وقد بدأت بالتوحيد وخُتمت به في إشارة واضحة إلى مصدر تلك الأخلاق، وتحديد وجهة الأمة، ولم تفرق الآيات بين ما هو عقدي أو شعائري أو اجتماعي أو اقتصادي، فهي كلها عبادة لله الواحد، فإذا تمثلت الأمة هذه الأخلاق صارت من العباد الشكورين الذين يتأهلون لتنزُّل النصر
تمر الأمة الإسلامية بمرحلةٍ احتدَم فيها الصراع مع اليهود المنتسبين زورًا إلى التوراة ونبيها الكليم موسى -عليه السلام-، ويجدر بنا أن نتأمل في تلك المرحلة في سورة الإسراء؛ لأنها تناولت تجربة فريدة من تجارب بني إسرائيل في إقامة الدولة والحكم، ولأنها نزلت في مرحلةٍ احتدَم الصراع فيها بين الإسلام وخصومه في مكة، لا سيما بعد وفاة سنَدَيْه الخارجي والداخلي المتمثلين في عم النبي أبي طالب وزوجه خديجة -رضي الله عنها-، ونالت قريش منه ما لم تنله قبل ذلك، فأسرفوا في إيذائه، ووقفوا عقبةً كؤودًا في طريق الدعوة، فضاقت مكة به ذرعًا، فيمَّم وجهه نحو الطائف ومعه حِبّه ومولاه زيد بن حارثة؛ عسى أن يجد فيهم مَن يستجيب للحق، لكنَّ القوم كانوا لئامًا؛ فلم يستجيبوا له، وأغروا به سفاءهم وعبيدهم؛ يرمونه بالحجارة حتى أدموه، وعاد إلى مكة مهمومًا محزونًا.
وعقب هذه الشدائد والآلام كانت رحلة الإسراء والمعراج، وبعدها نزلت سورة الإسراء؛ تثيبتًا وتكريمًا وتسريةً للنبي ولمن معه من المؤمنين، وفي الوقت ذاته ترسم قوانين النصر والهزيمة.
بين يدي السورة
هذه السورة مكية، آياتها بلغت إحدى عشرة ومائة آية في عدّ أهل الكوفة، وفي ترتيب النزول موقعها بعد سورة القصص، وقبل سورة يونس، وفي ترتيب المصحف تقع بعد سورة النحل، وقبل سورة الكهف، وترتيبها السابعة عشرة في المصحف العثماني، والخمسون في ترتيب النزول.
ومن يتأمل فيها يرى أن موضوعها المحوري هو الكتاب السماوي المتمثل في الوحي الإلهي على مر الأجيال، وفي القلب منه القرآن الكريم -كلمة الله الأخيرة إلى قيام الساعة-.
كما أنها تناولت عدة أنواع من الكتب؛ منها: كتاب موسى «التوراة»، وكتاب الله الأزلي القديم «اللوح المحفوظ»، وكتاب الله الأخير «القرآن الكريم»، وكتاب الحسنات والسيئات.
كما تحدثت السورة الكريمة عن تجربة بني إسرائيل في إقامة الحُكْم المُؤسّس بالوحي والمؤتمن عليه، وعن حتمية الصراع بين اليهود والمسلمين، ورسمت طريق النصر، وسننه الإلهية التي تتحكم في قوانين النصر والهزيمة على مر العصور وكَرّ الدهور؛ لتبقى ماثلة أمام المسلمين في كل جيل، ويتحقق لهم النصر على أعدائهم العتاة ما تمسكوا بها، فاشتملت على الحديث عن العقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق وطبائع الإنسان التي يجب أن يتخلَّى عنها، إلى غير ذلك من نواميس قيام الممالك وزوالها.
وسُمِّيت السورة الكريمة بعدة أسماء؛ أشهرها اسم الإسراء؛ لما تضمنته من الافتتاح بالحديث عن معجزة الإسراء، وهي آية كبرى تملأ القلب باليقين والثبات، وتؤكد قداسة الأرض التي انتهى إليها الإسراء، وتُعْلِي قَدْر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وتُسمَّى سورة بني إسرائيل؛ لتعرُّضها لتجربة من تجارب بني إسرائيل في الحكم وإقامة الدولة؛ لم تُعرَض إلا في هذه السورة الكريمة.
وتسمى أيضًا سورة سبحان؛ لضخامة الحدث العظيم المتمثل في رحلة الإسراء، وما وقع فيها من الآيات والعجائب التي تدل بوضوح على عظيم القدرة الإلهية.
تأملات في السورة الكريمة
افتُتحت السورة بالحديث عن معجزة الإسراء التي ابتدأت من المسجد الحرام، وانتهت بالمسجد الأقصى، ومن يتأمل في فترة وقوع الإسراء الزمنية يجدها وقعت في فترةٍ اشتدَّ الخناق فيها على النبي ودعوته ومن ومعه، وبلغ الإيذاء مَداه، فجاءت هذه الرحلة المباركة مسحًا لآلام الماضي، وتثبيتًا لآمال المستقبل، قال تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
ومن يتأمل الآية الكريمة يجد أن الرحلة ابتدأت بمسجد وانتهت بمسجد، ولا يخفى ما فيه من الإشارة إلى دور المسجد في الانطلاق والاستخلاف في الأرض، وتحقيق الوراثة الدينية والدنيوية وتثبيت دعائمها، والربط بين المسجدين يشير إلى ربط عقائد التوحيد ببعضها من لدن إبراهيم -عليه السلام-، حتى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانتقال مسؤولية الكتاب السماوي ووراثة النبوات من بني إسرائيل إلى أُمَّة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لكون بني إسرائيل لم يُحسنوا حمل أمانة الاستخلاف.
ثم انتقل السياق للحديث عن بني إسرائيل مباشرة، ذاكرًا تجربة من تجاربهم مع الوحي الإلهي-الكتاب السماوي-، وإقامته منهجًا في الحياة؛ لأن التوراة جاءت دِينًا ودُنيا، مع تنصيصٍ واضح على ذِكْر الكتاب السماوي والعبودية في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا 2 ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 2-3].
ومن ينظر في حال بني إسرائيل يرى أنهم ما رعوها حق رعايتها، بل وقع منهم الفساد والإفساد والعلو والاستكبار، فعُوقبوا بزوال دولتهم، وتسليط الأجنبي عليهم، فأذاقهم الويلات؛ لأن الدول والممالك إذا اختلت أمورها احتُلَّت أرضها، وهذا درس يجب أن نَعيه نحن -المسلمين- بالذات، وهو سُنّة من السنن الإلهية الماضية إلى يوم القيامة؛ فإن مَن ابتُلي بوراثة الرسالة والوحي يجب عليه أن يرعاها حق رعايتها، ولا يظنّن أنها عرض قريب أو سفر قاصد، أو مغنم دنيوي، وإنما هي مسؤولية وأمانة، ومنهج تطبيق، وتطبيق منهج، وإلا زالت ودالت؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إِنْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: 4-7].
ولسنا بحاجة أن نبحث عن المرة الأولى والثانية، ويكفينا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، فمن أفسد لم يصلح لحمل أمانة الاستخلاف، وانتقلت لغيره ومن هو أولى بالإصلاح، وهو ما أومأ إليه قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]، قال السعدي: «ففيه التنويه بالثناء على نوح -عليه السلام- بقيامه بشكر الله، واتصافه بذلك، والحثّ لذريته أن يقتدوا به في شكره، ويتابعوه عليه، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم»[1].
وأومأ إليه قوله تعالى في منتصف السورة: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: 55]، فإن الزبور الذي نزل على داود قال الله فيه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] ، فإيثار داود بالذكر لَفْت للأنظار وتوجيه للأفهام إلى تلك السُّنَّة الإلهية، فهي ناموس لا يتغيَّر وقانون لا يتبدَّل إلى يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل كما قررت السورة الكريمة، فها هم بنو إسرائيل لم يهتدوا بكتابهم، بل فسدوا، فانتقلت وراثة الوحي والنبوات إلى المسلمين.
ثم انتقلت السورة للحديث عن القرآن بما لم يتكرر في أيّ سورة أخرى، فقد انفردت السورة الكريمة بذِكْر القرآن بلفظه نحو إحدى عشرة مرة، إضافة إلى ذِكْره بعَوْد الضمير عليه، فهل لهذا علاقة بالاستخلاف وطبيعة الصراع بيننا وبين اليهود؟
نعم، لقد قال تعالى: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا 9 وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإسراء: 9- 10]، وهي دلالة واضحة للمسلمين على مرّ العصور وكرّ الدهور أن لا نجاة ولا نصر في الصراع القائم بينهم وبين أعدائهم إلا بالقرآن، وأنهم بغير القرآن سيهزمهم ذباب الأرض وهوامّها ودوابّها، وأن هذا الصراع الوجودي على الأرض المقدسة لا عُدة لكم ولا عتاد إلا الاصطباغ بصبغة القرآن؛ حفظًا وفهمًا وعملًا ومنهجًا.
«إن سورة بني إسرائيل انفردت بهذه الخاصة؛ علَّ المسلمون يفقهون أن القرآن الذي صَنع أُمّتهم قديمًا قدير على أن يَصُبّهم في قوالب السيادة والقيادة مرة أخرى، وعلى أن ينتزع من نفوسهم حُبّ الدنيا وكراهية الموت، ويهب لهم قلوبًا شجاعة تفتدي الحق وتحرص على لقاء الله...، وقديمًا سلَّط الله عبدة الأوثان على بني إسرائيل؛ لأنهم لم يَقْدُروا كتابهم قَدْره، فليس عجيبًا أن يُسلّط على المسلمين بعد ما أهملوا القرآن مَن لا يقيم لهم وزنًا أو يعرف لهم حقًّا. وطريق العودة واضح؛ لا بد من عقيدةٍ وشريعةٍ وأخلاقٍ ومعاملاتٍ تتفجر من ينابيع القرآن، ويحيا بها المسلمون من جديد، حياة تجعلهم أمة الوحي، وصلة السماء بالأرض»[2].
وليس من باب المصادفة أن تُذْكَر الروح في هذه السورة الكريمة، وكذلك في سورة النحل قبلها، وإنما هي إشارة واضحة لكل عاقل إلى أن القرآن هو حياة هذه الأمة الخاتمة، وعليها أن تأخذ العبرة من بني إسرائيل، وقد سمَّاه الله روحًا في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]؛ والروح رمز الحياة وعنوانها، فالقرآن حياة القلوب والأرواح والأمم والأفراد، وإذا نُزِعَت الروح حلَّ الموت، فيجب أن تكون حبالنا مع القرآن غليظة، وعلاقتنا به وطيدة، لا أن يكون على هامش الحياة، وتنص السورة على أنه يهدي لأقوم السبل دون تحديد لمكان أو زمان، فهو هادٍ لكلِّ مَن تمسَّك في العقيدة والعبادة والتشريع والحكم والأخلاق والمعاملات وللأفراد والمجتمعات وللظاهر والباطن في كل عصر وجيل.
ثم ترسم السورة لوحة أخلاقية فريدة للجبهة التي تبحث عن الانتصار، منبعها هذا القرآن الهادي للتي هي أقوم، وهي بحقٍّ تُعدّ دستورًا أخلاقيًّا للجبهة التي تنشد التمكين، فإذا سألنا ما هي أخلاق الانتصار؟ تأتي الإجابة من قلب سورة الإسراء التي تقع في قلب المصحف الشريف في سبع عشرة آية، تبدأ من الآية 22 حتى الآية 39، وهي تمثل العقيدة، والعبادة، وبرّ الوالدين، ورعاية الضعفاء من ذوي القربى وابن السبيل والمساكين، والتوازن، وترك الإسراف، وحفظ النفوس، والمحافظة على الدماء والأعراض، ورعاية اليتيم، والوفاء بالعهد والكيل والميزان، والتثبُّت، ونَبْذ الكبر والخيلاء.
وقد بدأت بالتوحيد وخُتمت به في إشارة واضحة إلى مصدر تلك الأخلاق، وتحديد وجهة الأمة، ولم تفرق الآيات بين ما هو عقدي أو شعائري أو اجتماعي أو اقتصادي، فهي كلها عبادة لله الواحد، فإذا تمثلت الأمة هذه الأخلاق صارت من العباد الشكورين الذين يتأهلون لتنزُّل النصر.
وفرق كبير بين هدى القرآن الذي تنبع منه هذه الأخلاق، وبين هوى الإنسان الذي يطبعه بطبائع الفساد وجراثيم الهلاك، وقد نصَّت السورة الكريمة على طبائع نفسية سلبية يجب التخلص منها؛ مثل: الترف، والعجلة، والجحود، والكفران، والبخل، والتعلق بالعاجلة ونسيان الآخرة، وكلها عوامل إهلاك تنخر في أجساد الأمم، فليست الشعارات وحدها سبيلًا للبقاء والانتصار، إنه لا انتصار إلا بالكتاب السماوي الذي أخرج من بين دفتيه خير أمة أُخرجت للناس؛ قوم أعظم صفاتهم كما ورد في سياق السورة: ﴿عِبَادًا لَنَا﴾ [الإسراء: 5]؛ فهؤلاء يستقون أخلاقهم من القرآن.
وتُؤكّد السُّنة النبوية ذلك؛ فقد ثبت أن الحجر والشجر ينطق في المعركة الفاصلة والملحمة الخاتمة مع اليهود، ويناديهم بلفظ العبودية والإسلام دون أيّ نداءٍ آخر من قوميةٍ أو عصبيةٍ ونحوها، فعن أبي هريرة، أن رسول الله # قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ»[3]؛ وفيه ملمح قويّ إلى أن الأُمَّة يومئذٍ عنوانها الإسلام والعبودية، وانتماؤها لهذا لا لغيره.
ومن يتأمل في السورة الآية الكريمة يجدها قد ركَّزت على ذِكْر العبودية في غير موضع، ففي أولها آثرت ذِكْر النبيّ بصفة العبد، ووصفت نبي الله نوحًا بأنه كان عبدًا شكورًا، ووصفت كذلك جيل الوراثة المنتقلة من بني إسرائيل المتسلم للأرض المقدسة بالعبودية، وذكرت في أخلاق المتأهلين للنصر في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، وتكرر لفظ العبادة أكثر من مرة من بداية السورة إلى نهايتها تأكيدًا على أنها من مقوّمات النصر والتمكين، وفي أواخرها: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 96].
وختمت السورة بالحديث عن تجربة بني إسرائيل في مصر في مواجهتهم مع طاغية مصر فرعون التي انتهت بزواله وإهلاكه، ووراثتهم الأرض من بعده، وتلك سُنَّة الله في نهاية المفسدين والطغاة، ووراثة المؤمنين الأرض بعدهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا 101 قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا 102 فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا 103 وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: 101-104]، وكما قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].
ولا يخفى أن ما فعله فرعون من علوٍّ وإفسادٍ؛ استوجب إهلاكه وإغراقه ومن معه؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 4 وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 4- 5]، ورثوها بالإيمان والإصلاح، ولما أساءوا الصلة بالكتاب السماوي -التوراة- حلَّ بهم ما حلَّ بفرعون.
وهاهم اليهود اليوم يُفسدون في الأرض، ويزرعون الموت في كل مكان في الأرض المقدسة وغيرها، متناسين تعاليم التوراة، فأنَّى تقوم له مملكة ودولة؟! هيهات هيهات!!
وختمت السورة بالقرآن أيضًا مثلما ابتدأت بذِكْره؛ لتُذكِّر جيل الابتعاث للالتفاف حول الكتاب السماوي على مر الأجيال والقرون، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل في نَبْذهم التوراة، فأفسدوا، وتمكَّنت منهم أراذل الأخلاق، فأزيلوا من سُدَّة الريادة والقيادة، فجَرَت عليهم سُنّة الله القاضية بزوال المفسدين والمستكبرين.
وهذه دعوة للمؤمنين إلى تلاوة سورة الإسراء وتدبُّرها وحفظها، والعمل بهداياتها، هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل.
[1] تفسير السعدي، ص453.
[2] نحو تفسير موضوعي، محمد الغزالي، ص218.
[3] أخرجه البخاري (٢٩٢٦)، ومسلم (٢٩٢٢).