظر ومحصلَته.
والمقولة السابقة تتركز على ما قبل المناظرة، وفيها يتمنى الشافعي الخير لمن
يناظره، ويدعو الله أن يسدده، ويتمنى لو جاء الحق على لسانه.
أما بعد المناظرة، فنورد مقولتين للشافعي: أولاهما:
«ما
أوردتُ الحق والحجة على أحد؛ فقبلها مني إلا هبتُه واعتقدتُ مودَّته. ولا كابرني
أحد على الحق، ودفع الحجة الصحيحة إلا سقط من عيني ورفضته».
وثانيتهما:
«ما
نظر الناس إلى شيء هم دونه، إلا بسطوا ألسنتهم فيه»[2].
المقولة الأولى عن الحُجة والدليل أنهما أساس المناظرة، ومِن قبلهما ابتغاء الحق،
فمَن قَبِلَها على الفور واقتنع بها - في منظور الشافعي - فهو من أهل العقل وطلَّاب
العلم، لذا يأمل أن يفوزَ بودِّه، ويترسخَ التقدير له في قلبه، والعكس قائم لمن رفض
الحجة، وجادل واتخذ المراء نهجاً، فهو لن ينال محبة ولا تقديراً في نظر الشافعي.
والمقولة الثانية عن العامة تحديداً، عندما تُعرض عليهم موضوعات هي من نقاش الخاصة،
ستكون أعلى منهم، وهم أدنى منها، والغريب أنهم لن يصمتوا عنها، وإنما ستتعاورها
ألسنتهم، وتدخل في لغطهم، وتؤدي إلى بلبلة عقولهم، وهذا ما نسميه: خوض العامة في
مسائل الخاصة.
وفي مناظرات الشافعي نماذج رائعة، منها مناظرته مع بشر المريسي ومحمد بن الحسن،
وكان الشافعي قد علا شأنه في العراق والشام واليمن، وصار حديث الناس لِسَعة علمه
وفقهه، فلما تناظر الشافعي مع الاثنين في مجلس هارون الرشيد، وكانت مناظرة طويلة،
نقف منها عند سؤال بشر المريسي للشافعي: أخبرني ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟
فقال الشافعي: يا بشر، ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم، إلا أنه لا بد لي
أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت[3].
ثم استفاض الشافعي في الرد والبسط، بحجج دامغة، وبلاغة ظاهرة، لا مجال لذكرها هنا.
ولكن يجدر بنا التوقف عند الرد الأولي للشافعي على بشر؛ ففيه كثير مما يستفاد في
فقه الحوار والمناظرات، وأهم ما في ذلك أن الشافعي بمقولته:
«يا
بشر! ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم»،
كان واضحاً مباشراً فقد قوَّم بِشراً، وأخبره أنه يسأل سؤالاً يوهم السامع أنه عالم
في المسألة، والحقيقة أنه متعالم متفيقه، فهذه من أسئلة (الخواص، النخبة،
الفلاسفة)، وبشر ليس منهم، فلا يحق له مناظرة الشافعي بعلم لا يمتلكه. ثم قال
الشافعي:
«إلا
أنه لا بد لي أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت»،
ومقصوده أنه سيجيبه على قدر مستوى معرفته المتواضع، ولن يمتنع عن الإجابة تعالياً
عليه، وستكون إجابته بأسلوب ميسَّر، كي يعيَ ما يقول. وهو ما قام به الشافعي بعدما
أعلم الحضور جميعاً حجم من يحاوره وأنه أراد المجادلة ليختبر الشافعيَّ، فحوَّل
الشافعيُّ الدفة للانتصار للحق، وإفادة السامعين.
إن أهم ما يستفاد من هذا الموقف أمران أساسيان:
الأول:
أن نعرف حجم مَن نناظره: قدراته، علمه، عقله، نفسيته. ولا بأس من إعلامه بذلك، حتى
لا يتكبر وهو غضٌّ.
والثاني:
أن الجواب لن يكون للسائل فقط، ولا على قدر علمه، وإنما لمن حضر المناظرة ليسمع،
فرب سامع أوعى من محاور.
ما تقدم من حديث الشافعي يقودنا إلى قضية مهمة في آداب الحوار؛ ألا وهي سلبية تلحق
ببعض المتحاورين عندما يلجأ إلى الابتعاد عن الوضوح في العرض، ويكون الغموض نهجاً
له؛ كي يُشعر الآخرين المستمعين بأهميته الفكرية، والمبالغة في وزنه الثقافي... فهي
عملية إبهار مسبقة لا أكثر.
لعل من المناسب هنا استحضار المقولة التراثية التي ذكرها ابن أبي الدنيا:
«البلاءُ
مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ»،
والمراد به التحذير من سرعة النطق بغير تثبُّتٍ؛ خوفَ بلاءٍ لا يُطيق دفعه. فالعبدُ
في سلامةٍ من أمره ما سكت، فإذا نطق عُرف ما عنده بمحنة النطق، فيتطرَّق للخطر[4].
فالحديث ينصرف إلى التحذير من آفات اللسان: الكذب، الغيبة، النميمة، الفتنة... إلخ،
فإذا قرأناه في ضوء أدب الحوار، فسيكون الحوار فرعاً من كل، بمعنى أن الحوار
باللسان، ومن المهم أن يتجنب المحاور الجاد الصادق مثلَ هذه الآفات، التي هي آثام
في المنظور الشرعي، وسلبيات في فن المحاورة؛ فمن اعتاد الكذب في حوار، فلا مصداقية
له. وتلك مشكلة لا يعيها كثير من الشخصيات الشهيرة، التي تراهن على نسيان المستمع
لِـمَا قالت عندما تبدل كلامها وتكذب وتغير، وتنسى أن الكذب مسألة تراكمية مثله مثل
الصدق أيضاً، وأن الإنسان موقف وعليه دفع ثمن مواقفه. وهنا تأتي دلالة الحكمة
«البلاءُ
مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ»،
فالبلاء هنا شامل كافة أشكال الاختبار، التي قد تكون بعذاب في الآخرة، أو بفتنة في
الدنيا.
والأمر نفسه على المنطق الذي هو كل ما هو منطوق من قِبَل الفرد، فيما يتفوه به في
حياته، أو يقوله في حواراته، أو يدوِّنه في حساباته على مواقع التواصل
الاجتماعي.
[1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم، مكتبة
الخانجي، دار الفكر، القاهرة، 1416هـ، 1996م: 9/ 118.
[2] المرجع السابق: 9/ 118.
[3] المرجع السابق: 9/83.
[4] فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين السيوطي،
والشرح للعلامة المناوي، محمد المدعو عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة للطباعة
والنشر، بيروت، ط2، 1391هـ، 1972م: 3/ 222.