انتخابات تونس.. إرساء الديمقراطية أو عودة الدكتاتورية
تنشغل تونس
هذه الأيام بالاستعداد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الثانية بعد الثورة
على وقع جدل سياسي صاخب؛ فبعدما أقرّ المجلس التأسيسي (البرلمان) بتونس في 25 حزيران
الماضي إجراء الانتخابات التشريعية يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول
القادم، والدورة الأولى لانتخابات الرئاسة يوم 23 نوفمبر/ تشرين الثاني
المقبل؛ تسير البلاد نحو هذا الموعد المهم وسط تباين حاد بين قوى سياسية تُدافع عن
مكاسب الثورة وتسعى للعبور بتونس نحو مصاف الدول الديمقراطية، وقوى أخرى تستغل
السياق الإقليمي المتوتر لإبعاد الإسلاميين عن المنافسة حتى لو استدعى الأمر
التحالف مع رموز النظام القديم.
ففي الوقت
الذي أعلنت فيه حركة النهضة رفضها تقديم أي مرشح للانتخابات الرئاسية في تونس وترك
المنصب لبقية المتنافسين، مبدية عزمها دعم مرشح سياسي من خارجها يحظى بالتوافق
ويتبنى أهداف الثورة ويحافظ على الهوية العربية الإسلامية؛ تقدمت أسماء محسوبة على
منظومة الاستبداد بترشيحاتها لانتخابات رئاسة الجمهورية، من بينها: الباجي قايد
السبسي زعيم حزب نداء تونس، وكمال مرجان رئيس حزب المبادرة، وكلاهما من عهد المخلوع
زين العابدين بن علي.
جبهات سياسية
مع اقتراب
موعد الانتخابات تشكّلت جبهات سياسية بعضها امتداد لمجموعات تأسست بعد الثورة من
أحزاب صغيرة، مؤسسوها تقلدوا مناصب مهمة في النظام السابق؛ كحزب نداء تونس الذي
يتزعمه الباجي قائد السبسي الذي ترأس الحكومة لسنوات في عهد بن علي، وحزب “المبادرة
الوطنية” الذي يرأسه
كمال مرجان آخر وزير خارجية قبل الثورة.
هذا إضافة
إلى ائتلاف الحركة الدستورية التي يتزعمها حامد القروي، الذي كان وزيراً أول إبان
صعود بن علي للحكم بعد انتخابات 1989، وبقي في ذلك المنصب طوال عشر سنوات،
فضلاً عن الجبهة الشعبية اليسارية التي تضم قوى سياسية راديكالية كانت دعت في وقت
سابق إلى تشكيل حكومة بقيادة الجنرال السابق رشيد عمار، في مشهد يوحي باستنساخ
المشهد المصري لتونس، حيث دفعت هذه الأخيرة بهمة الحمامي زعيم حزب العمال الشيوعي
مرشحاً لها للانتخابات الرئاسية.
وإذا كانت
التشكيلات سالفة الذكر مبعثها الأساس افتقارها للعدد المطلوب من النواب في
البرلمان، كما ينص على ذلك القانون الانتخابي في تونس الذي يضع شروطاً يجب توافرها
في المرشح للرئاسة، من بينها أن يتوفر الحزب على 10 نواب في
المجلس التأسيسي، أو
40 من رؤساء مجالس الجماعات، أو توقيع 10 آلاف ناخب؛
فإنها تثير المخاوف لدى كثير من المراقبين من لجوئها للمال السياسي عن طريق رجال
الأعمال لشراء ذمم الناخبين ومن ثم إفساد التنافس الديمقراطي الشريف.
الحسم في
صناديق الاقتراع
وأمام ما
يقوم به فلول النظام السابق من استجماع القوى ومسابقة الزمن من أجل الظفر بمراكز
متقدمة في الانتخابات المقبلة؛ لا تبدي حركة النهضة قلقاً كبيراً إزاء هذه
التحركات التي ترى فيها خطوات يائسة، بقدر ما تبدي اهتماماً بالغاً باستجماع أكبر
كتلة توافقية تقطع الطريق على رموز نظام زين العابدين بن علي، كما تحرص بشدة على
تجنب التنابز السياسي والخلافات التي تعدها لا طائلة من ورائها، معتقدة أن الشعب
التونسي سيحسم في أمر رموز النظام السابق عبر صناديق الاقتراع.
ويرى سيف
الدين الطرابلسي، إعلامي تونسي مهتم بالشأن السياسي، أن الفكرة الأساسية في موقف
حركة النهضة هي الخروج من دائرة التقاطبات وتخفيف حدتها، لذلك يرى الطرابلسي في
حديثه لمجلة البيان أن “تماطل” حزب النهضة في الإعلان عن مرشح باسمها
يشير إلى أنها تنتظر أكثر مرشح يتم عليه التوافق بأكبر حجم شعبي وحزبي لدعمه في
الاستحقاقات الرئاسية المقبلة.
ويعتقد
الطرابلسي أن الهدف الأساس هو الوصول لمحطة الانتخابات التشريعية والرئاسية دون
استقطاب سياسي. وبينما علق
المتحدث نجاح هذا الرهان على القوى السياسية في تونس معتبراً الحديث عنه ما زال
مبكراً؛ توقع أن لا يكون هناك استقطاب حاد في المشهد السياسي خلال العملية
الانتخابية التي يرى فيها كثير من التونسيين أنها مكسب كبير.
خطة «النهضة»
في المقابل
تستعد حركة النهضة للاستحقاقات الانتخابية باستراتيجية خاصة، فقد قررت المشاركة في
المحطتين بخطة متباينة، حيث نزلت بكل ثقلها في الانتخابات التشريعية بـ 33 قائمة تضم
أسماء وازنة وتحظى بصدى طيب في الدوائر المرشحة فيها لدى الشارع التونسي، بينما
ستكتفي بدعم أحد المرشحين النزهاء من خارج الحركة للرئاسيات.
ويعزو عبد
الفتاح مورو خيارات حركة النهضة التي يبدو أنها تجمع بين التجديد والاستفادة من
دروس التجربة السابقة؛ إلى كون الدستور التونسي الجديد لم يعطِ مكانة كبرى لرئيس
الجمهورية، حيث اقتصرت صلاحياته على الدفاع الوطني والسياسة الخارجية، بينما حازت
الحكومة ورئيسها الذي سينبثق عن الحزب الأغلبي في الانتخابات التشريعية، بقية
الصلاحيات الكبيرة.
ومن جهة أخرى فإن حركة النهضة لا تريد الهيمنة على أصوات الناخبين والانفراد
بالحكم حتى لو حازت الأغلبية، حسب قوله.
ويوضح مورو
في حواره مع جريدة أخبار اليوم المغربية، أن الانتخابات التشريعية هي التي ستحدد
المسار القانوني للبلاد والاختيارات المستقبلية المهمة للدولة، مشيراً إلى أنه حتى
لو تصدرت النهضة المشهد الانتخابي التشريعي، فإنها غير متحمسة لترؤس الحكومة هذه
المرة؛ لأن البلاد لا تزال في مرحلة انتقالية، وخصوم الحركة من اليساريين
الراديكاليين والعلمانيين المتطرفين ورموز النظام البائد، لا تزال مواقفهم ثابتة
من الإسلاميين، ومن ثم فإن الخيارات الأولوية للحركة هي التوافق مع القوى السياسية
التقليدية.
فزاعة
«الإرهاب»
في هذه
الأثناء، وبينما يحتدم الجدل حول واقع ومستقبل البلاد من زاوية انتخابية؛ ترتفع
وتيرة التخويف من “الأعمال
الإرهابية” من طرف بعض
الفرقاء السياسيين، وذلك رغم الحملات الأمنية والعسكرية الواسعة التي ما تنفك
الوحدات المشتركة تجريها في مختلف مناطق البلاد، خصوصاً على الحدود مع ليبيا
والجزائر، حيث باتت أخبار تفكيك “خلايا إرهابية” وملاحقة “عناصر
إرهابية” تزاحم
مستجدات الاستحقاقات الانتخابية في الصحف والمجلات التونسية.
وبينما لا
يُقلل محللون من حجم التحديات الأمنية، خصوصاً في ظل الأزمة الليبية؛ يرى آخرون أن
بعض الأطراف التي لديها فوبيا مرضية من الهوية الحضارية للشعب التونسي، تحاول
بمناسبة ودون مناسبة العزف على وتر “التهديد الإرهابي”، كما تعمل
على تجييش الإعلام والرأي العام في هذا الاتجاه ضد حركة النهضة المشاركة في اللعبة
السياسية، وذلك في محاولة لخلط الأوراق بين وصول الإسلاميين للسلطة وتصاعد الأعمال
“الإرهابية” في البلاد.
وإذا كانت التكتلات الحزبية لقوى
اليسار الراديكالي والعلماني المتطرف ورموز المنظومة القديمة، تجتر من هذا القاموس
في السباق الانتخابي؛ فإن هناك أحزاباً يسارية معتدلة ذات ثقل سياسي في الساحة
التونسية تقف بشدة أمام هذا التوجه الاستئصالي، وتتمثل في أحزاب المؤتمر من أجل
الجمهورية الذي يتزعمه الرئيس الحالي المنصف المرزوقي، والجمهوري الاشتراكي بقيادة
أحمد نجيب الشابي، والتكتل بزعامة مصطفى بنجعفر.. وتُشكل هذه الأحزاب إلى جانب
حركة النهضة التي يُتوقع أن تدعم أحد الأسماء الثلاثة في الانتخابات الرئاسية؛
صِمَام الأمان للمرحلة الانتقالية.
:: مجلة البيان العدد 329 محرّم
1436هـ، أكتوبر - نوفمبر 2014م.