العراقيون والعبادي الحلول الممكنة للخلاص
وأخيراً أعلن
عضو حزب الدعوة الإسلامية حيدر العبادي تشكيلته الوزارية، وصوت مجلس النواب الحالي
في العراق في جلسة استثنائية على هذه الحكومة، وانطلقت بذلك مرحلة جديدة من مراحل
العمل السياسي في بلاد الرافدين.
بعض المتابعين
للشأن العراقي كانوا يعتقدون، أو ربما يتمنون، أن تكون هذه الحكومة ممثلة لغالبية
العراقيين، إلا أن الذي حصل أن ذات الوجوه عادت لحكم العراق عبر مناصب مختلفة، وأن
هذه الحكومة لم تلبِّ مطالب الجماهير المنتفضة في أكثر من أربع محافظات.
لا يختلف
اثنان على أن الربكة الحاصلة في عموم المشهد ببلاد الرافدين اليوم، ظاهرة ومترامية
الأطراف وتحمل أبعاداً دينية، أو مذهبية، أو عرقية، أو عنصرية، وهذه الأبعاد
والأفكار الهدامة لم تكن ظاهرة في بنية المجتمع، وإنما وجدت الأرضية الخصبة لنموها
في ظل السياسات الطائفية التقسيمية التي برزت خلال سنوات الظلام في المرحلة
الممتدة منذ عام
2003 حينما احتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها عاصمة الرشيد،
حتى اليوم.
هذه السياسات
لم تكن بالمجان، بل تركت آثاراً واضحة في أركان المجتمع والدولة العراقية، وخلفت
وراءها قرابة مليون قتيل، وخمسة ملايين وسبعمائة ألف يتيم، فضلاً عن ستة ملايين
مريض نفسي، بحسب ما ذكر تقرير للجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي نشر في
بداية عام
2013، ناهيك عن الخراب الذي لحق بالبنى التحتية والفوقية
لمؤسسات البلاد.
توصيف المشهد
العراقي
توصيف المشهد
العراقي للفترة من
2003 حتى الآن، يتطلب تجرداً تاماً من العواطف والحديث
بموضوعية وعقلانية؛ لأن بداية العلاج الناجع هي التشخيص الدقيق، الذي يقوم على
رؤية شاملة وتفحص عميق.
العراق اليوم
يعيش جملة من الأزمات يمكن ذكر أبرزها:
الجانب
السياسي:
منذ أن بدأت اللعبة السياسية الجديدة في العراق بعد
الإطاحة بحكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003 حتى الساعة،
ظهرت على الساحة السياسية تحالفات قائمة على أساس المذهب والمتمثلة في التحالف
الوطني الشيعي، وتحالفات أخرى قائمة على أساس العرق والمتمثلة في الكتل الكردية،
المشاركة في الحكومة الحالية، وهذه التحالفات - في غالبها - تعمل جاهدة
للحصول على أكبر قدر ممكن من المكتسبات لها، على اعتبار أنها كيانات داخل الدولة،
ولم نلحظ برنامجاً وطنياً شاملاً من غالبية هذه التجمعات والأحزاب تكون فيه مصلحة
الوطن والمواطن مقدمة على المصلحة الحزبية والفئوية والعرقية.
الجانب
الأمني: من أكبر المشاكل المستعصية في المشهد
العراقي الحالي مشكلة أو إشكالية انعدام الأمن التي تحصد أرواح العشرات يومياً،
حتى إن مؤسسة (مابلكروفت) البريطانية
المختصة بتحليل الأزمات، ذكرت في نهاية شهر تموز الماضي أن العراق يُعد أخطر بلد
في العالم، وأنه قتل منذ بداية العام الحالي أكثر من (5929) مواطن في
البلاد.
وبعثة الأمم
المتحدة في العراق
(اليونامي)
تذكر في إحصائيات شهرية مقتل ما لا يقل عن (1700) مواطن شهرياً
عدا الفلوجة، وهذا مؤشر خطير على انعدام الأمن، ومن ثم تمدد الخراب في عموم جوانب
حياة العراقيين.
ولا يخفى أن
هذا الانهيار في الملفات السياسية والخدمية والاقتصادية سيؤثر في الحياة العلمية
والرياضية والمهنية والمعاشية، وكل ذلك سيقود بلا شك لازدياد النقمة الشعبية ضد
الحكومات العاجزة عن تحريك الساكن، أو تسكين المتحرك.
أسباب تعقيد
المشهد العراقي الحالي
الرصد
والتجربة جعلتنا نحصي بعض الأسباب التي كانت – وما زالت - سبباً في
ازدياد تعقيد المشهد العراقي، ومن بين هذه الأسباب:
السياسات
الانتقائية المتعمدة التي رتّبت في مرحلة ما قبل الاحتلال الأمريكي للعراق،
وبالتحديد في مؤتمري لندن وأربيل.
ومن أهم
الأخطاء التي ارتكبت بهذا الخصوص، موضوع الأقلية والأكثرية؛ حيث تم اعتبار سنة
العراق أقلية وفقاً لمعطيات غير دقيقة قدمتها ما تسمى المعارضة العراقية للولايات
المتحدة وحلفائها، وعلى هذا الأساس تم توزيع المناصب في كافة مفاصل الدولة
السياسية والبرلمانية والأمنية والوظيفية.
وهنا لا بد
من بيان أن استمرار ذات السياسات والوجوه في اللعبة السياسية التي رتبتها دولة
الاحتلال «الولايات
المتحدة الأمريكية»، ونصبت فيها
من هم تعلموا وارتضوا أن يكونوا عاملين ومنفذين لمصالحها في العراق والمنطقة؛ أقول
إن هذه السياسات المتكررة لا يمكن أن تنقذ العراق من المستنقع الحالي الخطير، بل
هي - في الواقع - من أكبر
أسباب استمرار الأوضاع المتردية في العراق.
تعمد
الحكومات المتعاقبة على الحكم، خصوصاً حكومة نوري المالكي المنصرفة - التي استمرت
في الحكم أكثر من ثماني سنوات قبل أن يتم تكليف حيدر العبادي بتشكيل حكومة جديدة
بداية شهر آب الحالي
- إلى وضع (سنة العراق) في إطار خانة
الإرهاب، وبموجب هذه
(الفرية الحكومية) انطلقت حملات اعتقالات أمريكية
وحكومية واسعة كانت حصيلتها عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون السرية والعلنية،
مُورست خلالها أبشع صور التعذيب التي سرب بعض صورها لعديد من وسائل الإعلام، ومنها
فضيحة سجني أبو غريب غربي بغداد، وبعقوبة شمال شرق العاصمة. وهذه
الاعتقالات تسببت في مشاكل اجتماعية ومناطقية واسعة، وكانت من الموارد المهمة
لتغذية الاحتقان الطائفي في البلاد.
تغول
الميليشيات في غالبية حياة العراقيين اليومية، وأُلبست العديد من المنظمات
الإرهابية الزي الرسمي بدعم وإسناد ومباركة الحكومة، وصارت هذه الميليشيات تُمارس
جرائمها باسم القانون.
هذا المشهد
المروع دفع ملايين العراقيين للهجرة داخل البلاد وخارجها، حتى وصل العراقيون إلى
الصين، وهم اليوم موزعون في أكثر من ثمانين دولة في أرجاء المعمورة.
فشل الحلول
السياسية «الديمقراطية» في إخراج
العراقيين من وحل الظلم الحكومي والميليشياوي؛ وذلك لعدم وجود نوايا صادقة للخروج
من هذا المستنقع الآسن، مستنقع الفتن الطائفية والمذهبية، وعليه لم يكن لغالبية
السياسيين أي دور يذكر في العمل على إخماد نار الخلافات المستعرة، بل - ربما - كان لبعضهم
الأثر السيئ في تغذية الخلافات عبر التصريحات والبيانات المليئة بالدعوة للانتقام
والثأر، وهذا بالطبع لا يتفق مع روح السياسة الهادفة لجمع الناس والحفاظ على
أرواحهم وممتلكاتهم.
وهنا ربما
يتساءل بعض المتابعين للشأن العراقي: ما الثمرات التي سيحصل عليها
السياسيون في حال استمرت تلك الخلافات بين العراقيين؟!
وللإجابة عن
هذا السؤال الدقيق لا بد من أن نؤكد أن العديد من الأحزاب والتجمعات الدينية
والسياسية العراقية عملت على زرع الفتنة الطائفية والعرقية بين المواطنين؛ وذلك
لأنهم يعلمون -
بحكم خبرتهم السياسية - أن أفضل الطرق لاستمرارهم في الحكم
نشر سياسة (فرّق تسد) بين
المواطنين، ومن هذا المنطلق يمكنهم تحقيق أهدافهم السياسية والحزبية والشخصية، ومن
ثم استمرارهم في التمتع بالخيرات والأموال الطائلة التي يحصلون عليها من رواتبهم
الخيالية، وغيرها من موارد الرزق السياسي التي فُتحت عليهم من جهات منتفعة، وتعمل
مع غالبية هؤلاء السياسيين في ضوء سياسة المنافع المتبادلة التي يجنون من ورائها
بعض الصفقات وعقود المقاولات، التي - في الغالب - يكون تقدير
كلفتها أضعافاً مضاعفة؛ وذلك لتغطية النفقات الإضافية التي ستوزع على هذا الطرف أو
ذاك من الذين أسهموا في الحصول على هذه الصفقات.
الظلم في
غالبية مفاصل الحياة ومؤسسات الدولة، وهو ما دفع نصف الشعب العراقي للخروج رافضاً
التهميش والظلم، وعبر عن استيائه بصورة سلمية استمرت أكثر من عام (منذ بداية
عام 2013 حتى يوم 30 /12 /2013). ورغم أن هذه
الجماهير آثرت أن تنادي بحقوقها بأسلوب حضاري سلمي، إلا أن حكومة نوري المالكي
المنصرفة استخدمت معها القوة المفرطة، وحتى الساعة ما زالت القوات الحكومية تضرب
مدن الفلوجة والكرمة والصقلاوية وتكريت والموصل وديالى بالطائرات والبراميل
المتفجرة والمدفعية الثقيلة بحجة مكافحة الإرهاب.
ومن الأهمية
بمكان أن نذكر هنا بعض مطالب الجماهير العراقية التي خرجت من أجلها، ومنها: إطلاق سراح
المعتقلات، وإلغاء المادة (4) إرهاب، وإلغاء المخبر السري، وإعادة
التوازن للدولة، وغيرها من المطالب العقلانية والقانونية والدستور.
هذه باعتقادي
أهم الأسباب التي تدفع الأزمة العراقية للاستمرار.
حلول ومخارج
للأزمة:
بعد أن
تناولنا توصيف المشهد العراقي ومحاولات بعض القوى الوصول إلى أرضية صلبة للمصالحة
الوطنية، وبعد أن عرضنا أهم أسباب الاحتقان في العراق؛ سنحاول هنا ذكر بعض
المقترحات أو الآليات الهادفة للدفع نحو التأسيس لمخرج سياسي متين للعراقيين
يمكنهم –
إن صدقت نوايا السياسيين وغيرهم – أن يصلوا بموجبه لحل قضيتهم الشائكة.. ومن بين أهم
الحلول والمخارج المقترحة للوضع العراقي الراهن:
تشكيل حكومة
انتقالية تقود البلاد في مرحلة مؤقتة، ويكون عمر هذه الحكومة بين ستة أشهر وعام،
وتعمل هذه الحكومة على إجراء إحصاء سكاني يحدد النسبة السكانية وفقاً للمذهب؛ وذلك
للتخلص من مسرحية الأكثرية والأقلية، وهذه الحكومة يتم التوافق على أعضائها من
القوى الوطنية العراقية المشاركة وغير المشاركة في العملية السياسية التي جرت بعد
عام 2003، ويتم إعادة
كتابة المواد المختلف عليها في الدستور العراقي، والدعوة لانتخابات برلمانية حرة
بإشراف دولي بعيداً عن سطوة الأحزاب الحاكمة الحالية، ثم إجراء انتخابات برلمانية
تفرز مجلساً للنواب، وهذا المجلس يختار رئيساً له، ثم يختار رئيساً للجمهورية، ثم
يكلف رئيس الجمهورية رئيس الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة.
إبعاد من
تلطخت أيديهم بدماء الشعب من دخول الحكومة، وتقديم القتلة منهم لمحاكم علنية
عادلة، وإن تم العفو عنهم من ذوي الضحية تعمل المحكمة على إنهاء ملفاتهم؛ للتقليل
من المشاحنات في البلاد، ولضمان نجاح هذه الحكومة.
دعوة
العراقيين في الخارج للعودة الطوعية إلى البلاد، ونقلهم جواً وبراً، وذلك بمبادرة
حكومية تضمن لهم الحكومة فيها سلامتهم، وإعادة الموظفين منهم إلى وظائفهم، واحتساب
سنوات الهجرة من ضمن سنوات التقاعد والترقية الوظيفية، وإحالة كبار السن منهم
للتقاعد.
إعادة بناء
الجيش والشرطة على أسس مهنية بعيدة عن كافة المؤثرات التي دمرت المشهد العراقي
اليوم.
إنهاء دور
الميليشيات في الساحة العراقية، وسنّ قوانين صارمة بحق من يحمل السلاح خارج إطار
الدولة.
إطلاق سراح
الأبرياء من المعتقلين، ويتم تشكيل فريق عمل قضائي يحسم تلك القضايا خلال مدة
أقصاها ثلاثة أشهر.
الشروع
بمشاريع إعمار وتطوير للبلاد، والنهوض بالواقع السيئ الحالي؛ وذلك لدفع الشباب
للعمل وفتح كافة أبواب النهوض بالبلاد نحو الرقي العمراني والرفاهية الاجتماعية.
هذه
المقترحات –
باعتقادي
- يمكن أن تؤسس لمرحلة البناء السياسي الاجتماعي، ويمكن تحقيق هذه الحلول عبر:
- رغبة جادة
وحقيقية لحقن الدم العراقي، وتقديم المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والعرقية
والمذهبية والشخصية.
- دعم إقليمي
ودولي يتم بموجبه الضغط على الأطراف الفاعلة للقبول بهذه المبادرة والسعي الحثيث
لجعلها منطلقاً لعراق جديد خال من الدم والإرهاب والظلم.
هذه الأفكار ليست نهائية، ولا أقول
إنها نادرة؛ لكنها قابلة للتطوير والتعديل والتصحيح، وهي بحاجة إلى نيات خيّرة تصل
بالعراقيين إلى بر الأمان، الذي بات من السراب البعيد القريب.
:: مجلة البيان العدد 329 محرّم
1436هـ، أكتوبر - نوفمبر 2014م.