الأكاديمي والناقد أ.د. حسن الهُويمــل
في حوار خاص مع البيان:
«الثقافة العربية وليدٌ أصيل للفكر الإسلامي»
الحوار معه له مذاق خاص، وصدى بعيد، بلْ إن حديثه مثير للجدل، ولافت للانتباه، ولا
غنى عنه؛ لأنه أديب فريد، وناقد ليس كبقية النقَّاد... لا يجامل أو يحابي، يكره
الأنانية والعصبية والشلليَّة، ويرفض التبعيَّة والتغريب والذوبان في الآخر، ويؤمن
بأنَّ للفن والأدب رسالةً وغايةً ساميةً في الحياة. وهو من أشد المنافحين عن القيم
العربية والإسلامية الأصيلة.
إنه أ.د. حسن بن فهد الهويمل عضو هيئة التدريس بفرع جامعة الإمام بالقصيم، ورئيس
نادي القصيم الأدبي، وعضو الجمعية التاريخية بالسعودية، ومن ألمع النقاد
الأكاديميين في الوطن العربي. أنجز كثيراً من المؤلفات الأدبية والفكرية المميزة،
منها: (أبجديات سياسية على سور الوطن)، (النـزعة الإسلامية في الشعر السعودي
المعاصر)، (اتجاهات الشعر المعاصرة في نجد)، (الحداثة بين التعمير والتدمير)،
(المثاقفة والأسلمة)، (العولمة والثقافة والتعليم: تصالح أمْ تصادم؟)... وغيرها.
الْتقينا به أثناء مشاركته في مؤتمر الأدب الإسلامي في القاهرة؛ لاستلهام رأيه في
عدد من القضايا الأدبية والثقافية، فإلى التفاصيل:
البيان: دعنا نسأل في البداية عن مفهوم الثقافة العربية لديكم بمعناها الحضاري؟ وهل
ثمة فارق بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية من وجهة نظركم؟
أ.د. الهويمل: الحقيقة التي ينبغي ألَّا تغيبَ عنَّا هي أنَّ الفكر الإسلامي يتمثل
في تلك الحصيلة الضخمة والعصارة الخصبة التي أبدعها نوابغ المفكرين من المسلمين
والعرب، وأنَّ الثقافة العربية كانت وليداً أصيلاً للفكر الإسلامي تمثل فيه قيمه
الأساسية، بحسب أن اللغة العربية هي المصـدر الأصيل لهذا الفكر. ولا شـك أن (لغة
الضاد) كانت بعيدة الأثر في اللغات الإسلامية الأخرى.
ومن هنا، فإنَّ مفهوم الثقافة أساساً أنها تستمد وجودها من كيان الأمة، فالثقافة
العربية هي ثقافة الأمة العربية التي حملت - أساساً - لواء الإسلام، والتي استقبل
لغتها (القرآن) بحروفها وألفاظها ومضامينها، وتفاعلت معه فكان مصدراً هامّاً
لنموِّها، ومؤثراً فعالاً لمضامينها، وبذلك تحولت إلى لغة مجتمع عريض، وإلى لغة
(العلم التجريبي) والفكر الإسلامي في سائر فنونه ومجالاته.
ومن هنا أيضاً جاءت أهمية الثقافة العربية؛ فصارت صاحبة الرصيد الضخم للفكر
الإسلامي من ناحية، وحاملة لواء اليقظة في مواجهة الحضارة والعصر، وهي التي واجهت
بصمود وثبات حملات التغريب العاتية.
البيان: في ظل حروب اللغات الطاحنة في هذا العصر؛ ما هي الوسائل التي ينبغي الأخذ
بها من أجل دفع عجلة (اللغة العربية)؟
أ.د. الهويمل:
لدينا كثير من الوسائل لتعزيز أمننا اللغوي، والحفاظ على هويتنا العربية، وفي
مقدمتها: تطوير المعاهد والجامعات التي تعلِّم اللغة العربية، بالإضافة إلى استخدام
اللغة الرقمية، ولا بدَّ أن تشتغل وسائل التكنولوجيا الحديثة باللغة العربية، حتى
تكون اللغة العربية كالهواء مختلطة بكل الآفاق.
ومن هنا لا بدَّ أن تتكاتف المجامع اللغوية، والجامعات الإسلامية كالأزهر
والقرويين والزيتونة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام بالرياض
لخدمة اللغة العربية ونشر لغة القرآن والحفاظ عليها بمختلف الوسائل وشتى الأساليب.
البيان: هل الناقد حسن الهويمل يؤمن بأنَّ هناك (قصيدة النثر) أو ما يسمى بـ (الشعر
المنثور)؟
أ.د. الهويمل:
أعرف أن اللغة العربية قسميْن: شعر ونثر. إذن فالشعر شعر، والنثر نثر... وما سوى
ذلك فهو من جملة المغالطات والأكاذيب التي يرددها الأدعياء والمتسلقون
والفوضويون... فلا يمكن أن يكون النثر شعراً، كما لا يمكن أن يكون المشي رقصاً!
وإذا نظرنا إلى الروائع النثرية التي كتبها المنفلوطي والرافعي والزيات وغيرهم،
فإنهم لا يسمونها شعراً؛ لأنهم عقلاء يعرفون جيداً الخطوط الفاصلة بين الأشكال
الأدبية التي لها شروطها ومواصفاتها وبناؤها... وشتان ما بين العقلاء والمجانين!
البيان: ذهب بعض النقاد إلى أنَّ هذا العصر (عصر الرواية)، وأنها صارت ديوان
العرب، بعدما تخلَّـى الشعر عن موقعه الذي تربع عليه طوال القرون الماضية... إلى
أيِّ مدى ترى صحة هذا الرأي؟
أ.د. الهويمل:
هذا الكلام وإنْ كان فيه بعض الحق، إلَّا أنه يصدر عن عدم الوعي بطبيعة الذائقة
الأدبية والجمالية، ويحمل أيضاً مغالطات كثيرة... فالشعر سيظل دائماً في مقدمة
الأجناس الأدبية، وتظل القصص مصدراً من مصادر التثقيف والتربية والتوجيه، وقد اعتمد
عليها المشرِّع سبحانه، فالقصص القرآني والقصص النبوي يُشكِّلان مصدراً من مصادر
التشريع والتثبيت والموعظة، ومع ذلك فلن تكون الرواية ديوان العرب في يوم من
الأيام.
البيان: ما هو رأيكم في الدعوة إلى استقلال الشكل الفني عن المضمون العقدي؟
أ.د. الهويمل:
بالطبع هذا يستتبع عزله عن الحياة بدعوى أن الفن للفن، ونحن نرفض ذلك، لأنَّ الفن
عندنا ضرورة إنسانية، ولا فصل بين الفن والحياة، كما أنه لا حياة بلا فن. فالفن
تولِّده التجربة، والتجربة جزء من الحياة أوْ هي الحياة عينها. والإنسان عنصر هام
في التجربة.
وإذا كان الفن ضرورة إنسانية، فالنزوع إليه فطري، والاستجابة له طوعية، وفي الحديث
الشريف
«إنَّ
من البيان لسحراً».
والسحر يجعلك تتلبس بالاستجابة دون وعي. ولذا قال توفيق الحكيم:
«
لوْ علم رجلُ الفنِّ خطر مهمته لفكَّر دهراً قبل أن يكتب سطراً».
ونحن نعلم أن الثورات التي غيَّرت ملامح التاريخ وصاغت الحياة من جديد، هيَّأ لها
المبدعون، وأرهصت لها أطروحاتهم من قصص وروايات وشعر.
وإذا استرجعنا البصر في تاريخنا الإسلامي، فسنجد أنه كان للرسول شاعر في مقابل
شعراء الوفود، وله موقف من شعراء الخصوم حمله على إهدار دمهم، كل ذلك مؤذن بأهمية
الفن وخطره، وحاجة المبادئ له، والمدركون لقيمة الفن الجمالية والدلالية وخطورة
دوره وأهميته يتلبثون كثيراً قبل الإفضاء بإبداعهم، وأبرز مثال على ذلك أصحاب
الحوليَّات، ومدرسة عبيد الشعر.
وفي العصر الحديث أصبح الأدب عملاً فكرياً متلبساً بالفلسفة يطرح رؤية متميزة للكون
والحياة والعالم... ولم يعد الأدب جمالياً للمتعة؛ وإنما استصحب الجمالية وتخطى بها
إلى عمل جاد لتحويل المسار البشري وتغيير قناعاته.
البيان: باعتباركم من أبرز النقاد في رابطة الأدب الإسلامي، تُرى لماذا جاءت الدعوة
إلى (الأدب الإسلامي) في هذا الوقت بالذات؟
أ.د. الهويمل:
نعم! نظراً لخطورة الأدب وأهميته وأثره الواضح في تشكيل ذهنية المتلقي، فقد دفع ذلك
الصفوة من رجال الفكر والأدب إلى التفكير في التدخل المباشر لتوجيه الأدب والفن
عامة وِجهَة تنسجم والمقتضى الإسلامي، وتسهم في صياغة الذهنية صياغة توجِّه الإنسان
إلى بارئه.
إننا بحاجة إلى أدب إسلامي يبرز شخصيتنا وسط هذا الطوفان من المذاهب الأدبية
الوافدة التي تسرح وتمرح في أواسطنا وتسهم في تلويث وعينا، والتي يتبناها أبناء
المسلمين يبشِّرون بها ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا
يجدون غضاضة في معاشرتها وطرد الغربة عنها!
وإذا كنا قد رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً، وتحمَّلنا في سبيل ذلك مكائد
العالم المتكبِّر، فلا أقل من أن نسعى لتأصيل وتكريس الأدب الإسلامي ليسهم في الذود
عن مقدَّراتنا ومقدَّساتنا الفكرية، وليس فيما نسعى إليه بدعة ولا تجزئة؛ فأسلمة
الأدب مشروع إسلامي، ومجيء المصطلح لم يكن بدعاً من القول: فالإسلام منذ البدء مارس
أسلمة الشعر، والرسول # وظَّف الشعر لخدمة العقيدة، ونزل القرآن الكريم يحدد فئات
الشعراء.
ومن هنا، فإن مصطلح الأدب الإسلامي يقيم صروحه على هذا التقسيم القرآني.
البيان: هناك من يعترض على مصطلح (الأدب الإسلامي) ويرى أن الأدب العربي أشمل منه،
وتجنباً لتجزئة الساحة الأدبية، واختلاف الأدباء بعد هذا التصنيف؟
أ.د. الهويمل:
سبحان الله! وهل الأدب الإسلامي وحده الذي يجزِّئ الساحة الأدبية؟ ولماذا لا
يجزِّئها الأدب الماركسي والوجودي؟ ثم إن الساحة مُجزَّأة وممزَّقة من قَبْل الدعوة
إلى هذا الأدب الإسلامي. وعلى الجميع أن يعلموا أن الأدب الإسلامي مشروع تطهيري
يحاول تنقية الكلمة من الشوائب، لأنه يؤكد على صدق المحتوى وشرف الغاية وسلامة
الوسيلة، وجمال العرض، والنفس الإنسانية وحاجتها إلى الترويح البريء. والأدب العربي
المعاصر لا ينهض بكل هذه الملامح، ولم يعد خالياً من الشوائب، فالضخ الغربي والشرقي
وقابلية التبعية والتهالك على الطارئ، كل ذلك تردَّى معه أدبنا العربي في أوحال
المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية والفوضوية.
كما أنَّ الأدب العربي - الذي يتباكى عليه هؤلاء - كان أدباً إسلامياً، وكان الخروج
على مقتضى الإسلام في الإبداع يعدُّ تجاوزاً فردياً أمَّا الآن فإنَّ الأدب العربي
لم يعد في جملته إسلامياً، ويكاد يكون الاتجاه الإسلامي وسط طوفان التعدي على حمى
الله تعالى. ومع التباين في المحتوى بين الأدب العربي والإسلامي فإنَّ أحدهما لا
يلغي الآخر.
البيان: ربما يقول قائل: إن الأدب الإسلامي ليس له نظرية يصدر عنها مثل الآداب
الأخرى؟
أ.د. الهويمل:
هذا الكلام نوع من الترف، لأن نظرية الأدب الإسلامي لم تُجتثَّ من الأرض ولم تكن
طارئة، إنها تمتد بجذورها في عمقٍ تاريخيٍّ لا مثيل له في كل الآداب العالمية؛ بل
إن جذور الأدب الإسلامي مسوغات لاستمراره، فالقرآن بكل ما يحفل به من مدد بياني
مَعِين لا ينضب يتدفق في شرايين الأدب ويمده بأرقى الأساليب وأشرف الأفكار وأنبل
الغايات، والحديث النبوي الشريف يأتي في قمة الفن، وقد نظر إلى الجماليات صوتاً،
وصورة، وأسلوباً.
والشعر العربي الذي نافح عن الإسلام جنباً إلى جنب مع المجاهدين في سبيل الله، تمتد
وشائجه إلى اليوم ليضخ فكره وجمالياته في محيط الأدب الإسلامي الحديث، ونظرية
النظْم التي اضطلع بها (الجرجاني) تجسِّد الجمالية الأسلوبية بأبهى صورها. فلم يؤثر
المدلول القرآني أو النبوي على روعة الأداء وجمال النظم؛ فكيف نفكِّر في إثارة
الملمح الجمالي ونظريته ونعدُّه معوقاً في طريق ذلك الأدب؟
ومن هنا أيضاً، لا يمكن تنحية الأدب وأيديولوجيته وأثره الفكري والعقدي والأخلاقي
في الحياة.