مما لا شك فيه أن اللغة رمز للهوية، ومن الركائز الأساسية لثقافة الشعوب وشخصيتها القومية، فهي الصلة التي تضمن التماسك والانسجام والالتحام بين فئات المجتمع، رغم اختلافها الاجتماعي والطبقي... إلخ.
قبل البدء
من المعلوم أن التربية والتعليم يمثلان قناة لتمرير الأفكار والقيم وصياغة العقول،
وإخضاع المجتمعات واستغلالها. كما أنهما - في الوقت عينه - الوسيلة التي يتم عبرها
تكوين المواطن المرغوب فيه، وبناء المجتمع على أسس الديمقراطية والحق والعدالة
والمهارات والقيم المنشودة والمطلوبة، لبناء مجتمع متقدم وعصري قادر على المنافسة
والتدافع الحضاري بين الأمم.
والمعلوم كذلك، أن القوى الاستعمارية - ونقصد هنا فرنسا تحديداً - كانت على وعي تام
بهذا الأمر. لذلك فقد حرصت منذ وطئت أقدامها الأراضي المغربية على الاشتغال بقضية
التعليم ووضعها في صلب مخططاتها الاستعمارية بشكل موازٍ مع مخططات الغزو المسلح،
وبعبارة أخرى نقول: إن فرنسا كانت تحارب على جبهتين: الأرض بواسطة السلاح، والفكر
أو الهوية بواسطة المدرسة. على اعتبار أن الذي يحمل السلاح، يحمل عقيدة وهوية تدفعه
وتحثه لذلك.
لا يخفى على المهتمين بتاريخ المغرب، أنه في عام 1912م وقَّع المغرب معاهدة الحماية
مع فرنسا، بعد سلسلة من الضغوط الإمبريالية والمناورات المغربية للانفلات من القبضة
الاستعمارية، وقد منحت هذه المعاهدة فرنسا المنطقة الوسطى أو ما يسمى في الأدبيات
الكولونيالية بـ (المغرب النافع)، وتركت لإسبانيا الشمال والجنوب الصحراوي.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال الفرنسي قوبل بمقاومة شرسة وعنيفة من لدن المغاربة
في مختلف المناطق. ورغم الانتصارات والتوغل الذي حققته فرنسا على الأرض؛ إلا أنها
ظلت غير مقتنعة بجدوى السلاح في إخضاع المغاربة، وهنا سيبدأ التفكير في كيفية إخضاع
العقول والقلوب التي تحرك مشاعر الكراهية والمقاومة ضد فرنسا الاستعمارية. وفي هذا
الصدد، يقول هاردي عام 1920م:
«منذ
سنة 1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وأصبح في الواقع أرضاً فرنسية. وعلى الرغم من
استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون أنتم وإخوانكم في السلاح
مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول: إن السلاح لا يعني النصر الكامل: إن القوة تبني
الإمبراطوريات ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني
أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع
النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان، وإذا كانت هذه المهمة أقل صخباً من الأولى، فإنها
صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتاً أطول»[1].
كما دعا هاردي إلى بناء نظام تعليمي يفصل بين المغاربة: (تعليم خاص) موجه للنخبة
المثقفة المكونة من البرجوازية والأرستقراطية، و (تعليم شعبي) يقدَّم للجماهير
الفقيرة والجاهلة، يرتكز على المهن والحرف اليدوية والفلاحة.
لغة التعليم
مما لا شك فيه أن اللغة رمز للهوية، ومن الركائز الأساسية لثقافة الشعوب وشخصيتها
القومية، فهي الصلة التي تضمن التماسك والانسجام والالتحام بين فئات المجتمع، رغم
اختلافها الاجتماعي والطبقي... إلخ.
وللحيلولة دون استمرار هذا التماسك والتلاحم بين المغاربة، وضعت فرنسا منذ بداياتها
في المغرب إستراتيجية تعليمية لمواجهة اللغات المنتشرة في المغرب وعلى رأسها (اللغة
العربية) و (الأمازيغية). وهو ما يتجلى في الدورية التي أصدرها المارشال ليوطي عام
1921م قائلاً:
«من
الناحية اللغوية، علينا أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية...
فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً عن تعلُّمها. إن العربية
عامل من عوامل نشر الإسلام لأن هذه اللغة يتم تعلُّمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي
مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الإسلام»[2].
لقد وجدت هذه الدورية تفاعلاً ودعماً من قبل الفرنسيين المقيمين في المغرب؛ إذ سارع
موريس لوجلي - وهو ضابط في الاستعلامات الفرنسية بالمغرب، ومراقب مدني لمنطقتَي
عبدة ودكالة - إلى نشر مقالة في السنة نفسها يقول فيها:
«إن
التعريب يقود البربر إلى إسلام تامٍّ ونهائي، وإلى أن توجد بالمغرب وعلى يدنا نحن،
وهو ما نرفضه، كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها... فإذا تعلم المغربي المتبربر
اللغة العربية فلن يكون ذلك على يدنا... والمشروع يرفض أن يتم تطوير سكان الجبال
باللغة العربية المعبرة عن فكرنا. سوف يتعلم السكان البرابرة اللغة الفرنسية وسوف
يحكمون بالفرنسية، علينا أن نقلع في كل مكان عن الحديث باللغة العربية، وإعطاء
الأوامر بالعربية إلى قوم هم مجبرون على فهمنا وإجابتنا... ولذلك ينبغي العمل قبل
كل شيء، على تحويل مصالح الشعب المغربي تجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إذا
أمكن، وليس هذا بدافع عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح ومعقول للهدف المبتغى
والنتائج المتوخاة لصالح قضيتنا»[3].
وهكذا نجحت فرنسا في أقل من عشرين سنة، في أن تفرنس كل الإدارات، وكل المواد
المدرسية في المدارس، باستثناء المواد الدينية. وقد عرفت هذه السياسة أوجها عام
1930م في سياق إصدار (الظهير البربري) الذي نص فيما نص عليه، على خلق نوع خاص من
المدارس في المناطق الأمازيغية أطلق عليها (المدارس الفرنسية البربرية)، وذلك في
محاولة لهدم كل ركيزة تقوي التماسك بين عناصر الشعب المغربي.
ويعلق المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري على هذا الإجراء العنصري قائلاً:
«هي
السنة [أي 1930م] التي سيُكشَف فيها النقاب عن منحى آخر للسياسة التعليمية الفرنسية
بالمغرب. ويتعلق الأمر بما يُعرَف بـ (الظهير البربري) الذي استصدرته دولة الحماية
من المخزن المغربي، والذي كان يهدف إلى النيل بصورة مباشرة وخطيرة من الكيان
المغربي، وهويته العربية الإسلامية، وذلك بالفصل في سكان المغرب بين ما كانت تسميه
سلطات الحماية (العنصر العربي) من جهة، و (العنصر البربري) من جهة ثانية، فصلاً
حضارياً شاملاً كان المقصود منه فرْنَسة وتنصير القسم الأكبر من الشعب المغربي
(البربر)»[4].
ونشير إلى أنه قبل صدور الظهير البربري، كتب بول مارتي وهو من المنظرين الكبار
للسياسة التعليمية بالمغرب ما يلي:
«لقد
حصل الاتفاق بين إدارة التعليم العمومي وإدارة الشؤون الأهلية، وتحددت بذلك مبادئ
سياستنا التعليمية البربرية بكامل الدقة. إن الأمر يتعلق بمدارس فرنسية بربرية تضع
صغار البربر الذين يتلقون فيها تعليماً فرنسياً محضاً، ويسيطر عليها اتجاه مهني
فلاحي. إن البرنامج الدراسي في هذه المدارس يشتمل على دراسة تطبيقية للغة الفرنسية،
لغة الحديث والكلام، بالإضافة إلى مبادئ الكتابة والحساب البسيط، ونتف من دروس
الجغرافيا والتاريخ وقواعد النظافة ودروس الأشياء... إن المدرسة الفرنسية البربرية،
هي إذن مدرسة فرنسية بالمعلمين بربرية بالتلاميذ. وليس هناك أي مجال لأي وسيط
أجنبي. إن أي شكل من أشكال تعليم العربية، إن أي تدخل من جانب الفقيه، إن أي مظهر
من المظاهر الإسلامية، لن يجد مكانه في هذه المدارس بل سيُقصى منها جميع ذلك بكل
صرامة»[5].
من جهة أخرى، عملت فرنسا على تكوين معلمين محليين (أي أمازيغيين)، ينفِّذون مخططها
وسياستها التعليمية البربرية، وحرصت أن يظل هؤلاء المعلمون بمنأى عن كل تأثير عربي
إسلامي. وهنا نفسح المجال لبول مارتي فيقول:
«...
وإذ ذاك نستطيع تكوين مدرسة لإعداد المعلمين لهذه الغاية، في مكان مَّا خارج
الأراضي المعرَّبة الداخلة في الإسلام وفي وسط شلحي يُختَار بمهارة. فإذا أردنا أن
نجنِّب هؤلاء المعلمين البرابرة الشبان فقدان التوازن العقلي السريع، وكنا نريد أن
يظلوا أوفياء لعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم، ونريد بعبارة أخرى أن يظلوا مقيمين في
الجبل لا يغادرونه هم أيضاً صوب المدن، فينبغي الاحتفاظ بهم في هذا الجبل، وهناك
يجب تكوينهم. وبذلك أيضاً ستتم حمايتهم، عندما ينضجون ثقافياً، من كل تأثير عربي
وكل نفوذ للإسلام عليهم... وسيتم الإبقاء عليهم طوع التأثير الفرنسي وحده»[6].
ومن ثَمَّ، فعندما تطرَّق مارتي لمنطقة (عين الشقاق) التي تبعد عن مدينة فاس عشرين
كيلومتراً، وهي المنطقة التي مسها الإسلام والعربية مسّّاً قوياً، لم يخف تخوُّفه
من تأثير ذلك على التعليم، وعبَّر عن ذلك قائلاً:
«لكن
هنا استطعنا أن نلمس لمس اليد ذلك الخطر الذي يجسده المعلم العربي رسول الإسلام
والعربية إلى البربر»[7].
خلاصة
على ضوء ما سبق، نستخلص أن السياسة التعليمية الفرنسية بالمغرب تهدف إلى طمسَ اللغة
العربية والإجهاز عليها مقابل نشر الفرنسية، لا سيما في المناطق الأمازيغية، وبين
النخب البرجوازية في المدن.
ويندرج هذا العمل في إطار إستراتيجية الغزو الفكري والثقافي الفرنسي الموازي للغزو
العسكري المسلح للمغرب، وتشويه وإضعاف الهوية الثقافية واللغوية للمغاربة، ومحاولة
احتوائهم وربطهم ثقافياً ولغوياً بفرنساً. ولعل هذه الفكرة والخطة الخطيرة، هي التي
صاغها بول مارتي في خلاصته قائلاً:
«والخلاصة
أن المدارس البربرية، ستكون أجهزة للسياسة الفرنسية وأدوات للدعاية أحسن من المراكز
البيداغوجية المتخصصة. لهذا فهي جزء من عملنا في التوغل السلمي والغزو الروحي.
ولأجل هذا، ولتجنب كل انطلاقة خاطئة، طُلِب من المعلمين بكل وضوح أن يعدُّوا أنفسهم
بمثابة أعوان ومساعدين لحكام الدوائر، وأن يسترشدوا في كل الأحول بنصائحهم. وبعد
الغزو العسكري هناك أسلحة جديدة؛ أي أن اللغة والفكرة الفرنسيتان هما اللتان
ستدخلان الحلبة، وتقودان عند ذلك المعركة الجديدة».
[1] مادي (لحسن)، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، منشورات مجلة علوم
التربية - 4 - الطبعة الأولى 1999م، ص 17.
[2] مادي (لحسن)، مرجع سابق، ص22.
[3] نفسه، ص23.
[4] نفسه، ص24.
[5] مادي (لحسن)، مرجع سابق، ص24.
[6] نفسه، ص25.
[7] الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ترجمة وتقديم
وتعليق: الدكتور عبد العلي الودغيري، كتاب (العلم)، السلسلة الجديدة (7)، ص126.