«توفيــق وصفـي» لـ«مجلة البيان»:
يروي ذكريـات العيــد في سجون إسرائيل:
رأيتُ شبابَ القدس تُحرق جثثهم في ساحة الأقصـى
المألوف والمتعارف عليه مع إطلالة عيد الفِطر المبارك، أنْ يَسترجِع الناسُ أجملَ الحكايات وأرق الذّكريات... لكنَّ المستشار «توفيق حسن وصفي» يَسترجِع أقسى الذّكريات المُوجِعة وأشدّ المواقف المؤلِمة التي قضاها داخل سجون إسرائيل، عبر رحلة طويلة من الاستجوابات القاسية.
وفي هذا اللقاء يروي معاليه: أين اعتقلوه؟ ومتى؟ وماذا سألوه؟ وبماذا أجابهم؟ وماذا صنعوا به؟ وماذا رأى، وماذا سمع داخل الزنازين والحبس الانفرادي...
وقبل أن نسترسِل في الحوار، تجدر الإشارة إلى أنَّ «ضيْفنـا» أحد المفكّرين السياسيّين، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والأمين العام السابق لجمعيات الشبان المسلمين العالمية. وقد عمِل مديرًا لمكتب جامعة الدول العربية بالقدس الشريف في الفترة ما بين مارس 1964م وحتى يونيو 1967م؛ حيث اعتقلته القوات الإسرائيلية مع عدد كبير من السفراء والقناصل والدبلوماسيين العرب يوم 5 حزيران 1967م، وقد عايش داخل سجون إسرائيل رحلة طويلة من الاضطهاد والتنكيل والاستجوابات إثْر نكسة حزيران... إلى آخر تلك الذكريات الأليمة التي يرويها لـ«البيــان».
مصير الحضارات الظالمة
مجلة البيان: بداية، دعنا نسألك بعد تلك العقود الطويلة التي قضيتها في أتون العمل السياسي ومعمعة الشأن العام... ما هو الشاطئ الذي تقف عليه الآن؟
أعتقد أنَّ هذا السؤال ينبغي أن يطرحه كل إنسانٍ على نفسه؛ لاستدراك ما فاته، وإنجاز ما يُشرّفه أمام الله.. وإنَّ حركة التاريخ التي تخضَع لسُنَّة الله في الحقّ والعدل لن تظل سائرة في طريقها المنحرف، بل لا بدَّ أن تعود إلى طريقها الذي يريده الله. وكذلك «القدس» لا بدَّ أن تعود إلى أصحابها الشرعيين، وإلاَّ فإنَّ الحضارة القائمة لن تفلِت من مصير الحضارات التي خالفت سُنَن الله الجارية في خَلْقِه.
دراسة أحــوال العــدو
مجلة البيان: ماذا كانت طبيعة عملك في القدس، ولماذا تمَّ اعتقالك في سجون إسرائيل؟
لقد كنتُ مديرًا لمكتب جامعة الدول العربية في القدس منذ شهر مارس 1964م، وقد أُنشِئ هذا المكتب ليكونَ على مقربةٍ من الأحداث، ويقوم بدراسة أحوال وشؤون العدو الصهيوني، وقد شهدتُ هناك ميلاد (منظمة التحرير الفلسطينية) بفندق الإنتركونتنيتال بالقدس مع العاهل الأردني الراحل «الملك حسين»؛ حيثُ عُيّنَ الأستاذ (أحمد الشُقيري) رئيسًا لها.
وعندما جاء يوم 5 حزيران 1967م –الذي كان بداية تمزُّق الأمة العربية-؛ شاهدتُ أحداثًا ومناظر لا أنساها مدى الحياة، خاصةً عندما كانت طائراتُ العدو الإسرائيلي تدكُّ المواقع الدفاعية في القدس والضفة الغربية في حملات مكثَّفة، استمرت منذ الساعة الثامنة صباحًا حتى الغروب، وقد استُشهِدَ جميعُ الأبطال من الجيش الأردني، وهنا أيقنتُ أنه لا سبيل للخلاص، وشاهدتُ طلائع الجيش الصهيوني وهي مختالة متغطرسة لا يَحكمها دينٌ ولا قانون... وظلَّ الجحيمُ مُخيّمًا فوق القدس... طائرات تُعربد في الجو... قنابل تتفجر في شراسة... حِمَم تتطاير... رصاص ينهمر في كل اتجاه!
ومِمَّا أذكره أنَّ «القنصل العراقي الزميل» ذكَر لنا أنه كان في برلين أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنَّ الغارات الجوية على القدس تفوق الغارات التي شنَّها الحلفاء على برلين في أحلك ساعات تلك الحرب! وهكذا فاقت بربريَّة الصهاينة بربريَّة النازي في القسوة والضراوة والقتل للأبرياء والتدمير.
وقد اجتمعنا في مبنى القنصلية المصرية –أنا والقنصل المصري العام الأستاذ «أحمد المُلا» السفير السابق في إسرائيل، ومساعده الأستاذ/ نصرت نعيم، وقنصل عام العراق «عبد الرحمن الخوجه»، وكذلك القنصل السوري؛ حيث كانت مكاتبنا كلها في منطقة واحدة، وكان مبنى القنصلية البلجيكية بجوارنا، فتمَّ اتصال هاتفي بالقنصل البلجيكي الذي رحَّب بنا، فتسلَّلنا من باب الحديقة الخلفي لنستقر عنده؛ طلبًا للأمان.
وظللنا عنده حتى قُبيل غروب يوم 6 يونيو/ حزيران إلى أن خرج مساعد القنصل رافعًا العلم الأبيض، وقابل قائد جيش الاحتلال، وذكَر له أنَّ الدبلوماسيين العرب في حماية القنصلية البلجيكية... فرفض الجنرال الإسرائيلي هذا الاقتراح.
وفجأةً؛ إذ بقوة لا يقل عددها عن 25 ضابطًا إسرائيليًّا مدجّجين بالسلاح، وموجِّهين فوهات أسلحتهم نحو رؤوسنا وصدورنا، طالبونا بالوقوف، ووجوهنا نحو الحائط، وأيدينا إلى أعلى! حاول الدبلوماسي البلجيكي الاحتجاج؛ فكان نصيبه صفعةً قويةً ألصقته بالحائط!
الطريق إلى سجن الرملة
تمَّ تفتيشنا بعنف ومعاملة قاسية للغاية، وصادروا ما وجدوه معنا، ثمَّ أمرونا بالسير في الظلام الدامس، حتى وصلنا إلى فندق (امباسادور) مقر قيادة العدو... وهناك وجدنا الكثير من وجهاء القدس ورجال الضفة الغربية وبعض السيدات المناضلات، ثمَّ أتت سيارة عسكرية لتنقلنا إلى (سجن الرملة) هناك!
ولا أنسى مساء يوم التاسع من حزيران، عندما جاءتنا مجموعة من الضباط والجنود الصهاينة –وعلامات السعادة والغبطة تكاد تجعلهم يطيرون فرحًا، وأخبرونا في زهوٍ وخيلاء بأنَّ «عبد الناصر» قد انتهى... وأصبح الصلح مع العرب في جيْبهم!
إنني مهما تحدّثتُ عمَّا رأيتُ وسمعت، فلن أستطيع أن أنقل الصورة كلها عن رحلة العذاب هناك؛ فقد كان ليلنا نهارًا، وكان نهار رمضان حارًّا جدًّا، خاصةً مع الحبس الانفرادي والزنازين المغلقة، هذا فضلًا عن التعذيب المستمر بوسائل شتَّى، وأساليب فوق طاقة البشر! فهناك الاستجوابات المستمرة التي هي وابل من الشتائم والتهديد والوعيد، وهناك سوء المعاملة مع الحرمان من الطعام والشراب، وبقية الضرورات الحياتية، وهناك الحراسة المشددة، وحرب الأعصاب مع عدم النوم، بسبب تعمُّد إصدار أصوات مزعجة لإرهابنا في جوف الليل، وانقطاع الأخبار عنَّا بالكلية... إلخ.
بأيّ حــالٍ عُدتَ يا عيـد؟!
وعن ذكرياته، في (يوم العيد) داخل سجون إسرائيل؛ يقول المستشار/ توفيق وصفي: في يوم التاسع والعشرين من رمضان، أعلنت إذاعةُ إسرائيل أنَّ غدًا العيد... وبعد فترة جاءنا أحد الحرّاس الدروز ليعلن أمامنا أنه استمع لإذاعة القاهرة التي أعلنتْ أنَّ رمضان سيكتمل ثلاثين يومًا، وأنَّ عيد الفطر بعد غد، فقرّرنا الصوم واتباع القاهرة فيما أعلنته... وحينما حاول ضابط السجن أن يهنئنا بعيد الفطر؛ أهملنا الرد عليه، وقلتُ له: إن عيدنا يوم أن نخرج من السجن، ولا نرى وجوهكم أبدًا.
ومِمَّا لا أنساه، أن إدارة السجن سمحت بإذاعة صلاة العيد من المسجد الأقصى، وكم كان مؤلمًا على النفس وموجعًا للقلب قول المذيع الصهيوني: الإذاعة الإسرائيلية من المسجد الأقصى تنقل لكم صلاة عيد الفطر المبارك!
وبدأ إمامُ المسجد، الشيخ (سعيد الخطيب) يُلقي خطبة العيد قائلًا: عيدٌ بأيِّ حالٍ عدتَ يا عيد؟! إنَّ باحات المسجد الأقصى قد اغتُصِبَتْ، والحُرمات قد انتُهِكَتْ... ثمَّ بكى، وأبكانا معه... ثمَّ انقطع الإرسال فجأةً، واعتذر المذيعُ الإسرائيلي بحجَّة وجود خلل فنّي اضطرهم لقطع الإرسال والعودة للأستديو!
وإنَّ أشدَّ المشاهد بشاعةً، ما شاهدته يوم عيد الفطر؛ حيث تحولتْ ساحةُ (سجن الرملة) إلى مجزرة للمواطنين العرب الذين أُلقيت جثثهم في الشوارع، وكذلك في ساحة الأقصى المبارك، وهكذا كان عيدنا قاسيًا وثقيلاً... ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
الإفراج عن الطيّارين الإسرائيليين
ويستطرد قائلًا: أتذكّر أنه في صباح اليوم الثاني للعيد، وفي إحدى جولات الاستجوابات والتحقيقات، جاءنا مسؤول المخابرات العامة في الجيش الصهيوني يُحيط به ضابطان من ذوي الأجسام الضخمة، وهذا المسؤول صاحب الوجه الجامد بنظراته الحادة التي كان ينبعث منها الشر والشرر، طلب منّي أن أُحرِّر خطابًا بخط يدي إلى مسؤول كبير بالقاهرة أختاره بنفسي.
قلت له: إني أعمل بالجامعة العربية. فكان ردّه: اكتُبْ لسكرتير الجامعة -وهو يقصد (الأمين العام) آنذاك الأستاذ/ محمد عبد الخالق حسونة-. قلت: ماذا أكتب له؟! قال: اذكُر له بأنكَ وزملاءك مُعرَّضون لأشدّ أنواع التعذيب الذي قد يصل إلى الموت (هكذا)! إذا لم تُفْرِج الحكومةُ المصرية عن الطيارين الإسرائيليين (الأحد عشر) الذين وقعوا في أسر الجيش المصري. فترددتُ قليلًا... فما كان من أحد الضابطيْن إلاَّ أن هوى على كتفي بهراوة من المطَّاط المضغوط، انخلع فيها كتفي من مكانه، ثمَّ أمرني رئيسهم أن أكتب ما يُمليه هو.. وبعدما كتبتُ وأنهيتُ الخطاب، قرأه بنفسه... وأخبرني أنهم سيرسلونه إلى «الأمين العام» بطرقهم الخاصة... ومثل هذا الدور قاموا به مع قناصل مصر والعراق وسوريا تحت التهديد والضرب والإهانة.
وهكذا كانت الحياة في سجون إسرائيل.. أيام مريرة للغاية.. لاقينا فيها مِن الاضطهاد النفسي والبدني والضرب والتعذيب والإهانة ما لا يخطُر على البال!
الصراع الأبدي
مجلة البيان: في ظل تتابع الأحداث الجارية؛ كيف تنظرونَ إلى فحوى الصراع القائم حول القدس بين العرب واليهود؟
قضية القدس لا تخُصّ الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية الأمة كلها، وصراعنا مع اليهود قديم وحتميّ ومستمر إلى قيام الساعة. لذا؛ لا بدَّ أن نرتكز على عقيدة صحيحة، وعلى معرفة بتاريخ العدو ومخططاته، والذي لا يعرف ذلك لا يصلح لقيادة هذه الأمة في معركة التحرير والتطهير من رجس اليهود.
فهؤلاء القوم أنشأوا دولتهم على التراب الفلسطيني، واتخذوا من القدس عاصمةً لهم؛ بناءً على مزاعم تلموديَّة، وقد ربَّوا أنفسهم على عقيدة فاسدة تغلغلت في نفوسهم حتى أصبح اليهودي الجبان فارسًا مغوارًا يصول ويجول؛ بسبب سريان تلك العقيدة في نفسه.
هذا هو السلام الحقّ
مجلة البيان: في ظل التعنُّت الإسرائيلي الصهيوني، ما السبيل نحو تحرير القدس؟ وما واجب العرب والمسلمين إزاء تلك المدينة المقدسة؟
نحن دعاة سلام، والسلام الحقّ لا بدَّ له من قوةٍ تحميه، وتردع الظالم؛ فالسلام في الإسلام عزّ وشوكة وعدل وقوة، وليس خنوعًا ولا ذلّة.
والواقع يشهد أن اليهود يسعون لإشعال الحروب في أرجاء العالم العربي، واستنزاف مصادر قوته، وأنهم يسعون إلى ترويض العرب والمسلمين على القبول بالأمر الواقع، وإضفاء الشرعية على جرائمهم المتواصلة، واستجداء القوى الغربية لدعمهم ماديًّا ومعنويًّا.
أمام هذه كله، لا بدَّ من تذكير الأمة حُكّامًا ومحكومين بأنَّ القدس جزء لا يتجزأ من الأرض العربية، وقد ظلت كذلك أكثر من خمسة آلاف عام. وأنَّ الوجود الصهيوني عليها غير شرعيّ مهما اعترفت به المنظمات الدولية، ولا أحد يملك التفريط في هذا الحقّ المقدَّس، والنصر أصبح قابَ قوسيْن أو أدنى؛ {ولينصُرنَّ اللهُ مَن يَنصُره إنَّ اللهَ لقويٌّ عزيز} [الحج: 40].