يقول الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الواسطية: «فإذا خذل العبد سُلّطت عليه شياطين الإنس والجن، وسُلّطت عليه الشهوات، فخُذِلَ ووُكِلَ إلى نفسه، ومَن وُكِلَ إلى نفسه فقد خسر خسرانًا مبينًا».
قدْ يملكُ المرءُ كلَّ أسبابِ النجاحِ الظاهرةِ، ولكنهُ لمْ يفلحْ ولمْ يسعدْ ولمْ
يُوفَّقْ؛ لأنَّ السرَّ يكمنُ في مدى بُعده عنْ توفيقِ اللهِ لهُ
«خالفهُ
التوفيقُ»؛
نقولها بكلِ بساطةٍ وعفويةٍ، ويرددها البسطاءُ من الناس وهمْ يسألونَ ربهمْ التوفيق
في جليل الأمرِ وصغيره؛ حيثُ لا قدرة إلا قدرتهُ، ولا معونة إلا منهُ، ولا راحة إلا
بالتزام أوامره وترك نواهيه، وقد ذكر الراغب الأصفهاني: أن الوفق هو المطابقة بين
الشيئين، والتوفيق يختصّ بالخير دون الشر؛ قال تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا
بِاللَّهِ﴾ [هود: 88].[1]
ومعنى توفّق فلان: أي وفَّقه الله وأنجحه فيما سعى إليه، فنجح وأفلح في مسعاه وبلوغ
مراده. ووفقه الله أي: وفَّقه للخير فألهمه إيَّاه وسدَّد خطاه. والتوفيق مصدر وفق،
نقول: حالفه التوفيق؛ أي: سدّ طريق الشر، ويستهلّ طريق الخير، أي: جعل الله -تعالى-
قول العبد وفِعْله مُوافقين لأمره ونهيه[2].
وذكر ابن عاشور أن
«التوفيق
هو جعل الشيء وفقًا لآخر؛ أي: طبقًا له، ولذلك عرفوه بأنه: خلق القدرة الداعية إلى
الطاعة»[3].
وذكر السيد رشيد رضا كلامًا مهمًّا في ذلك مفاده أن
«التوفيق
ضد الخذلان، وهو يعني -أي: التوفيق- الفوز والفلاح في إصابة الإصلاح. وكل عمل صالح
وسعي حسن فإن حصوله يتوقف على التوفيق بين شيئين؛ أحدهما كسب العامل وطلبه الشيء من
طريقه، وثانيهما موافقة الأسباب الكونية والخارجة التي يتوقف عليها النجاح في كسبه
وسعيه وتسخيرها إنما يكون من الله وحده».[4]
والذي يُفهَم من هذه التعاريف هو أن التوفيق فِعْل ما تتفق معه الطاعة؛ فإذا لم
تتفق معه لا يسمى توفيقًا، وما التوفيق سوى لُطْف من الله لعبده، يحدث قبل الطاعة،
ليكون كُلّ توفيق لطفًا، وليس كل لُطف توفيقًا، ولا يكون التوفيق ثوابًا لما لم
يقع، ولا يكون التوفيق إلا لما حَسُن من الأفعال؛ إذ نقول: وُفِّق فلان للإنصاف،
ولا نقول: وُفِّق للظلم؛ كأن التوفيق هو إعانة خاصة من الله تعالى لعبده، فيصبح
وكأن ثمة مددًا يُعينه ويُقوّيه ويدفعه إلى الطاعة والاستمرار عليها؛ هذا في جانب
العبادة.
أما في جانب الحياة، فهو تيسير للأسباب -كما ذكر صاحب المنار-؛ فتُقضَى حاجة العبد
بما لم يكن في الحسبان؛ لما فيه من مداخلة اللطف عليه كأن ثمة إلهامًا من الله
-تعالى- لعبده أن يُدِلّه على الخير ويُوفّقه لما فيه مصلحته وييسرها له، فيفتح له
ما انغلق من الأبواب فينال مراده ويحصل بُغيته، ولذا قال أهل العلم:
«إن
حقيقة التوفيق هي أن يَمُدّك الله تعالى بالعون والإعانة والسداد والرشاد وتسخير
الأسباب المُوصِّلة إلى ذلك، وقد سأل أبو داود الإمام أحمد -رحمه الله-: جمعت هذا
العلم لله؟ قال:
«لله
عزيز، ولكنْ حُبِّب إليَّ أمرٌ ففعلته»؛
كأنه يشير إلى نعمة لطف الله به، وتوفيقه إياه؛ إذ أعانه وصرف هِمّته، وساقه إلى
هذه المهمة الشريفة فيسَّرها له فتيسرت ليكون ستارًا للقدرة، وليحصل على كامل
الأجرة؛ فضلًا من الله ونعمة.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال:
«إذا
أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا استعملَه، فقيل: كيف يستعملُه يا رسولَ اللهِ؟ قال:
يُوفِّقُه لعمَلٍ صالحٍ قبلَ الموتِ»[5]؛
وذلك لأن حُسْن الخاتمة هو توفيق وسداد من الله -تعالى- لعبده، وإلهام له أن يَجِدّ
ويجتهد في عمل الصالحات قبل وفاته فيختم له به؛ لأن الخواتيم ميراث السوابق، فيكون
ذلك من إرادة الخير به. يقول النبي
صلى الله عليه وسلم
:
«إنَّ
العَبْدَ لَيَعْمَلُ، فِيما يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ، وإنَّه لَمِنْ
أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ فِيما يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أهْلِ النَّارِ وهو مِن
أهْلِ الجَنَّةِ، وإنَّما الأعْمالُ بخَواتِيمِها»[6].
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
«التوفيق
خير قائد، وحُسْن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث».[7]
وقد ضرب ابن القيم -في مدارجه- مثالًا رائعًا للتوفيق والخذلان؛ فقال:
«وَقَدْ
ضُرِبَ لِلتَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ مَثَلٌ: مَلِكٌ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ بَلَدٍ
مِنْ بِلَادِهِ رَسُولًا، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ كِتَابًا؛ يُعْلِمُهُمْ أَنَّ
الْعَدُوَّ مُصَبِّحُهُمْ عَنْ قَرِيبٍ وَمُجْتَاحُهُمْ، وَمُخَرِّبٌ الْبَلَدَ،
وَمُهْلِكٌ مَنْ فِيهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالًا وَمَرَاكِبَ وَزَادًا
وَعُدَّةً وَأَدِلَّةً، وَقَالَ: ارْتَحِلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ
أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ
مِنْ مَمَالِيكِهِ: اذْهَبُوا إِلَى فُلَانٍ، فَخُذُوا بِيَدِهِ وَاحْمِلُوهُ،
وَلَا تَذَرُوهُ يَقْعُدُ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانٍ كَذَلِكَ وَإِلَى فُلَانٍ،
وَذَرُوا مَنْ عَدَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ أَنْ يُسَاكِنُونِي فِي
بَلَدِي، فَذَهَبَ خَوَاصُّ مَمَالِيكِهِ إِلَى مَنْ أُمِرُوا بِحَمْلِهِمْ، فَلَمْ
يَتْرُكُوهُمْ يَقَرُّونَ، بَلْ حَمَلُوهُمْ حَمْلًا، وَسَاقُوهُمْ سَوْقًا إِلَى
الْمَلِكِ، فَاجْتَاحَ الْعَدُوُّ مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتَلَهُمْ،
وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ. فَهَلْ يُعَدُّ الْمَلِكُ ظَالِمًا لِهَؤُلَاءِ، أَمْ
عَادِلًا فِيهِمْ؟ نَعَمْ خَصَّ أُولَئِكَ بِإِحْسَانِهِ وَعِنَايَتِهِ وَحَرَمَهَا
مَنْ عَدَاهُمْ؛ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي فَضْلِهِ
وَإِكْرَامِهِ، بَلْ ذَلِكَ فَضْلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».[8]
وَأَرَى أَنَّ التَّوْفِيق هُوَ حُصُولُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمِنَحِ
وَالْعَطَايَا وَتَيْسِيرِ الْأُمُورِ وَسُهُولَةِ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُعينة
لِتَحْقِيقِ الْمُرَادِ. فالتَّوْفِيق -مِنْ وُجْهَةِ نَظَرِي- هُوَ إِعَانَةٌ
خَاصَّةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
فَرَضِيَ الله عَنْهُمْ، فَيَتَحَرَّك كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ لِخِدْمَتِهِمْ،
وَأَهْلَ التَّوْفِيقِ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الحوقلة؛
«لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»،
بِمَا يَغْمُرُهُمْ مِنْ شُعُور فَيَّاض يَمْلَأ عَلَيْهِمْ الزَّمَان وَالْمَكَان
أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَعُونَةَ وَالْمَدَدَ يَسْتَمِدُّونَهَا مِن
اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا التَّوْفِيق بِغَيْرِ الانطرَاح
بَيْنَ يَدَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالِافْتِقَار إِلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا
شُعَيْب -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ﴾ [هود: ٨٨].
وَلَا يَتَعَارَضُ هَذَا مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَالَّتِي
هِيَ عَلَامَاتٌ يَتَّخِذُهَا النَّاسُ لِحُصُولِ الْمُسَبِّبَاتِ عَقْلًا
وَشَرْعًا؛ لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ دِيَانَةً أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَسْبَابِ
الظَّاهِرَةِ مَعَ حُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّ
الْأَسْبَابَ لَا تَفْعَلُ فِعْلَهَا بِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ
لَهَا، وَقَدْ اتَّخَذَ الرَّسُولُ
صلى الله عليه وسلم
هَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ حَيْثُ
اخْتَارَ الدَّلِيل صَاحِب الْخِبْرَة الَّذِي يَفْهَمُ دُرُوبَ الصَّحْرَاءِ،
وَاخْتَارَ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَرَتَّبَ مَنْ يَأْتِيه بِأَخْبَارِ
عَدُوّه
«مهمَّة
مُخَابَرَاتِيَّة»،
وَمَنْ يُغَطِّي آثَارَهُمْ فَيُضَلِّلُ الْعَدُوّ، وَيُشَتِّتُ جُهُودَهُ،
وَيُعْطِي لِنَفْسِهِ وَلِصَاحِبه لَحَظَات لِالْتِقَاطِ الْأَنْفَاسِ رَيْثَمَا
يُفَكِّرُ وَيَهْدَأُ الطَّلَبُ، وَيَنْطَلِقُ رَاشِدًا إِلَى وُجْهَتِهِ.
وقسيم التوفيق هو الخذلان، وهو مَحْض عقوبة عاجلة تقع بسبب أفعال العبد الغافل،
وضعف إرادته، واتباعه الشيطان، وغواية نفسه الأمارَّة بالسوء، وانغماسه في أوحال
الشهوات؛ فيضعف عن مقاومة كل إغراء يرد على القلب، ولم تعد لديه البصيرة الواعية
التي تُرشده إلى جادة الطريق ومعرفة الخير من الشرّ، والضارّ من النافع.
والخذل هو: ترك الإعانة والنصرة، وفي الحديث
«المُسْلِمُ
أخُو المُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ»[9]،
وتخذله رِجْله؛ أي: من ضَعْف أو عاهة أو سُكْر، وعلى هذا يصبح معنى الخذلان: تخلّي
الله -تعالى- عن العبد وعن نُصرته وإعانته، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: ١٦٠].
يقول الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الواسطية:
«فإذا
خذل العبد سُلّطت عليه شياطين الإنس والجن، وسُلّطت عليه الشهوات، فخُذِلَ ووُكِلَ
إلى نفسه، ومَن وُكِلَ إلى نفسه فقد خسر خسرانًا مبينًا».[10]
ويقول الإمام ابن القيم:
«وَقَدْ
أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ هُوَ أَنْ لَا يَكِلَكَ
اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الْخِذْلَانَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ
وَبَيْنَ نَفْسِكَ، فَالْعَبِيدُ مُتَقَلِّبُونَ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ،
بَلِ الْعَبْدُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ يَنَالُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا،
فَيُطِيعُهُ وَيُرْضِيهِ، وَيَذْكُرُهُ وَيَشْكُرُهُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ، ثُمَّ
يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَغْفُلُ عَنْهُ بِخِذْلَانِهِ لَهُ،
فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، فَإِنْ وَفَّقَهُ فَبِفَضْلِهِ
وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ خَذَلَهُ فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ
عَلَى هَذَا وَهَذَا، لَهُ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَبْدَ
شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ،
وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُهُ وَأَيْنَ يَجْعَلُهُ؟»[11].
ومعنى ذلك أن ثمة فريقًا لزم باب الملك بالشكر والإنابة والعرفان معترفًا بعطية
الملك وفضله فمَنَّ الله عليه بهذه المنّة وتلك العطيّة، وهي عطية الإيمان،
وبلَّغهم مراتبها بسعيهم بالقول والعمل؛ كما قال تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ
بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ٨٥]، وهؤلاء يُعينهم الله تعالى
ويكلؤهم بالعناية، ويُسدّد عملهم، كما يقول ابن القيم في مدارجه:
«يكلؤه
كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، وعلى عكس مَن أراد به شرًّا أمسكه عنه،
وخلّاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها؛ فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبح».[12]
ولذلك ترى أهل الخذلان يتخبَّطون في الدنيا على غير نَسَق أو هدًى؛ حتى تنفلت من
أيديهم الأيام والليالي، وتنصرم أعمارهم، وينفرط عقدهم، ولم يتبقَّ لهم سوى اللحظات
الأخيرة من عُمْر الدنيا؛ فيفقدون الأصل والفرع، ويقعون في شر أعمالهم.
وقد يتساءل البعض: هل عدم التوفيق للطاعات يُعدّ خذلانًا من الله لعبده أو غَضبًا
عليه ومقتًا له؟
حيث إن الإنسان ربما يَهُمّ بأداء الطاعة الواجبة عليه، ثم يَعْرِض له عارض يَصْرفه
عنها، لا سيما إذا تكرر ذلك منه؛ فصار علامة واضحة أنه كلما همَّ بالخير يُعطّل عنه
ويُمنَع منه؟
والجواب: أن مثل هذه الحالة على هذا النحو تحتاج من صاحبها شيئًا من المراجعة
والنظر، لا سيما في أمور العقيدة. وقد يراجعنا البعض، ويقول: إن بعض الناس لا يصلي
ولا يصوم وعنده المال ولا يحج ولا يتصدق، بل ويرتكب الآثام، وينغمس في أكل الحرام
ويفعل الموبقات؛ إلا أن أموره المعيشية والحياتية منتظمة غاية الانتظام، وأحواله
تسير على أوفق نظام من مساكن ومراكب ودوابّ وزروع وضروع وبساتين، وغير ذلك من متاع
الأرض؟!
فنقول: إن هذا -من غير شك- عقوبة مُبَطَّنَة من حيث لا يدري؛ فقد روى عقبة بن عامر
-رضي الله عنه- أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال:
«إذا
رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج، ثم تلا
-عليه السلام-: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]».[13]
وذكر ابن كثير في قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[الأعراف: ١٨٢]؛
«أي:
نفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه، ويعتقدون
أنهم على شيء».[14]
شبهة والرد عليها
وقد يظن البعض أن إقبال الدنيا على العبد من مال وجاه وصحة وولد ورهط وعشيرة هو من
التوفيق المحض، وأن إدبار بعضها أو كلها عن العبد، خذلان محض، وليس هذا صوابًا؛ فقد
قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
*
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ ﮩ كَلَّا﴾ [الفجر: 15- 17].
يقول ابن كثير:
«إن
الله يعطي المال مَن يحب ومَن لا يحب، ويُضيّق على مَن يحب ومَن لا يحب، وإنما
المدار في ذلك على طاعة الله في كلا الحالين»[15].
وضبط المسألة: أن مَن وفَّقه الله -تعالى- فرزقه مالًا وجاهًا وعافيةً وعقلًا
راجحًا، ثم سخَّر ذلك كله في مرضاة ربه يُنفقه في الليل والنهار، لا يريد إلا وجه
الله -سبحانه-؛ فهذا من توفيق الله له وتيسيره لليسرى، وأنَّ مَن سخَّر ذلك فيما
يُغْضِب الله -تعالى-؛ فهو خذلان وتيسير للعسرى، فلا قدرة له على مَقْت الله وغضبه؛
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى
*
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
*
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
*
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى
*
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
ﯚ
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [سورة الليل: 5 - 10].
وقال ابن القيم كلامًا نفيسًا مفاده:
«إن
أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فتيقن حينئذٍ أن
الحسنات من نِعَمه فتشكره عليها، وتتضرع إليه ألَّا يقطعها منك، وأن السيئات من
خذلانه؛ فتبتهل إلى الله أن يَحُول بينك وبينها».[16]
الآثار المترتبة على الخذلان
1- انقلاب أحوال المخذولين وتخلّي الله تعالى عنهم
فتتعثر حياتهم، وتنتكس أحوالهم، ويُصابُون بالفشل الجزئي أو الكلي في كل مناحي
حياتهم، وتقلب الدنيا لهم ظهر المجنّ؛ بسبب أنهم حُرموا نعمة التوفيق والعناية
الإلهية والمدد الرباني؛ حيث إنهم وُكُلوا إلى أنفسهم فيُحَال بينهم وبين توفيق
الله -تعالى- في الدنيا؛ فيتعثرون ويتنكدون وتتكدر أحوالهم، ولا يصفوا عيشهم؛ فلا
يسعدون أو يهنأون بشيء، وعند الموت تخونهم قلوبهم فلا يثبتون على الإيمان؛ كما قال
تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١١٠]،
قال ابن كثير:
«قال
مجاهد: أي نَحُول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حُلْنا
بينهم وبين الإيمان أول مرة»[17].
وقال السمرقندي:
«أي
نترك قلوبهم وأبصارهم مُعلَّقة كما هي، ولا أُوفّقهم، وندعهم في ضلالهم يترددون
ويتحيرون»[18].
وقال صاحب التحرير:
«أي:
نُقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلبناها فلم يؤمنوا به أول
مرة؛ إذ جمحوا عن الإيمان أول ما دعاهم الرسول -عليه السلام-، وهو جزاءٌ لهم عن عدم
الاهتمام بالنظر في أمر الله -تعالى-، وبعثة رسوله، واستخفافهم بالمبادرة إلى
التكذيب قبل التأمل الصادق»[19].
وهذا أخطر ما في المسألة؛ أن يموتوا على غير التوحيد، ويُحال بينه وبينهم؛ فيموتون
على سوء الخاتمة، ويضيع منهم الأصل والفرع؛ فلا بقوا في الدنيا يتنعمون فيها أبد
الآبدين، ولا وجدوا لهم نصيبًا مرجوًّا في الآخرة، وهذا هو الخسران المبين.
قال عبد الحق الإشبيلي:
«إن
سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا قط ولا علم به
والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر، وإقدام على
العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيَّرت حاله وخرج عن سننه، وأخذ في طريق غير
طريقه، فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته وشؤم عاقبته».[20]
وهذا الذي حدَث لهم مِن تغيُّر الأحوال وانقلابها بسبب ما هم فيه من النفاق والشك
والغدر بالمسلمين فيُقعدهم -سبحانه-، ويبعدهم عن مراقي الفلاح فيثبطهم كما قال
تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ
الله انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة:
٤٦].
قال السعدي:
«أي
فثبطهم قدرًا وقضاءً، وإن كان قد أمرهم وحثّهم وجعلهم مقتدرين عليه، لكن بحكمته ما
أراد إعانتهم بل خذلهم وثبطهم»[21]،
وهم على هذا النحو يدورون بين الفشل والاضطراب والتردي فلا يُوفَّقُون في عملٍ ما
من تجارة أو نكاح أو صحبة؛ فتنحسر البركة من حياتهم، فلا يبدو لمن يراهم سوى مَقْت
الله وغضبه على قسمات وجوههم تنقلب الحياة عليهم رأسًا على عقب؛ كما قال تعالى:
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ
مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٥]،
«أي:
تغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة؛ عسى أن يعلموا أن سلب النعمة لهم أمارة
على غضب الله عليهم، ثم نردّهم إلى حالهم الأولى إمهالًا لهم واستدراجًا فيزدادون
ضلالًا»[22].
وقال تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦]. قال ابن عاشور:
«التبديل
هو تعويض شيء بشيء آخر، والمعنى: أعطيناهم أشجار خمط وأثل وسدر عوضًا عن جنتهم؛ أي
صارت صحراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العضاة والبادية، وقاسوا العطش وفقدان الثمار
حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار»[23].
وبالجملة؛ فإن مَن خذَله الله تتبدَّل حياته بالخوف والقلق والتوجس والريبة، بدلًا
من الأمن والأنس، ويحل الجوع محل الشبع، والظمأ بدل الري، والتعب مكان الراحة،
والسقم بدلًا من العافية، والشقاوة بديلًا عن السعادة، والبعد بدلًا من القرب.
2- الانتقام الإلهي منهم
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ
أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: ٥٥]؛ أي: فلما أغضبونا، وقيل: أسخطونا؛ كما روى الضحاك
عن ابن عباس:
«وهم
قد أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن يُعجَّل لهم عذابنا وانتقامنا وألّا نحلم عليهم».
3- تسلُّط الأعداء واجتراؤهم عليهم
وكما أن الله -تعالى- يكفّ بأس الذين كفروا، ويمنع أيديهم أن تمتد لتؤذي المؤمنين؛
فإنه بمفهوم المخالفة يُرسل هؤلاء فيتسلطون عليهم ويستبيحون بَيْضتهم بخلاف أهل
الإيمان الذين يكفُّ الله تعالى أيدي الظالمين عنهم؛ كما قال تعالى: ﴿عَسَى
اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا
وَأَشَدُّ تَنكِيلًا﴾ [النساء: ٨٤]،
«وقد
كفَّ بأسهم، فقد بدا لأبي سفيان في بدر الصغرى، وقال: هذا عام مُجْدِب، وما كان
معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب، فرجع بهم، وترك الذهاب إلى محاربة
الرسول
صلى الله عليه وسلم
».[24]
4- رعب القلوب وهلعها
قال تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ١٥١]، والمعنى
«إني
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما لم
أجعل لهم به حجة، أي: فلا تظنُّوا أن لهم عاقبة نَصْر ولا ظهور عليكم، ما اعتصمتم
واتبعتم أمري»[25].
وقال تعالى: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: ٢]؛ قال السعدي:
«قذف
الله في قلوبهم الخوف الشديد الذي هو جند الله الأكبر الذي لا ينفع معه عدد ولا
عُدة ولا قوة ولا شدة، ومن وثق بغير الله فهو مخذول، أتاهم أمر سماوي نزل على
قلوبهم، فأزال قوّتها وشدّتها، وأورثها ضعفًا وخورًا وجبنًا لا حيلة لهم في دَفْعه
فصار ذلك عونًا عليهم».[26]
5- اللعن والطرد من رحمة الله
قال الله تعالى في شأن هؤلاء: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨]، والمعنى
«أن
الله طردهم وأبعدهم من كل خير»[27].
وقال ابن عاشور:
«عاقَبهم
الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير؛ فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق
الرسول»[28]،
«وأصل
اللعن الطرد والإبعاد والإقصاء، يقال: لعن الله فلانًا يلعنه لعنًا، وهو ملعون،
ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذعــرت بـه القطـا ونفيـت عنـه
مكــان الــذئب كـالرجل اللعيـن»[29]
مثل هذه القلوب مطبوع عليها فلا تفقه ولا تعي؛ بسبب الغشاوة التي عليها.
والخلاصة: إن الله -تعالى- إذا تولاك حفظك، ولم يُضيّعك، ولم يَظْفر بك عدوك، وهو
سبحانه إن خذلك تركك فأكلتك السباع وناوشتك الحراب ومزقتك السهام، وهلكت في داهية
أو نازلة أو قارعة دون أن يأسى على جرحك أحد؛ قال تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ [الدخان: 29]،
نسأل الله السلامة والعافية.
[1] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن ص684.
[2] د. أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة 3/2474 وما بعدها.
[3] ابن عاشور، التحرير والتنوير 12/146.
[4] السيد رشيد رضا، تفسير المنار 12/145.
[5] صحيح الترمذي للألباني: 2142.
[6] صحيح البخاري: 6493.
[7] شُعَب الإيمان للبيهقي: 6/368.
[8] ابن القيم، مدارج السالكين: 1/216.
[9] صحيح مسلم 2564.
[10] شرح العقيدة الواسطية صالح آل الشيخ 2/321، دار العاصمة الرياض.
[11] ابن القيم، مدارج السالكين، 1/415.
[12] التفسير القيم لابن القيم ص216، دار الكتب العلمية بيروت.
[13] رواه أحمد وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 5201، وفي السلسلة الصحيحة برقم
413.
[14] تفسير ابن كثير 3/516.
[15] تفسير ابن كثير 8/398، دار طيبة للنشر.
[16] ابن القيم، كتاب الفوائد، ص141.
[17] تفسير ابن كثير، دار طيبة الرياض، 3/317.
[18] تفسير السمرقندي، 1/507.
[19] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 7/441.
[20] الاعتصام، للشاطبي، 1/221 وما بعدها.
[21] تيسير الكريم المنان، للسعدي، ص 657.
[22] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 9/18.
[23] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 22/171.
[24] الفخر الرازي، مفاتح الغيب، 10/211.
[25] تفسير الطبري، 6/127.
[26] تيسير الكريم المنان، للسعدي، ص 1800.
[27] تفسير ابن كثير، 1/484.
[28] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/600.
[29] تفسير القرطبي، 2/232