التغلغل الاستعماري الفرنسي في السنغال
المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى بيان طبيعة وخصوصية الوجود الاستعماري الفرنسي في السنغال، علماً أنَّ هذا الحضور عرف تطوراً ملحوظاً بالتزامن مع بداية انكماش الحضارة العربية الإسلامية، وتراجُع قوَّتها الاقتصادية منذ مطلع القرن الخامس عشر. وقد اشتملت دراستنا هذه على ثلاثة محاور: خصص الأول لدراسة وتتبـع بدايات التنافس الأوروبي على السنغال قبل القرن 19م. أما المحور الثاني فخصص لبحث الاختراق الاستعماري الفرنسي خلال فترة الدراسة. وتطرق المحور الأخير لبحث وتقصي ردود الفعل المحلية على هذا التغلغل؛ وتمَ التركيز على حركة الحاج عمر الفوتي، كونها شكلت العقبة الحقيقية في وجه الأطماع الفرنسية بالسنغال، وخطراً كبيراً على مستقبل وجودها في المنطقة كلها.
ودراسة الباحث للحقبة الزمنية الممتدة من 1854 - 1865م، تبررها في نظره الأهمية الخاصة التي تحظى بها هذه الحقبة في تاريخ السنغال الحديث.
على المستوى الدولي:
اتسمت هذه الحقبة بتغيُّرات اجتماعية وسياسية كبرى، تجلت على الخصوص في تركيز النظام الإمبراطوري، الذي أفرز مدّاً استعماريّاً كبيراً غطى بتأثيراته معظم أقطار القارة الإفريقية، بما في ذلك السنغال، والذي استمر خلال هذه الفترة من تاريخه متعلقاً ببِنْيَاته الاجتماعية والسياسية التقليدية، التي كانت قد اهتزت بعمق نتيجة احتكاكها بمعطيات ومؤشرات حضارة هذه الحقبة.
وعلى المستوى المحلي في السنغال،
تعدُّ هذه الحقبة منعطفاً تاريخياً مهمّاً في حياة البلد؛ إذ حتمت عليه الظرفية التاريخية أن يواجه فيها إحدى أكبر القوى الاستعمارية في ذلك القـرن، بعد أن عبَّرت الممالك السنغالية عن رفضها لأي شكل من أشكال السيادة الفرنسية على مجالها الترابي حتى عام 1854م.
أما نهاية الفترة المدروسة 1865م،
فلها أكثر من دلالة؛ فأهم حدث على المستوى المحلي هو إخماد نار المقاومة جراء وفاة زعيمها الحاج عمر الفوتي؛ وتصادف الفترة عينُها نهايةَ فترة حكم الوالي فيديرب، بعد أن أرسى قواعد الوجود الفرنسي ليس فقط في السنغال، بل في معظم أرجاء إفريقيا الغربية.
المحور الأول: التنافس الأوروبي على السنغال قبل القرن (19م)
بعد جهود جبارة تمكن البرتغاليون في إطار كشوفاتهم الجغرافية من الوصول إلى مصبَّيْ نهري السنغال وغامبيا، وذلك قبل عام 1460م[1]. وباعتبار أهداف الكشوفات، المتمثلة في الحصول على الذهب والرقيق الإفريقي والعاج فضلاً عن نشر الديانة النصرانية، فقد كان طبيعياً أنْ يعمل البرتغاليون على إنشاء عدد من القلاع والحصون لتنظيم التجارة على طول السواحل السنغالية المكتشَفة[2].
ولم ينتظر العرش الإسباني طويلاً لكي يلتحق بالبرتغاليين في سعيهم لتحقيق الغايات والأهـداف نفسها. وخلال القرن 16م، تزايد الاهتمام الإيبيري بالمنطقة الواقعة ما بين نهرَي السنغال وغامبيا (السنغامبيا)[3]، وازداد ضغطهم للحصول على الذهب والرقيق، خاصة بعد أن دخلت هذه المواد في ما يُعرف بالرواج الثلاثي ما بين أوروبا وإفريقيا وأمريكا[4].
وشكلت منطقة السنغال خلال الفترة المتراوحة ما بين منتصف القـرن 15م ومطلع القرن 17م، أهم مصدر للعبيد. الشيء الذي كان له أثر مريع على البنية السكانية للمنطقة، وأسهم هذا العامل بدوره في خلق وضعية سياسية واجتماعية ونفسية صعبة للغاية[5].
وقد يحلو لبعض الدارسين بهذا الصدد، أنْ يدافعوا عن الرأي القائل بأنَّ تجارة الرقيق الأوروبية، ما هي إلا امتداد لتجارة الرقيق الإسلامية عبر القوافل الصحراوية. بَيْدَ أنَّ هذه الفكرة الملغومة لا تستند إلى أي أساس من الصحة ولا تؤيدها الوثائق المتوفـرة سواء أكانت عربية أم أوروبية[6]. والأمر الأكيد كذلك، أنه بعد انهيار الإمبراطوريات القروسطية (غانة ومالي وسنغاي وجلف)، تفتت الوحدة السياسية لبلاد السنغال؛ إذ برزت ممالك صغيرة كما هو الشأن في كايور، وباول، ووالو، وغيرها من المناطق. وكانت هذه المناطق خاضعة لزعماء محليين، غالباً ما كانوا يتصارعون فيما بينهم لتوسيع مجال نفوذهم، وقد امتد هذا الصراع ليشمل الإمارات البيضانية على الضفة اليمنى من نهر السنغال. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحـد، بل كانوا يتنافسون في خدمة طلبات التجارة الأطلسية، المتمثلة أساساً في توفير الرقيق للأساطيل الأوروبية؛ ولتحقيق هذه الغاية، اجتهد الزعماء في خلق فِرَق من القناصة، زرعت الرعب بين الأهالي، ودفعت بكثير منهم إلى الهرب نحو المناطق الأكثر أمناً[7].
ومع بداية القرن 17م، دخلت كل من فرنسا وإنكلترا حلبة الصراع في السنغال، وكـانت هولندا قد سبقتهما بعدة عقود من الزمن. غير أنَّ قوة فرنسا وإنكلترا، جعلتهما تنفردان بحضور متميز، تدعَّم من خلال إنشاء عدد من الحصون، مثل حصن سان جيمس عند مصب نهر غامبيا، وبموازاة مع ذلك، تراجع الحضور الإيبيري واندفع نحو الجنوب، بينما تمَّ إقصاء هولندا عن حلبة الصراع. ولتدعيم موقعهما على الساحل السنغالي، تمَّ خلق عدد من المؤسسات التجـارية، تمتعت بامتيازات مهمة، نخص بالذكر منها، احتكار التجارة مع المنطقة. تبعاً لذلك ازداد وتنامى التنافس التجاري بين فرنسا وإنكلترا، الشيء الذي أسهم في خلق وبناء عدد من الحصون الأخرى، مثل حصن سانت جوزيف عام 1700م[8].
على أنَّ الحروب النابليونية في أوروبا، خاصة بعد هزيمة واترلو، كان لها وقع كبير على مكانة فرنسا في المنطقة، الشيء الذي حرمها لبضع سنين من ممارسة نفوذها في المراكز والحصون التي أنشأتها على الساحل الأطلسي الإفريقي؛ ولم تتمكن فرنسا من استعادة نفوذها إلا بعد توقيع معاهدة باريس عام 1815م. لتبدأ بذلك صفحة جديدة من صفحات تاريخ الاستعمار الفرنسي في المنطقة.
المحور الثاني: الاختراق الاستعماري الفرنسي للسنغال خلال القرن (19م)
حينما استردت فرنسا موقعها في سانت لويس وغوري بعد مؤتمر فيينا، وجدت نفسها مندفعة لتأكيد حضورها، وتوسيع نفوذها بالمنطقة؛ وراهنت في هذا الشأن على البعثات الاستكشافية لأعالي نهر السنغال سنتي 1817 - 1818م، وفي السياق نفسه حاولت استغلال المعاهدات التي وقَّعتها في السابق مع عدد من زعماء ممالك أعالي نهر السنغال: بوندو، وخاسو، وكادياكا، وبامبوك. وأنيط بهذا المخطط إنشاء مراكز وحصون داخلية على طول نهر السنغال ورافده الغاليمي؛ بهدف الوصول إلى مناجم الذهب في البامبوك، وكذلك ربط مستعمراتها تجاريّاً بالحوض الأوسط لنهر النيجر؛ حيث توجد مدينة تنبكت التي ما تزال تمارس تأثيرها السحري على الذهنية الأوروبية[9].
وشكلت الشركات التجارية الفرنسية المتمتعة بكل الامتيازات الاحتكـارية رأس الحربة في هذا الاختراق للجسم السنغالي. نذكر منها على الخصوص الشركة التجارية لغالم، التي عملت على توسيع مجال نفوذها بمساعدة إدارة سانت لويس. وبالنظر إلى الضغط الإنكليزي لمنع تجارة الرقيق، فقد اضطرت فرنسا لانتهاج سياسة الاستعمار الزراعي؛ وبذلك تصدرت مادتا الصمغ والفول السوداني، قائمة المواد المتداولة في تجارتها الأطلسية. وعلى المستوى السياسي، قررت فرنسا التخلص التدريجي من الإتاوات الممنوحة للزعامات المحلية سواء منها البيضانية أو السنغالية، وكانت تمهـد بهذه الخطوة لإلغاء جميع أنواع الإتاوات في مرحلة سابقة[10].
وبموازاة مع ذلك، وباعتبار تذبذب السياسة الفرنسية في المنطقة؛ تم إنشاء مديرية للشؤون الخارجية عام 1845م، على غرار تلك التي أنشئت بالجزائر، ومنح لهذا الجهاز الصلاحيات الكاملة للسهر على السياسة الفرنسية بالسنغال.
وتترجم هذه الترتيباتُ استعداد فرنسا لبسط نفوذها في مناطق الساحل وأعالي نهر السنغال من خلال مشروع استيطاني؛ الشيء الذي يؤكد رغبتها في تجاوز مرحلة التردد السياسي إلى مرحلة الاستعمار المباشر. إلا أن ثورة باريس عام 1848م عرقلت لبعض الوقت تنفيذ هذا المخطط، كما أن تعيين الوالي الجديد بروتي (1850 - 1854م) لم يساعد في حل المشكلة السنغالية؛ وزاد من تأزم الوضع، تهـريب الخـزينة الفرنسية من تمويل المخطط الاستعماري الجديد.
وصادفت هذه الصعوبات بروز شخصية استعمارية محنكة، ونقصد بها العقيد فيـديرب، الذي تم تعيينه على رأس الإدارة الاستعمارية في سانت لويس حاكماً عسكريّاً لها عام 1854م. ولم تكد تمضي سنة واحدة على تعينه، حتى وجدناه يخضع مملكة والو للسيادة الفرنسية؛ معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة من تاريخ الاستعمار الفرنسي للسنغال.
فيديرب (Faidherbe) ومشروعه الاستعماري:
يشقُّ علينا الحديث عن تاريخ السنغال الاستعماري، دون إبراز الشخصيات الاستعمارية الفاعلة فيه؛ ومن بين تلك الشخصيات التي طبعت تاريخ السنغال بطابعها الخاص، نذكر (لويس سيزار فيديرب)، حيث لم يتردد بعض الباحثين في وصفه بأنه مهندس السياسة الاستعمارية في إفريقيا الغربية، وأول من أرسى أطماع فرنسا في المنطقة، وبلور أهدافها الاستعمارية[11]؛ فماذا عن هذه الشخصية؟
كانت ولادته بمـدينة (ليـل Lille) الفرنسية في 3 يناير 1818م، وهو سليل أسرة مدنية متواضعة الحال، تابع تعليمه بمدرسة البوليتكنيك في 1837 - 1838م التي تخرج منها سنة 1840م، ليلتحق بالمدرسة العسكرية بميتز. ثم عمل ضابطاً مهندساً. وقد كان أول احتكاكه بالعالم الإسلامي حين عُين بالجزائر، التي عمل بها لعدة سنوات.
وفي سنة 1852م أُرسِل إلى السنغال، حيث عمل تحت إمرة الوالي بروتي، لكن نقمة الدور التجارية على هذا الأخير، عجلت بإقالته، وأعطت الفرصة لفيديرب ليتقلد منصب والي السنغال، الذي شغله من سنة 1854 إلى 1861م، ومن سنة 1863م إلى 1865م. وبعد مغادرته للسنغال تقلد عدَّة مناصب هامة سواء في الجيش أم المؤسسات الانتخابية، وقد توفي عام 1889م[12].
برنامج فيديرب الاستعماري:
إنَّ تعيين فيديرب على رأس الإدارة في سانت لويس جاء في وقت دقيق، وحساس بالنسبة لفرنسا؛ فمن جهة شهدت هذه الفترة تركيز النظام الإمبراطوري في شخص نابليون الثالث، ومن جهة ثانية، عزمت القيادة الفرنسية الجديدة على تنفيذ المخطط الاستعماري الذي تقرر عام 1850م.
وهكذا أوكلت هذه المهمة - في أول الأمر - إلى الوالي بروتي، غير أنه بعد أن تعذر عليه تنفيذها، أسندت إلى فيديرب، الذي لخصها الوزير في رسالته بتاريخ 8 ديسمبر 1854م:
إنشاء مراكز على الضفة اليسرى لتكون نقط ارتكاز لأسلوب التبادل الجديد.
القضاء على محطات التبادل، وإبدال أماكـن بها يختارها التجار سواء على الضفة اليمنى، أو اليسرى.
وضع مملكة والو تحت الحماية الفرنسية، والقضاء على هيمنة الشناقطة.
إقرار حرية الملاحة في نهر السنغال، وإلغاء الإتاوات.
إلزام سكان الضفتين (الزنوج، والبيضان) بالاعتراف بسيادة حكومة السنغال .
الاهتمام بالسنغال الأعلى، ومحاولة خلق نقط ارتكاز لغزو السوق السوداني[13].
نفهم من هذا المشروع، أنه جاء محاولة تطبيقية لرؤية جديدة؛ تهدف إلى المحافظة على الوضعية المتفوقة لفرنسا التي فقدت كثيراً من وزنها بسبب فشل مشاريعها الاستعمارية في السنغال.
وبعد استعراض أهم ما جاء في مشروع فيديرب الاستعماري، يمكن للقارئ أن يلاحظ أن القوة هي العنصر الأساسي فيه، وخير دليل على ذلك ما جاء في قول فيديرب: «أعتقد أنه ليس أمامنا سوى طريق واحد هو أن نعمل ما نريد عمله، ولنحارب من يعارضنا».
المحور الثالث: ردود الفعل تجاه الاستعمار الفرنسي: حركة الحاج عمر نموذجاً
في ضوء ما يتوفر بين أيدينا من مادة مصدرية، تُمكِّننا من معرفة ردود الفعل الوطنية تجاه الوجود الفرنسي في السنغال، سيتم التركيز على أهم حركة جهـادية، ألا وهي (الحركة العمرية)، التي قادها الحاج عمر الفوتي، والتي كانت بالأساس حركة إصلاحية دينية، ثم تحولت إلى حركة سياسية عسكرية، ألحقت بالفرنسيين خسائر فادحة، وأجبرت الساسة وأصحاب القرار الفرنسي على تغيير الإستراتيجية العسكرية في كثير من الأحايين.
أولاً: مواجهات ما قبل عام 1857م:
لقد كانت هذه المرحلة تمثل بدايات الصراع العمري الفرنسي، وما يلاحظ على إستراتيجية الحاج عمر فيها أنه اكتفى بإثارة سكان منطقة النهر ضد الفرنسيين، في إطار ما اصطلح على تسميته بحرب العصابات، وتشديد الخنـاق الاقتصادي على سانت لويس، عن طريق منع المتاجرة معهم وضرب المصالح التجارية الفرنسية أينما وجدت. هذه الإجراءات وإن كانت ظـرفية، فقد أثبتت فعاليتهـا، على إثر الخسائر المادية والبشرية التي تكبدها المستعمر، إلا أنها لم تحُل دون وقوع المواجهة العسكرية بين الطرفين، التي جعلت الحاج عمر يغيِّر في إستراتيجيته ضد الفرنسيين في المرحلة المقبلة من الصراع.
ثانياً: مواجهة أبريل عام 1857م وتجلياتها:
دارت هذه المواجهة في مدينة (Médine) التي كانت تحكـم من قبل القائد بول هول، وكان ذلك أثناء عودة الحاج عمر من كارطا. واستعداداً لهذه المواجهة نزل الحاج عمر في كوندا الواقعة إلى الجنوب من مدينة (Médine) في منتصف شهر أبريل، وفيها استقرت قيادته العليا وعسكر جيشه، الذي بلغ تعداده قرابة 150 ألف مجاهد[14]. ودارت بين الطرفين معركة ضارية دامت ست ساعات، تمكن خلالها المجاهدون من فرض حصار على مدينة (Médine) التي كان يدافع عنها بول هول، واقتحام بعض حصون وقلاع المدينة، وكادت المدينة أن تسقط بيد المجاهدين حيث رفعت الراية الإسلامية؛ غير أنه مع مرور الوقت استطاعت القوات الفرنسية أن تحسم الموقف لصالحها بإحداث مجزرة فظيعة في صفوف المجاهدين، اضطر الحاج عمر إلى الانسحاب مع بقية جنوده على إثرها[15].
ورغم اعتراف العدو باستبسال المجاهدين، ورغبتهم في الاستشهاد؛ إلا أن هذه الهزيمة شكلت نكسة حقيقية وهزيمة مُرَّة للحاج عمر، حملته دون شك على تأجيل منازلة عدوه مرة أخرى، بعد أن اقتنع بأنه ما زال دون مستوى رفع التحدي في وجه الفرنسيين. وقد حاول الحاج عمر أن يتقدم لرفع معنويات رجاله واسترجاع هيبته، مستغلاً في ذلك ما تبقى من شهور في الفصل الجاف الذي يحد من حرية تحرك السفن الفرنسية، فشنت قواته سلسلة من الهجمات ضد المواقع الفرنسية، أحدثت فيهـا بعض الخسائر فقط دون أن تحقق أي انتصار حاسم، نذكر من هذه الحملات على الخصوص هجوم 11 ماي/ أيار 1857م، ثم هجوم 4 يونيو/ حزيران من العام نفسه. ومرة أخرى يتلقى المجاهدون ضربات موجعـة على يد العدو الذي رفع من إيقاع حملاته العسكرية عمودياً وأفقياً، وصار يركز من خلالها على أهم المواقع العمرية المحصنة، فحطم تحصينات كونجورو بخاسو يوم 22 يوليو، هذه الانتصارات الفرنسية المتتالية خلال الفصل المطير، جعلت الحاج عمر يفضل الانسحاب من مدينة خاسو ويأمر رجاله بالتخلي عن حصار مدينة (Médine) في شهر غشت/ آب 1857م لتجنب الأسوأ[16].
معطى القول: بعد أن استعرضنا أهم محطات الصراع بين الجانبين خلال عام 1857م، نجد أنه تميز بتفوق الجانب الآخر (الفرنسي) على الحركة الجهادية، لكن هذا لا يعني إخماد هذه الحركة؛ بل استمرت إلى حدود عام 1859م، عرفت خلال تلك المدة مجموعة من الأحداث والتطورات.
ثالثاً: مواجهات ما بعد عام 1857م وتخلي الحاج عمر عن منازلة الفرنسيين مؤقتاً:
لقد شكل هذا الانسحاب والابتعاد عن الفرنسيين في اتجاه الجنوب آخر محاولة في نهاية خمسينيات القرن 19م، من قبل الحاج عمر لإنهاض الهمم وشحذها، استعداداً للانتقام من الفرنسيين؛ وقد تحقق بعض من هذه الآمال لصالح المجاهدين، عندما انتقلوا من إقليم بامبوك إلى إقليم بوندو، عبر نهر الفاليمي دون كبير عناء، وهو ما يؤشر إلى تعاطف بلدان هذه الجهات معهم. كما حققوا نصراً بيِّناً على القوات الفرنسية بعد معركة ضارية في قرية نجوم (Njum) الواقعة جنوب بلدته حلوار وسط فوتا في منتصف شهر فبراير عام 1858م خلال فصل الجفاف[17].
وخلَّف هذا الانتصار آثاراً إيجابية في نفوس المجاهدين، نتيجة ما خلفوه من خسائر بشرية ومالية فادحة في صفوف العدو، كما تمكنوا من الاستيلاء على مدفعين، شكل اغتنامهما مكسباً مادياً و دعماً عسكرياً مؤثراً. وبعد هذه المرحلة اتجه الحاج عمر إلى فوتاتور، ولكن لم يكن الطريق سهلاً أمامه، وخاصة بعد الترتيبات الفرنسية، و الخطر الداخلي المتمثل بتحالف بعض الزعامات المحلية مع الفرنسيين[18].
لا شك أن الحاج عمر كان على علم بكل تطورات الإجراءات السياسية والعسكرية والاقتصادية الفرنسية التي تدبر ضده في فوتاتور، في الوقت الذي كان يهيئ فيه السكان لتعبئة شاملة، تستطيع قلب الأوضاع لصالح الجهاد في المنطقة عن طريق توزيع الغنائم التي حصل عليها بعد الهجوم على المراكز التجارية، وإلقاء الخطب الحماسية، لكن في مرحلة ثانية تغير خطاب الحاج عمر إلى سكان فوتاتور، ويبدو أن التوجه الجديد لخطـابه أملته ضرورات ميدانية واقعية لم يعد قادراً على مواجهتها بنجاح، فاضطر أمام التفوق الفرنسي إلى تغيير الخطاب بغية نهج توسع سياسي جديد، يمكنه من الخروج من المأزق الذي وجد فيه، ولذلك نجده هذه المرة يحث الناس على الهجرة إلى كارطا للابتعاد عن الفرنسيين ما دام أنهم غير قادرين على مواجهتهم. فيقول الحاج عمر في هذا الصدد: «هاجروا، لا تتأخروا، اخرجوا من حيث لا وجود للدين ولا للسنة، هاجروا فإن هذا البلد لم يعد لكم، إنه بلد الأوروبي، ووجودكم معه لن ينجح»[19].
فكانت عملية الهجرة من فوتاتور إلى كارطا محفوفة بالمخاطر؛ لتعدد المراكز العسكرية الفرنسية من فوتاتور حتى أعالي نهر السنغال. ووعياً من الحاج عمر بأن أعين الفرنسيين لا تنام، فقد انطلقت هجرته من نجوم خلال النصف الثاني من فبراير/ شباط عام 1859م، باتجاه كارطا مستغلاً فصل الجفاف الذي ساعد على كبح جماح القوات الفرنسية. وقد ساعدته بالفعل هذه الإستراتيجية بالمرور على كل أراضي فوتا في اتجاه أعالي النهر بسلام، رغم بعض المواجهات الخفيفة التي وقعت بين الطـرفين. إلى أن دخل مدينة نيورو (Nioro) عاصمة كارطا سلمياً يوم 28 يوليو/ تموز عام 1859م[20].
ما يلاحظ على هذه المرحلة أنه غلب عليها الطابع السلمي، وذلك بموجب مقتضيات المصلحة، وبطبيعة الظرفية الزمانية؛ فالحاج عمر وإن لم يحقق خلال هذه المواجهات ما كان يرجوه من صد العدو، لكنه على الأقل أقلق راحة الفرنسيين بمناوشات جنوده وهجماتهم على الدور التجارية والعسكرية. ووعياً من الوالي فيديرب، ومعه وزارة البحرية الفرنسية بقدرته على إمكان تحقيق أهداف بلاده في المنطقة عاجلاً أم آجلاً، فإنه رأى من الحكمة - على ما يبدو - أن يسعى إلى تحقيق السلم مع الحاج عمر في الوقت الحاضر على أن يترك لعامل الزمن مسألة تطويق خصمه والإجهاز عليه. فتوصل الطرفان خلال شهر غشت/ آب 1860م إلى الاتفاق على مشروع معاهدة السلم، التي تضمنت سبعة بنود:
اعتبار نهر السنغال الأعلى ابتداءً من باكل شمالاً وروافده نهر البافنيك جنـوباً حدّاً طبيعياً فاصلاً بينهما، بشكل يتيح لفرنسا السيطرة على كل ما يوجد من أراضٍ على الضفة اليسرى للنهر.
كل ما يوجد على يمين الحدود نفسها من أراضٍ مثل ديومبوخو وكارطا، وما والاها شرقاً يخضع للنفوذ العمري باستثناء إقليم جيديماخا.
لا يسمح للحاج عمر ببناء قلاع ولا قرى حربية.
الكف عن شن الحملات العسكرية والقيام بأعمال السلب والنهب للطرفين كليهما.
قبول الحاج عمر بإرجاع السلع التي أخذها في مدينة (Médine).
حرية التجارة بين البلدين، وسنبيع للحاج عمر كل ما يطلبه منا.
كل بلد يحتفظ برعاياه وأسراره كما يريد، ولا يجوز إرجاع الرعايا والأسرى الذين يفرون من بلد لآخر[21].
لا يحتاج الباحث إلى عناء كبير ليستنتج بعد الاطلاع على هذه الاتفاقية، أن بنودها صيغت لخدمة المصالح الفرنسية بالدرجة الأولى، وهكذا ومع انتهاء القرن 19م، تمكنت فرنسا من إخضاع كل إفريقيا الغربية لنفوذها، بعد إسقاط الدولة العمرية التي شكلت وفاة شيخها الحاج عمر أول مسمار دُقَّ في نعشها، محققة هناك تقدماً على إنكلترا، التي كانت تصول وتجول في جهات أخرى من إفريقيا، على غرار دول أوروبية أخرى تطبيقاً لمقررات مؤتمر برلين، التي أطلقت أيديها بشكل قانوني منذ فبراير 1885م.
أخيراً:
نجد أنَّ هذه الدراسة قد توصلت إلى عدد من النتائج والملاحظات الهامة نجملها في النقاط التالية:
- كان الوجود الأوروبي على الشواطئ السنغالية قبل القرن 19م مقتصراً على الجانب الاقتصـادي، والثقافي (محاولة نشر النصرانية). وكان همه الأكبر هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، ولم يصطحب هذا الحضورُ بطبيعة الحال أيَّ وجود عسكري مكثف على الأرض السنغالية.
- يتضح أيضاً، أنَّ التوسع الاستعماري الفرنسي في السنغال، لم يكن وليد ظرفية القرن 19م؛ ولتحقيق هذا الهدف استعملت فرنسا كل الوسائل المتاحة شرعية كانت أم غير شرعية.
- بدأ مسلسل تثبيت السيادة الفرنسية على الممالك السنغالية، مع تعيين فيديرب عام 1854م والياً على مستعمرة السنغال؛ وقد استطاع تحقيق حلم فرنسا في احتلال السنغال، ليكون بوابة الدخول إلى إفريقيا الغربية كلها، وذلك بعد استعمال فيديرب إستراتيجية القوة العسكرية.
- كما تبين أيضاً أنَّ الحركة العمرية كان لها دور كبير في توحيد منطقة السنغال سياسياً؛ وكذلك استطاعت على الرغم من ضعف إمكانياتها تعميق تجربة الإسلام القاعدي، هذا فضلاً عن دورها بالغ الأهمية في تهديد المصالح الفرنسية بالمنطقة.
[1] وهي السنة التي توافق وفاة الأمير البرتغالي هنري الملاح، الذي كان له دور رائد في تشجيع عملية الكشوفات الجغرافية.
[2] الشكري، أحمد، 2002م. «جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال»، ضمن أعمال الندوة الدولية المنعقدة في داكار السنغال (14 - 19 ديسمبر 1998م)، بمناسبة مرور مئتي سنة على ميلاد الحاج عمر الفوتي تال، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، الرباط، ص 46.
[3] بغض النظر عما تثيره مسألة تعيين الحدود من صعوبات قبل القرن 18م، يمكننا القول: إنَّ فضاء السنغامبيا يشمل جُلَّ المناطق الواقعة ما بين نهري السنغال وغامبيا؛ من منبعيهما بأعالي فوتاجالون إلى مصبيهما في المحيط الأطلسي، بمسافة تُقدر بـ 1350 كم2 من الغرب إلى الشرق، و 900 كم2 من الشمال إلى الجنوب. ويرجع الفضل في استعمال هذا الاصطلاح وترسيخه في حقل الدراسات الإفريقية للبحاثة الغيني الأصل بُبكر باري (B. Barry)، الذي سعى في معظم دراساته إلى توظيفه والترويج له.
Barry, (B). 1998. La Sénégambie du XVe au XIXe siégle : Traite négriére, Islam et conquête coloniale. Paris, éd. L’Harmattan, p.38.
[4] الشكري، أحمد. «جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال»، ص47.
[5] السعدي، عبد الرحمن، 1981م، تاريخ السودان، ترجمة أوكتاف، هوداس، ميزونوف باريس، ص77.
[6] Raymond ,( M). 1975 . Tableau Géographique du l’Ouest Africain au Moyen Age : d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie. Postbus: Swets Publishing Service, p. 327.
[7] Ca Da Mosto (A .De.). 1895, Relation des voyages à la cote occidentale d’Afrique., Paris, publié par M. Charles Schefer,p. 317.
[8] الشكري، جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال ، ص49.
[9] المصدر السابق، ص54.
[10] نلفت الانتباه إلى أن هذه الإتاوات أو الضرائب التي كانت تقدمها الإدارة الفرنسية، كانت تمثل بالنسبة للزعامات المحلية رمزاً لسيادتها.
[11] Faidherbe,( L). 1889. Le Sénégal ( La france dans L’afrique occidentale). Paris : Libraire Hachette, p. 7. (2)
[12] Le Sénégal La france dans L’afrique occidentale, op. cit. p. 220.
[13] السفيوي، عبد النبي، 1995م، «الاستعمار الفرنسي في السنغال 1854- 1876م». السفيوي، عبد النبي، رسالة ماجستير، المغرب: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال، ص 134.
[14] David(R) ; La guerre sainte d’Al-Hajj Umar, op. cit , P. 195.
[15] أحمد الأزمي، 2009م، العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م، فاس، دار ما بعد الحداثة ، ص150.
[16] Barry ( B) , La Sénégambie du XVe au XIXe siècle, op. cit ,p. 258 .
[17] العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م ، ص124.
[18] Ly-Tall,( M), Un Islam militant en Afrique de l’Ouest au XIXe siècle, op. cit ,p. 319.
[19] السفيوي ، الاستعمار الفرنسي في السنغال، ص165.
[20] الأزمي، العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م، ص130.
[21] Crowder Michael; 1978, A History of West Africa A. D. 1000 to the present, Harlow: Longman Group, P. 92-93.