الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ:
إن نشوء التحالفاتِ الكبيرةِ ذاتِ الطابعِ العسكري عبر التاريخ سواء كانت علنيةً أم كانت سِريَّةً؛ يعني ولادة مشاريع كبيرة مع خرائط جديدة لتقاسُم النفوذ. فمثلاً اتفاقية سايكس بيكو - التي أعدتها كلٌّ من بريطانيا وفرنسا واطلعت عليها روسيا القيصرية وفضحتها الثورة البلشفية الشيوعية - كانت تحدِّد بدقة خرائط تقاسم أراضي الدولة العثمانية، وقد تم تنفيذها بعد الحرب ما عدا ما كان منها يخص روسيا القيصرية التي كانت تطمح لاحتلال إسطنبول وأجزاء كبيرة من الأناضول بمساعدة الأرمن واليونان ونَقْل مركز الكنيسة الأرثوذكسية إلى إسطنبول.
إن الذي يظهر من إعلان تحالف الدول الأنجلوساكسونية الذي يضم (بريطانيا وأمريكا وكندا ونيوزيلاندا وأستراليا) والذي يسنده تحالف آخر يضم (الهند وكوريا الجنوبية واليابان)، الذي يظهر من ذلك أن المستهدف هي الصين بحصارها والحدِّ من اتساع نفوذها. ولكن الملفت للنظر أن أكثر الدول تضرراً هي فرنسا إلى درجة أنها وصمت أفعال هذه الدول بأنها طعنة في الظهر... ونعتت بريطانيا بالانتهازية، وسحبت سفراءها من الولايات المتحدة وأستراليا.
وثمة من يسأل: تُرى هل كان ذلك كله من أجل إلغاء صفقات سلاح فقط؛ أم أن الأمر أكبر من ذلك؟ إن رمزية إلغاء فرنسا مشاركتها في احتفالية نصب الحرية الذي أهدته هي للشعب الأمريكي بمناسبة تخلُّصه من السيطرة البريطانية؛ يشي بأن بريطانيا عادت إلى توجيه سياسة أمريكا المتخبطة، وأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان توطئة للتحالف الأنجلوساكسوني الجديد، وأن الخرائط الجديدة تُرسَم حالياً لتقاسم تَرِكَة دولة مريضة ومنهكة؛ فالكل ينتظر انهيار الاستعمار الفرنسي في إفريقيا، وأن حصار الصين يهدف - أساساً - لتقليل نصيب الصين إلى أقل حدٍّ ممكن من التركة. أما فرنسا فقامت بإجراءات استباقية في تونس، واغتيال إدريس ديبي في تشاد، والانقلاب العسكري في غانا، وما تلاه من مسارعة حكام مالي العسكريين إلى الدخول تحت حماية الفاغنر الروسي خوفاً من فرنسا. وفي السياق نفسه نحاول أن نفهم توتر حكام الجزائر وتصعيدهم مع المغرب... إنها إرهاصات صراعٍ من المؤكد أن فرنسا هي الفريسة فيه؛ فقد بقيت وحيدة ولن يفيد ماكرون مشاركتُه في مؤتمر بغداد وتصريحه بأن وجود فرنسا في العراق مستمر وغير مرتبط باحتمال الانسحاب الأمريكي، ولن تنفعه دموع التماسيح التي ذرفها واعتذاره لتجاهل فرنسا للخونة الجزائريين الذين هربوا إليها وإهمالها لهم، ويعد بتعويضهم!
فيما يبدو أن فرنسا ستكون بحاجة من جديد لكثير من الخونة.