ورد في كتاب الوثائق البريطانية عن السودان أنه في تلك الأثناء، صرّح عبد الله خليل، سكرتير عام حزب الأمة، بأنهم سيتعاونون مع «الشيطان» لتحجيم النفوذ المصري في السودان.
«انضمام
السودان إلى اتفاقيات إبراهيم بات قريبًا».
هذا التصريح أدلى به مسؤول إسرائيلي كبير، يوم الخميس الثاني من فبراير 2023م،
ونقلته صحيفة هآرتس الصهيونية، وهي من كبريات صحف دولة الكيان الصهيوني.
ونقلت الصحيفة عن المصدر -دون تسميته-، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تبذل
جهودًا في التوسط بين تل أبيب والخرطوم، وتهدف إلى تسريع التوصل لاتفاق.
وقال المصدر: إن التوقيع على الاتفاق بات ممكنًا، لافتًا إلى أن دبلوماسيين
أمريكيين في المنطقة أبلغوا نظراءهم الإسرائيليين بأن السودان مستعدّ لوضع اللمسات
الأخيرة على اتفاق التطبيع.
وبعد عدة ساعات من هذه التصريحات، إذا بطائرة وزير الخارجية دولة الكيان الصهيوني
إيلي كوهين تهبط في مطار الخرطوم في زيارة غير معلنة مسبقًا، ورافق الوزير الصهيوني
في زيارته الجديدة وفد ضمّ مسؤولين كبار، يساعدنا الاطلاع على وظائفهم على فَهْم
بعض دلالات تلك الزيارة.
فالوفد الصهيوني ضم ممثلاً عن وكالة المعونة الوطنية الإسرائيلية عينات شالين،
إضافة إلى ضباط كبار في جهاز الموساد والاستخبارات العسكرية.
ولكن هل هناك معلومات حول ما دار في تلك الزيارة؟
وفق ما قاله موقع الجزيرة نت؛ فقد عقد المسؤول الصهيوني جلستي مباحثات في مقر قيادة
الجيش مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بحضور وزير الخارجية السوداني علي
الصادق، وجرى الاتفاق على الاستمرار في خطوات التطبيع بين الجانبين، وتوقيع السودان
على اتفاقات أبراهام بعد تشكيل الحكومة المدنية التي ستتسلم السلطة عبر العملية
السياسية الجارية حاليًا.
كما جرى الاتفاق على تحويل مذكرة التفاهم الموقَّعة بين الجانبين قبل عامين إلى
اتفاق قابل للتنفيذ في مجالات التعاون في الطاقة والزراعة والمياه والصحة والتعليم؛
حتى يشعر الشعب السوداني أن هناك مصالح حقيقية يمكن أن تتحقق عبر التطبيع بين
الطرفين؛ كما يدعي الطرفان.
وحسب المصادر ذاتها؛ فقد أبدى كوهين قلقه من الجمود في علاقات البلدين خلال العامين
السابقين بعد زيارته الأخيرة، وأقر الطرفان بأن الأوضاع الداخلية في الدولتين ساهمت
في ذلك، وينبغي تسريع التطبيع عبر خطوات ملموسة.
وفي الجلسة الثانية انضم إلى المباحثات من الجانب السوداني وزير الدفاع ياسين
إبراهيم، والمدير العام لجهاز المخابرات أحمد إبراهيم مفضل، ومدير الاستخبارات
العسكرية أحمد عليّ صبير، وركز النقاش على التوسع في التعاون الأمني والعسكري؛
لمجابهة تحديات الطرفين وكيفية التعاطي مع التوتر في الحدود بين السودان وتشاد
وإفريقيا الوسطى، ومراقبة الأوضاع في الساحل الإفريقي والبحر الأحمر.
ولكن بعيدًا عن الكلام الدبلوماسي.. ما هي الأهداف الحقيقية لتلك الزيارة؟، وما
أهميتها لكل من أطرافها؟ ولماذا هذا الاهتمام والحرص الصهيوني على إدماج السودان في
منظومة التطبيع واتفاقية إبراهيم؟
لكي نستطيع فهم أبعاد التقارب بين الكيان الصهيوني والسودان، يلزمنا تتبُّع تاريخ
تلك العلاقات لنستكشف أهمّ خصائص تلك العلاقات، والعوامل التي تتحكم فيها، ثم نعرّج
على التوترات الداخلية التي يعيش فيها هذا البلد، وما يحيط به من أزمات خارجية.
السودان وقضية فلسطين
بعد إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في 14 مايو عام 1948م، وبالرغم من أن الاحتلال
البريطاني منَع السودانيين من المشاركة في حرب فلسطين عام 1948م، إلا أنه بالتنسيق
بين أهل السودان ومؤتمر الخريجين تم استنفار المتطوعين، كما شُكِّلت لجنتان؛
إحداهما لجمع المال، والأخرى لاختيار المتطوعين، واستطاعت اللجنة المالية جمع خمسة
وعشرين ألف جنيه خلال أسبوعين؛ حيث تم إرسالها لجامعة الدول العربية، أما المتطوعون
فقد بلغ عددهم سبعة آلاف وخمسمائة رجل، ثلثهم كان من الضباط والجنود الذين خدموا
بالجيش المصري، وبعد نهاية الحرب كانت حصيلة خسائر قوة المتطوعين السودانيين،
استشهاد أربعة ضباط وخمسة وأربعين من الجنود، بالإضافة إلى عدد من الجرحى وأَسْر
ضابطين وخمسة من ضباط الصف.
وفي أعقاب الحرب بدأت العلاقات التجارية بين السودان (والذي كان خاضعًا حينها تحت
سطوة النفوذ البريطاني) وبين دولة الكيان، وقد حاولت مصر أن تُوقِف هذه العلاقات
التجارية؛ التزامًا بقرار جامعة الدول العربية الذي رفض الاعتراف بإسرائيل، وأعلن
مقاطعتها سياسيًّا وعسكريًّا وتجاريًّا.
وفي يوليو من عام 1950م، أجبرت السلطات المصرية باخرة إيطالية على تفريغ حمولتها من
بذور القطن في ميناء بورتسودان؛ لأن البذور كانت مشحونة إلى إسرائيل، إلا أنّ
الحكومة البريطانية اعترضت على ذلك الإجراء، محتجةً بأن السودان لم يكن تابعًا
لدولة مصر، وأن اتفاقية الحكم الثنائي البريطاني المصري لعام 1899م لا تسمح بذلك.
واستنادًا إلى هذا المسوّغ القانوني - السياسي، رفض السير روبرت جورج هاو، حاكم عام
السودان، طلب حكومة النحاس باشا رئيس وزراء مصر في تلك الفترة، قطع علاقات السودان
التجارية مع إسرائيل.
وفي عام 2020م، كتب محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة هآرتس الصهيونية، يوسي
ميلمان عن هذه الفترة، فذكر أن العلاقات السرية بين إسرائيل والسودان تعود إلى ما
قبل استقلال السودان، وأشار إلى أن العلاقات كانت في بداياتها نفعية بين إسرائيل
وبين حزب الأمة برئاسة الصديق المهدي (والد رئيس الحزب الراحل الصادق المهدي).
وفق يوسي ميلمان، تعود العلاقات إلى خمسينيات القرن العشرين، بمبادرة من حزب الأمة،
الذي تزعمه الصديق المهدي، الساعي إلى علاقات مع تل أبيب لكي تساعده في مواجهة ضغط
الأحزاب الاتحادية التي تنادي بالوحدة مع مصر بزعامة جمال عبد الناصر، فقد نادى حزب
الأمة بالاستقلال التام للسودان عن مصر وبريطانيا بمساعدة إسرائيلية، وكان ذلك
تمهيدًا للقاء سري عُقد في لندن في عام 1956م، بين الصديق المهدي، وبين عدد من
المسؤولين في السفارة الإسرائيلية في العاصمة البريطانية.
وكشف يوسي ميلمان وثيقة داخلية إسرائيلية، وهي رسالة من السفارة الإسرائيلية في
لندن إلى الخارجية الإسرائيلية، شرحت تفاصيل عملية التواصل بينها وبين حزب الأمة،
وعن خطة إسرائيلية لدعوة ممثلين للحزب لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم المالي له.
وورد في كتاب الوثائق البريطانية عن السودان أنه في تلك الأثناء، صرّح عبد الله
خليل، سكرتير عام حزب الأمة، بأنهم سيتعاونون مع
«الشيطان»
لتحجيم النفوذ المصري في السودان.
أما كتاب الحروب السرية للاستخبارات الإسرائيلية؛ فيتحدث عن زيارة قام بها محمد
أحمد عمر، ممثل حزب الأمة إلى تل أبيب؛ حيث التقى عمر بموشي شاريت الرجل الثاني في
القيادة الإسرائيلية حينها في فندق دان بتل أبيب؛ لمناقشة مستقبل العلاقات مع حزب
الأمة، وبعدها كان اللقاء الأهم بين عبد الله خليل، رئيس وزراء السودان آنذاك، مع
جولدا مائير، وزيرة الخارجية الإسرائيلية، في أغسطس 1957م، بفندق بلازا أثيني في
باريس.
ولكن بمجرد الإعلان عن استقلال السودان عام 1958م، أصدرت حكومة السودان الائتلافية
من حزبي الأمة، والشعب الديمقراطي قانون مقاطعة إسرائيل، وحظرت فيه على أيّ شخص أن
يعقد بالذات أو بالوساطة اتفاقًا من أيّ نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل،
أو مع هيئات أو أشخاص يعلم أنهم ينتمون بجنسيتهم إلى إسرائيل أو يعملون لحسابها.
كما شمل الحظر دخول البضـائع والسلـع والمنتجات الإسرائيلية المنقولة إلى السودان
أو الاتجار فيها، سواء وردت تلك البضائع والسلع والمنتجات من إسرائيل مباشرة أو
بطريقة غير مباشرة.
أما في فترة الرئيس الأسبق الجنرال إبراهيم عبود فقد ذكر ميلمان أن شهر العسل في
العلاقات بين البلدين قد انقطع مع انقلاب عبود في عام 1958م، ليصبح السودان من
أعداء إسرائيل إلى الحد الذي أعلن الحرب ضدها، وشارك بقوات في حرب 1967م، وخلال
العقد الذي تلا تلك الحرب لم تكن هناك أيّ علاقات ولا اتصالات، سواء كانت سرية أم
علنية.
بل إن العرب اختاروا السودان لكي يَعقدوا فيها مؤتمرًا للقمة ما بين 29 أغسطس و1
سبتمبر 1967م، في محاولة لملمة جراحهم بتلك القمة التي انعقدت في العاصمة السودانية
الخرطوم، ودفعت ظروف الهزيمة باتجاه تبنّي تلك القمة قرارات حازمة مثل إعلان
اللاءات الثلاث: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، لذلك اشتهرت القمة العربية
تلك تاريخيًّا حين أطلق عليها: مؤتمر الخرطوم 1967م.. قمة اللاءات الثلاث.
ويقول الباحث السوداني أحمد إبراهيم أبو شوك:
«لقد
مثّل مؤتمر اللاءات الثلاث موقفًا تاريخيًّا لحكومة السودان، وحاجزًا نفسيًّا
وأدبيًّا حالَ دون إقدامها على إنشاء أيّ علاقات سياسية أو دبلوماسية مع إسرائيل».
وفي المقابل أقدمت حكومة الكيان الصهيوني على دعم التمرد الذي كان يقوده الجنرال
جوزيف لاجو في جنوبي السودان، عسكريًّا وماليًّا، خلال ستينيات القرن العشرين،
واستمر هذا الدعم للتمرد الجنوبي الذي انتهى بالانفصال رسميًّا عام 2011م.
لكن في زمن الرئيس الأسبق جعفر نميري، شهدت العلاقات السودانية الصهيونية تطورًا
ملحوظًا، بتأثير معاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عهد السادات، والذي
كان نميري وسلطان عمان الداعمين الوحيدين له في تلك المعاهدة من بين كل الأنظمة
العربية.
وشهد التعاون الصهيوني السوداني في عهد جعفر نميري مرحلتين؛ الأولى عام 1981م وبحسب
تقرير الصحفي الصهيوني يوسي ميلمان، فقد اجتمع نميري سرًّا في ذلك العام، بوزير
الأمن الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون في كينيا، بمساعدة من رجل الأعمال الإسرائيلي
ياكوڤ نمرودي (تاجر سلاح ورجل استخبارات من أصول عراقية)، والمسؤول في جهاز الموساد
ديڤيد كيمحي.
ووفق ما قاله الصحفي الصهيوني في هآرتس، اتفق شارون ونميري على تحويل السودان إلى
مخزن للأسلحة التي ستُستَخدم للإطاحة بنظام الخميني في إيران وتنصيب ابن الشاه
حاكمًا جديدًا لها، ولدعم المتمردين في تشاد لتنصيب حكومة صديقة لإسرائيل، والتي
كانت تسعى إلى السيطرة على اليورانيوم هناك.
أما المرحلة الثانية؛ فقد جاءت بعد ثلاث سنوات، في عام 1984م، عندما أثبت الموساد
قوته مرة أخرى. وقرر إحضار يهود إثيوبيا بتقديم الرشاوى لكل من نميري ورئيس جهازه
الأمني عمر أبو طيب.
وبتنسيق صهيوني، تم تهجير اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) إلى إسرائيل؛ إذ دفعت إحدى
المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة 30 مليون دولار إلى جعفر النميري لتسهيل
عملية هجرة هؤلاء إلى إسرائيل، فنقلت شركة للخطوط الجوية الأوروبية 30 ألف يهودي
إثيوبي ليلاً إلى مطار الخرطوم ووصلوا إسرائيل عبر بروكسل، وسُمِّيت العملية بعملية
موسى.
أما في عهد الرئيس عمر حسن البشير فيمكن تقسيم عصره إلى فترتين:
فترة العشرين عامًا الأولى من حكمه؛ حيث شهدت العلاقات السودانية الصهيونية تدهورًا
كبيرًا، فالبشير صار عدوًّا لإسرائيل؛ لأنه حينها كانت قضية الشريعة الإسلامية
والجهاد هي شعارات النظام المرفوعة، فدعم النظام بالتالي الجماعات الفلسطينية
المقاومة للاحتلال الصهيوني.
ونتيجة لتلك المواقف شنَّ سلاح الجو الإسرائيلي العديد من الاعتداءات على الأراضي
السودانية، ضد ما زعم أنها شحنات أسلحة في طريقها إلى المقاومة في غزة.
أما في الفترة الأخيرة من حكمه، حين اشتدت عليه الضغوط سواء في الداخل أو الخارج،
فقد استخدم الرجل البرجماتية المعهودة والمميزة لسياساته، فلجأ إلى دولة الكيان
لتكون واسطة بينه وبين الغرب، الداعم الرئيس للقوى الليبرالية واليسارية المعادية
للنظام.
ووفقًا لتقارير أجنبية ففي السنوات الأخيرة من حكم البشير، التقى رئيس الموساد يوسي
كوهين مع نظيره السوداني الجنرال صلاح قوش لإجراء مناقشات أولية حول شكل من أشكال
العلاقات التجارية والدبلوماسية بين البلدين؛ إلا أن الموساد ابتعد تلك المرة عن
البشير عندما أدرك أن أيام البشير في السلطة باتت معدودة.
من العرض السابق، نجد أن أهم ما يطبع تاريخ العلاقات السودانية الصهيونية، هو أن
النظم السياسية المتعاقبة على السودان كانت تنظر إلى تلك العلاقة على أنها علاقات
مؤقتة بمصالح آنية خاصة بالنظام الموجود حينها، تراوحت بين الاستقلال عن مصر، أو
طلب الدعم المالي، أو الاستعانة بالنفوذ الصهيوني في الغرب لوقف تربُّصه بتوجهات
النظام.
وفي المقابل، نظرت دولة الكيان الصهيوني للعلاقات مع السودان، على أنها وسيلة لكسر
المقاطعة العربية، ومن ثَم تمدُّد التطبيع مع حكومات المنطقة، كما يمثل السودان
مدخلاً للنفوذ الصهيوني في إفريقيا والبحر الأحمر، كما أن تعزيز العلاقة مع السودان
تضمن للكيان الصهيوني وقف الدعم الذي كان يقدّمه لجماعات المقاومة في الأراضي
المحتلة.
ولذلك صرح وزير الخارجية دولة الكيان الصهيوني إيلي كوهين في زيارته الأخيرة
للسودان بقوله:
«زيارة
اليوم إلى السودان تضع الأسس لاتفاق سلام تاريخي مع دولة عربية وإسلامية استراتيجية».
واستطرد
«اتفاقية
السلام بين إسرائيل والسودان سوف تعزّز الاستقرار الإقليمي وتسهم في تعزيز الأمن
القومي لدولة إسرائيل».
ولكن لماذا لجأت حكومة ما بعد البشير إلى التعامل مع الكيان الصهيوني؟ هل هي نفس
الأسباب التي دفعت الحكومات السابقة للتعامل مع الدولة الصهيونية؟
للإجابة عن ذلك السؤال يلزمنا تحليل البيئة الداخلية والخارجية للسودان الآن.
المشهد السياسي الداخلي
يمكن وصف أزمة الحكم في السودان بأنها قد وصلت إلى حائط مسدود.
فالمجلس عسكري يصر على البقاء في الحكم، بينما هناك قوى علمانية تريد فرض أجندتها
عبر مصادمات في الشوارع ولا تنادي بانتخابات، وتستند إلى تأييد غربي وأمريكي، وهناك
أيضًا قوى شعبية متوارية عن الأنظار يُحمّلها البعض مسؤولية فشل الحكم في العقود
الأخيرة، ويصرون على أن تدفع فاتورة فشل حكم الإنقاذ طوال ثلاثين عامًا.
ولكن المشهد السوداني أكثر تعقيدًا من مجرد صراع على إدارة الدولة بين مدنيين
وعسكريين، أو بين أنصار علمانية الدولة وبين أسلمتها، فالمشهد داخل كل طرف يشهد
انقسامًا، سواء داخل التجمعات والتي يطلق عليها مدنية، أو حتى داخل الطرف العسكري.
ولكي نفهم ما يحدث داخل السودان، لا بد من الرجوع إلى بدايات الانقلاب على نظام
البشير في عام 2019م.
في البداية بعد أن اشتدت حدة المظاهرات ضد نظام البشير عام 2019م، أعلن المجلس
العسكري للجيش السوداني الإطاحة بالبشير، وتم الاتفاق مع مجموعة من قيادات
المتظاهرين وتشكيل حكومة مشتركة من العسكريين والمدنيين، كما جرى الاتفاق أيضًا على
فترة انتقالية لمدة سنتين يتم بعدها انتخابات نيابية، وتوالت بعدها الخلافات؛ فتم
حلّ الحكومة، ثم أُعيد تشكيلها وأعقبها اتفاق جديد بدون أفق لنهاية تلك الخلافات،
وكل هذا مع استمرار مظاهرات ومصادمات الشوارع.
إذا تغلغلنا داخل القوى السياسية المعارضة نجدها تنقسم إلى ثلاثة تيارات؛ هي: قوى
إعلان الحرية والتغيير، وهي مكوّنات سياسية سودانية تتشكل أساسًا من قوى وأحزاب
تقليدية ويسارية وليبرالية، وهي التي ركبت الاحتجاجات الشعبية ضد البشير لتتصدر
الواجهة، وهذه القوى تأمل في تسوية سياسية مع الجيش السوداني تتشارك فيها معه على
الحكم، وهناك أيضًا قوى التغيير الجذري وهو تحالف يضمّ بعض القوى التي انفصلت عن
قوى إعلان الحرية والتغيير مثل الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السودانيين،
وتريد إبعاد الجيش تمامًا عن الحكم عبر التفاوض، والتيار الثالث يشمل لجان
المقاومة، وهم الناشطون في مظاهرات الشوارع، والذين يقودون الاحتجاجات في الأحياء
والمدن رافعين شعارات من قبيل: لا تفاوض لا شراكة ولا شرعية، وتطالب بإبعاد العسكر
عن السلطة.
وتباينت مواقف قوى المعارضة من قضية التطبيع مع إسرائيل، ففي حين أن هناك قوًى
تتوافق مع العسكر في هذه القضية، ولكن غالبية قوى المعارضة ترى في قضية التطبيع
ورقة في يد عسكر السودان لتفادي الضغوط الغربية عليه المتعلقة بالديمقراطية
والتنحّي عن الحكم.
ولكن معسكر الجيش على ما يبدو يشهد انقسامًا هو أيضًا، برز إلى السطح بين رئيس مجلس
السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي.
ويشكك البعض في ما يسرّب من خلافات بين الرجلين بأنها ليست أكثر من محاولة لإلهاء
الشارع السوداني عن دعوات التظاهر، وأن هذه الخلافات لا تعدو أن تكون توزيعًا
للأدوار، فيما تؤكد مصادر صحفية أنه بالفعل ثمة خلافات بين البرهان وحميدتي.
وبالرغم من التصريحات العلنية لكل من الرجلين، والتي تنفي وجود مثل تلك الخلافات،
ولكن بتتبُّع ما بين ثنايا المواقف المتباينة والتحركات الفردية لكل منهما سواء على
الساحة الداخلية والخارجية يشي بأن هناك ثمة خلافات تتعلق بالتنافس على السيطرة
والنفوذ، ولعل التعامل مع دولة الكيان من ضمن أدوات ذلك التنافس.
تأثير البيئة الخارجية
تلقي التطورات الإقليمية والدولية بظلالها على مواقف الفُرقاء السياسيين في
السودان، ومنها ما يتعلق بالعلاقة مع دولة الكيان الصهيوني.
فهناك قوى إقليمية انخرطت في التطبيع مؤخرًا مع دولة الكيان الصهيوني، وتحاول أن
تجذب الدول العربية الأخرى إلى تلك الحفرة بشتى الطرق، مستغلة أن السودان على وشك
الانهيار الاقتصادي، وبورقة الدعم المالي للحكومة السودانية تمكَّنت من شدّ السودان
إلى هذا الطريق.
أما احتدام الصراع الروسي الصيني في مواجهة أمريكا خاصةً بعد احتدام حرب أوكرانيا،
فقد ساعد على أن يكون السودان محلاً للاستقطاب والصراع بين تلك القوتين.
فالحكومة العسكرية السودانية قد قامت قبل الحرب بإعطاء تسهيلات عسكرية للروس
والصينيين في كثير من المنشآت البحرية والموانئ السودانية على طول البحر الأحمر،
بينما تحاول أمريكا جرّ السودان بعيدًا عن النفوذ الصيني والروسي.
وهذا التنافس عزَّز فرص الجيش السوداني في الحكم في مواجهة الدعم الغربي المقدَّم
لقوى المعارضة السودانية؛ حيث باتت الولايات المتحدة تحاول استرضاء العسكريين وهم
الطرف الأقوى سودانيًّا.
قيادات الجيش السوداني باتوا على اقتناع بأن تخفيف عزلتهم دوليًّا وإقليميًّا،
وزيادة قبضتهم على السلطة في السودان، وتقليص نفوذ المكوّن المدني المنافِس لهم في
صراع الحُكْم، وتلقّيهم الدعم الاقتصادي... كل ذلك بات مرهونًا باستغلال الصراع
الروسي الصيني الأمريكي، وأيضًا بتطوير علاقاتهم مع دولة الكيان الصهيوني، حتى ولو
كانوا غير مقتنعين أيديولوجيًّا بالتعاون مع الصهاينة، ولكنَّ المصلحة والبرجماتية
السياسية تقتضي ذلك؛ حسب زعمهم.