من يريد إعادة تشكيل النظام الدولي سواء كانوا فاعلين دوليين جُددًا أو فاعلين موجودين داخل النظام وراغبين في تغييره؛ يجب عليهم محاولة التأثير على أنظمته الفرعية الثلاثة.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وما قابله من حشد أمريكي للغرب لمواجهته؛ تصاعدت وتيرة
الأصوات التي تتحدّث عن ضرورة تغيير النظام الدولي وإيجاد نظام دولي جديد.
والغريب في الأمر أن تلك النداءات لا تأتي من جانب روسيا ومن يدعمها (سواء في السر
أو العلن) فقط، بل يتصاعد الحديث عن ذلك الأمر من جانب الولايات المتحدة نفسها
وحلفائها.
ففي يوم الاثنين الموافق العشرين من مارس الماضي؛ أي منذ عدة أسابيع، وخلال تجمُّع
لقادة الأعمال في البيت الأبيض؛ أثار الرئيس الأمريكي جو بايدن ضجَّة حينما قال في
ذلك التجمع:
«الآن
هو وقت تتحوّل فيه الأمور. نحن نتجه إلى ذلك. سيكون هناك نظام عالمي جديد، وعلينا
أن نتولَّى قيادته. وخلال ذلك، علينا أن نوحّد بقية العالم الحر».
قبل هذا التصريح بيومين فقط، وفي أعقاب انتهاء زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ
لموسكو، عقد الرئيسان الروسي بوتين والصيني شي مؤتمرًا صحفيًّا تعهَّد فيه الزعيمان
بالعمل معًا لتشكيل نظام عالمي جديد. وقال شي لبوتين:
«الآن
هناك تغييرات لم تحدث منذ 100 عام. عندما نكون معًا فإننا نقود هذه التغييرات».
ورد بوتين قائلاً:
«أتفق
معك».
فبوتين منذ تعثّر غزوته لأوكرانيا، ينتهز أي مناسبة ليتحدث عن ضرورة إيجاد نظام
عالمي جديد.
ففي شهر نوفمبر الماضي، وأثناء انعقاد القمة العربية في الجزائر؛ شدّد بوتين في
رسالةٍ وجَّهها إلى المؤتمر على أن
«عملية
تشكيل نظام متعدّد الأقطاب في العلاقات الدولية، يقوم على مبادئ المساواة والعدالة،
واحترام المصالح المشروعة لبعضنا البعض؛ تكتسب زخمًا».
وفي شهر يوليو من العام الماضي، وفي كلمةٍ ألقاها في منتدى أفكار قوية للعصر
الجديد، تحدث بوتين عن أنه يتم الآن تطوير أُسُس ومبادئ نظام عالمي متناغم وأكثر
إنصافًا وبتوجه اجتماعي وآمن، كبديل للنظام الحالي أو النظام العالمي أحادي القطب
الذي كان قائمًا حتى الآن، والذي بات بطبيعته عائقًا لتطور الحضارة، وأضاف
«إنه
بغضّ النظر عن مدى سعي الغرب، وما يسمى بالنُّخب فوق الوطنية، للحفاظ على النظام
الحالي؛ تحلّ حقبة جديدة قادمة، ومرحلة جديدة في تاريخ العالم».
أما الرئيس الصيني شي جين بينغ، فجاء حديثه عن تغيير النظام الدولي ما قبل حرب
أوكرانيا، فمنذ سنتين، وفي كلمة له بمنتدى بوآو السنوي لآسيا، دعا إلى رفض هياكل
القوة المهيمنة في نظام الحكم العالمي، وانتقد جهود بعض الدول التي ترمي إلى بناء
حواجز والتفريق بين الدول، وقال:
«إنها
ستضرّ بالآخرين ولن تفيد أحدًا».
وهنا تُطرح العديد من الأسئلة:
إذا كانت أكبر القوى الدولية في العالم تريد وتتطلع، وتسعى إلى تغيير النظام الدولي
الراهن، وغير راضية عنه، فما هو ذلك النظام المنشود؟
هل هو نظام عالمي بمقاييس غربية كما تريده أمريكا ومِن ورائها أوروبا؟
أم هو نظام بمقاييس شرقية كما تراه الصين وروسيا؟
مَن يستطيع فرض النظام الذي يحلو له؟
لكي نُجيب عن هذه الأسئلة يلزمنا قبلها تحديد ماهية النظام الدولي الحالي، ولماذا
تسعى القوى الكبرى لتغييره؟
مفهوم النظام الدولي العالمي
السياسة في العالم وبين الدول، تتضمن ثلاثة عناصر رئيسة:
فاعلون دوليون، وعلاقات بين هؤلاء الفاعلين، ثم نوعية تلك العلاقات.
ومصطلح الفاعل الدولي يُطلَق على كل مَن يتعدى تأثيره داخل الدولة ليمتد إلى دول
أخرى، وقد تكون هذه الفواعل دولًا، وقد تكون مؤسسات، وقد تكون شركات، وفي أحيان
أخرى أشخاصًا وعائلات.
أما العنصر الثاني فهي العلاقات الدولية، ويتم تعريفها بأنها مجمل العلاقات
والتفاعلات ما بين الفاعلين الدوليين التي قد تكون منتظمة أو غير منتظمة.
وهنا نأتي إلى العنصر الثالث، وهو النظام الدولي؛ فهو نمط ونوعية التفاعل المنتظم
بين الفاعلين الدوليين، وبالتحديد بين الدول الكبرى في كافة المجالات، فهيكل النظام
الدولي يتكون من ثلاثة أنظمة فرعية رئيسة له، ألا وهي النظام الاقتصادي الدولي،
والنظام المؤسسي الدولي، وأنظمة الحكم في داخل كل دولة في النظام الدولي.
لذلك من يريد إعادة تشكيل النظام الدولي سواء كانوا فاعلين دوليين جُددًا أو فاعلين
موجودين داخل النظام وراغبين في تغييره؛ يجب عليهم محاولة التأثير على أنظمته
الفرعية الثلاثة.
وقد يأخذ النظام الدولي شكل توازن القوى، فتتحكم فيه قوتان فقط، وحينها يُطلق عليه
نظام ثنائي القطبية، وقد يأخذ شكل تعدد الأقطاب أو المراكز، وأخيرًا قد يكون أحادي
القطبية عندما تتحكم في النظام الدولي دولة واحدة.
ولكن هناك مظهر للعلاقات الدولية تحدّثنا عنه في العنصر الثاني من شكل السياسة بين
الدول، وهي أن العلاقات الدولية تلك يمكن أن تأخذ شكلًا منتظمًا، فحينها نتحدّث عن
نظام دولي بصرف النظر عن شكله، وأحيانًا أخرى قد تكون في حالة من غير الانتظام،
يصفها علماء السياسة بالفوضى التي تسود العلاقات الدولية.
ومعرفة الفرق بين حالة الفوضى وحالة النظام الدولي ستُعطينا مؤشرًا قويًّا على وضع
العلاقات الدولية الحالي في العالم، فالفوضى في العلاقات الدولية تختلف عن النظام
في أنه لا توجد معايير أو سلطة دولية أو قوة كبرى أو تحالف دولي يستطيع فرض تلك
المعايير على بقية دول العالم، وهي بذلك التعريف لا تُعدّ عاملًا سلبيًّا وفق منطق
تساوي الشعوب، وحقها في أن تكون مستقلة وإرادتها حرة بعيدة عن التبعية وفرض الوصاية
الدولية والدوران في دائرة الأحلاف.
ولكن أيّ من هذه الأشكال ينطبق على النظام الدولي الحالي؟
هل هي الفوضى؟ أم هي شكل من أشكال النظام الدولي سواء كان القطب الوحيد، أو
الثنائي، أو متعدد الأقطاب؟
لمعرفة ذلك، يلزمنا الرجوع تاريخيًّا إلى أشكال النظام الدولي السابقة.
تحب الكتابات الغربية أن تؤرّخ لبدايات النظام الدولي مع توقيع اتفاقية صلح
وستفاليا في عام 1648م، ففي هذا الصلح الذي جرى بين دول أوروبا، تم الاعتراف لأول
مرة بحدود الدول القومية، تهيئةً لظهور ما اصطُلح عليه بمفهوم توازن القوة بين
الدول الأوروبية، والتي شكلت نظامًا أوروبيًّا مستقرًّا إلى حد ما، رغم الخلافات
والصراعات، وخرج من رحمها أُسس قانونية لتنظيم العلاقات بين القوى الأوروبية،
وتنتهي هذه المرحلة بنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وكانت أوروبا تمثل
مركز الثقل في هذا النظام، أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت على أطراف هذا
النظام، ولم يكن لها دور فعّال نتيجة سياسة العزلة التي اتبعتها وفرضتها على نفسها.
بعد عام 1945م؛ ظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كأكبر قوتين في العالم،
وبدأ النظام الدولي يتَّجه إلى مرحلة من توازن القوى ثنائي القطبية.
واتسمت تلك المرحلة، بعدة سمات؛ أبرزها: الطابع الأيديولوجي للصراع بين المعسكر
الشرقي الشيوعي والمعسكر الغربي الرأسمالي، كما ظهرت مفاهيم جديدة دخلت للنظام
الدولي كالحرب الباردة، والتعايش السلمي، والوفاق الدولي، وحركة عدم الانحياز.
وانتهت هذه الحقبة عام 1989م، مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه.
وفي أعقاب هذا الانهيار ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، وبدا شكل
النظام العالمي كأحادي القطب.
وكانت حرب الخليج الثانية عام 1990م فرصة لآلة الإعلام الأمريكية للترويج لهذا
المفهوم، كما ظهر لأول مرة مصطلح النظام العالمي الجديد، وذلك عند إعلان الرئيس
الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في اجتماع الهيئة التشريعية لمجلس النواب الأمريكي
في 17 يناير 1991م بداية النظام العالمي الجديد؛ حيث استخدم كلمة
Order،
ولم يستخدم كلمة
System؛
وذلك لأن في كلمة
Order
من القسر والتوجيه والأمر ما ليس في غيره.
حاولت الولايات المتحدة السيطرة على النظام الدولي بعد عام 1991م، فجرى التمدد
ومحاولة السيطرة على أفرع النظام الدولي الثلاثة: سواء الاقتصاد العالمي، أو
المؤسسات الدولية، أو نظم الحكم المحلية.
فمحاولات الهيمنة الأمريكية على النظام الاقتصادي الدولي متواصلة، حتى أصبح الدولار
الأمريكي هو العملة الدولية الرئيسة، والتي يتم بها التبادل التجاري وأي تعاملات
مالية على مستوى العالم، وبلغت حصة الدولار في الاحتياطات الدولية، خلال العام
الماضي، نحو 63%، بسبب حاجة دول العالم والشركات الكبرى للدولارات التي باتت عملة
الديون الرئيسة في العالم، وكمؤشر معتمد على قوة الاقتصاد الأمريكي، وأنه الأقوى
عالميًّا؛ فإن الناتج القومي الأمريكي يُقدّر بـ23 تريليون دولار (التريليون ألف
مليار)، بينما الصين التي تليها في الترتيب يقدر ناتجها القومي بـ17 تريليون؛ وذلك
حسب إحصائيات البنك الدولي.
وكشفت وثيقة سرية لموقع ويكيليكس عام 2019م، أن الجيش الأمريكي ينظر إلى المؤسسات
المالية الكبرى في العالم، مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التعاون الاقتصادي
والتنمية، على أساس أنها أسلحة غير تقليدية يمكن استخدامها لتحقيق مصالح الولايات
المتحدة.
وتشير الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة يمكنها استخدام المؤسسات المالية الكبرى
كوسيلة للحرب الاقتصادية في أوقات النزاع، وصولًا إلى حرب شاملة واسعة النطاق،
وكذلك استخدام سياسات الاستثمار والاقتراض كوسائل ضغط للتعاون مع الولايات المتحدة.
كما تقول الوثيقة: إن المؤسسات المالية العالمية تُعدّ امتدادًا للقوة السياسية
والمالية للولايات المتحدة، وإنها جزء لا يتجزّأ من وسائل الهيمنة الأمريكية على
العالم.
أما بخصوص الهيمنة على المؤسسات الدولية؛ فعادةً ما تحتاج أمريكا إلى المؤسسات
الدولية لإضفاء شرعية على السياسات المعتمدة والحروب التي تَخُوضها في مناطق العالم
الاستراتيجية؛ من حيث الموقع الجغرافي أو المعادن والسلع التي يحتاجها العالم.
ونأتي للفرع الثالث في النظام الدولي، وهو نظم الحكم في الدول المختلفة، فبعد أن
انهارت الإمبراطورية السوفييتية تزايد حجم التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية لبعض
الدول، وانعكس ذلك على انحسار هامش السيادة الوطنية بفعل ذلك التدخل، وكثرت تصريحات
المسؤولين الأمريكيين عن التدخل لتغيير النظم المارقة.
شكوك متزايدة حول توصيف النظام العالمي الحالي
هناك حقيقة تبرز بأن التفوق الأمريكي لا يعني القدرة الأمريكية على زعامة وقيادة
العالم... نعم أمريكا هي الأولى اقتصاديًّا وعسكريًّا وتكنولوجيًّا، ولكن ليس هذا
معناه أنها تقود العالم، بل محاولاتها حتى الآن باتت فاشلة، والدليل على ذلك
تصريحات بايدن الأخيرة، والتي أعلن فيها عن مسعى أمريكي لصياغة نظام عالمي جديد
تكون القيادة فيه لأمريكا.
فهذه التصريحات تعكس عجزًا أمريكيًّا عن تحويل تفوقها في العديد من المجالات إلى
هيمنة وزعامة.
وليس فقط بايدن مَن يُقرّر تلك الحقيقة؛ فالعديد من المفكرين الاستراتيجيين
الأمريكان يُقرّون بتلك الحقيقة.
فهنري كسينجر في كتابه الأخير الصادر في عام 2014م تحت عنوان (النظام العالمي)؛
يعدّد مكامن وأسباب فشل النظام العالمي، فرأيه يتركز على أن هناك حالة من الفوضى
تهيمن على الأوضاع الراهنة.
وأهم الأسباب في نظره لهذه الفوضى: تفكك الدولة الحديثة وتعرُّضها للهجوم، ومنها
انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب العابر للحدود.
ويرى كسينجر أن هناك قوًى جديدة تهدّد النظام العالمي الليبرالي، وتُعدّ الصين
واحدةً من أهم تلك القوى الرافضة لهذا النظام؛ كونها لم تسهم في تشكيله عدا عن
رفضها للقواعد والترتيبات التي تحكمه معتبرًا أنها تُمثّل التهديد الرئيس لأمريكا،
وهناك احتمالية حدوث صدام بينهما كما فعلت ألمانيا مع بريطانيا في بداية القرن
العشرين.
بينما يشير ريتشارد هاس أحد كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، والذي كان يشغل منصب
رئيس مجلس العلاقات الخارجية منذ يوليو 2003م، وقبلها كان يشغل منصب مدير تخطيط
السياسات في وزارة الخارجية للولايات المتحدة في كتابه الصادر عام 2017م، والذي تمت
ترجمته تحت عنوان (عالم في حيص بيص)؛ أن العالم الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة
الأمريكية عقب تفكك الاتحاد السوفييتي لم يعد مستقرًّا؛ حيث إن النظام الدولي
بقيادة أمريكا، القائم على التحالفات، لم يعد مستقرًّا الآن؛ لأن القوة -حسب هاس-
انتقلت بعيدًا عن الغرب، وهذه القوة أصبحت في ظل العولمة ليست حكرًا على الدول
الكبرى وما يجمعها من توازن قُوى.
ويُرْجِع هاس ذلك إلى أن النظام اللاقطبي ليس فقط نتاج صعود دول وفواعل من غير
الدول أو نتيجة السياسات الأمريكية فحسب، وإنما هو نتاج حتمية العولمة أيضًا التي
عزَّزت من بروزه، وذلك نتيجة التدفقات الحدودية الخارجة عن سيطرة الحكومات، والتي
تُعزّز وتقوّي قدرات فاعلين غير حكوميين، وما رافق ذلك من إضعاف تأثير القوى
الرئيسة على المستوى العالمي.
وأكد هاس أن العالم بعد ما يقارب 25 عامًا على انتهاء الحرب الباردة يصعب تصنيفه
بأنه نظام منضبط، أو حتى على طريق الانضباط، وإنما هناك أسباب كثيرة تَدْفع للتفكير
عكس ذلك. فالنظام يتَّجه نحو الفوضى نتيجة التغيرات الكمّية والنوعية التي لحقت
بالنظام الدولي الحالي وفي مقدمتها تشتُّت وتوزُّع القوة على عدد غير مسبوق من
الأطراف، كما يضم كذلك عددًا غير مسبوق من صانعي القرار واللاعبين المستقلين.
ولكنّ أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، جون إكينبيري، في مقال نشرته مجلة فورين
أفيرز، منذ عدة شهور، يقول بأن الولايات المتحدة لن تنهار، مبررًا ذلك بالظروف
التاريخية العميقة التي تعمل لصالحها، وتُرسّخ وجودها المهيمن والمُنظّم للسياسات
العالمية. ورغم تسليم الكاتب بأن المستقبل لا يملكه أحد، إلا أنه أشار إلى أن
النظام العالمي الجديد سيتشكل من قوى سياسية معقدة ومتغيرة ويصعب فهمها، لكن ستظل
قوة التأثير الأمريكي قائمة.
وشبَّه المحلل السياسي أمريكا بإمبراطورية من الطراز القديم، لكنَّ دورها في العالم
يتجاوز بكثير سلوكها الإمبراطوري، فهي لا تعتمد على القوة فحسب، بل على الأفكار
والمؤسسات والقيم المغزولة في نسيج الحداثة؛ على حد وصفه.
هذه الآراء المختلفة للخبراء الأمريكان تعكس بشكل حقيقي الفوضى التي يعيشها النظام
الدولي. ونكرر أن مَن يُمسك بمفاصل الفروع الثلاثة للنظام الدولي (الاقتصاد،
المؤسسات الدولية، ونظم الحكم) هو الذي يمكن أن يسيطر عليه أو على الأقل يوجّهه إلى
الوجهة التي يريدها.
والصين بدأت بالفعل تسلك هذا الطريق، فمنذ عام 2013م بدأ المشروع الصيني الذي يطلق
عليه مبادرة الحزام والطريق لإعادة مشروع طريق الحرير القديم.
وهو يُشكّل برنامجًا اقتصاديًّا في ظاهره، ولكنه برنامج جيواستراتيجي، يُشكّل
ذراعًا لتمديد النفوذ الاستراتيجي في العالم، ومِن ثمَّ يقلق هذا المشروع الولايات
المتحدة الأمريكية، ويُمثّل التهديد الفعلي الأكثر جدية لنفوذ واشنطن.
وفي إطار تلك الاستراتيجية دشَّنت الصين نظامًا عالميًّا جديدًا للقروض كاستراتيجية
جديدة تعمل الصين بدأب على نشرها في العالم.
وفي دراسة حديثة نشرها مختبر إيد داتا للأبحاث والابتكار، عبر موقعه الإلكتروني في
الثامن والعشرين من شهر مارس الماضي بالتعاون مع كلٍّ من البنك الدولي، وكلية
كينيدي ومعهد كيل الألماني، تناولت تفاصيل استراتيجية القروض.
فقد قام الباحثون في الدراسة ببناء مجموعة بيانات جديدة وشاملة حول عمليات الإنقاذ
الخارجية للصين بين عامي 2000م وحتى نهاية 2021م، وتوصلوا إلى رؤًى جديدة مفاجئة.
تقوم الفكرة على تقديم بنك الشعب الصيني عمليات إنقاذ مالي، بأكثر من 170 مليار
دولار أمريكي لدعم السيولة الطارئة للدول التي تُواجه أزمات اقتصادية، خاصةً أن
أغلبها دول نامية وليست لديها ملاءة مالية تستطيع من خلالها تمويل خططها التنموية،
وبالتالي توفر الصين هذه القروض لتحسين وجودها الاقتصادي هناك.
وطبقًا للدراسة نفسها؛ تختلف قروض الإنقاذ الصينية عن قروض المقرضين الدوليين
الراسخين كملاذ أخير في ثلاثة عناصر رئيسة: أنها غير شفّافة، لديها معدلات فائدة
مرتفعة نسبيًّا، تستهدف بشكل حصري تقريبًا المدينين بمبادرة الحزام والطريق
الصينية.
ومع عجز بعض الدول عن سداد الديون المستحقة على ذلك النحو؛ فإن الصين تتدخل مقابل
التأثير السياسي أو الحصول على موارد ومواقع استراتيجية.
الدراسة في توصياتها، حذَّرت من أن ما تُمثّله الصين من ملاذ أخير بالنسبة لتلك
الدول، ومع تمتعها بنفوذ كبير هناك؛ إنما يشكل تهديدًا واضحًا للمؤسسات التي يقودها
الغرب من نهاية الحرب العالمية الثانية.. في إشارة لصندوق النقد الدولي.
أي أن الاستراتيجية الصينية تحاول التمدُّد في شرايين النظام الدولي الثلاثة:
الاقتصاد؛ عن طريق مبادرة الحزام والطريق، نُظم الحكم عن طريق إقراض هذه الدول،
ومِن ثَم التأثير السياسي، وأخيرًا إيجاد بدائل للمؤسسات الدولية، وخاصة البنك
الدولي.
ولكنَّ إدارة بايدن تُلاحق وتحاول وقف التمدد الصيني هذا، لذلك وضعت على رأس
أولوياتها في وثيقة الأمن القومي الأمريكي، التي نشرتها مع وصولها للبيت الأبيض،
احتواء الصين؛ حيث ذكرتها الوثيقة 15 مرة.
ولكن معظم المؤشرات تشير إلى استمرار الفوضى العالمية، حتى تستيقظ أمة الإسلام،
وتستعيد دورها التي كلَّفها الله -سبحانه وتعالى- به كخير أُمّة أُخرجت للناس.