إن من أروع ما يُروى من نجاح مصعب بن عمير رضي الله عنه في دعوته ما رواه ابن هشام أن أسعد بن زرارة خرج معه يوماً إلى رجال من المسلمين، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما يومئذ على الشرك، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد؛ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أُكلِّمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟
ولعل قارئ هذه الأسطر شاهد ذلك المتسول الأمريكي الذي أُسمع القرآن فأطرق إطراقة المشدوه، وتلعثمت أحرفه، وقال كلاماً أشبه بكلام أسيد، ومثله كثير. وفي هذه المواقف بيان للمتسائل عن جدوى دعوة المشركين بما لا يؤمنون به - أعني القرآن - لكن الله تعالى يجيب هؤلاء بقوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام: 19]، وقوله: {قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45].
ومما يروى عن حبر الأمة رضي الله عنه أنه خطب الناس عشية عرفة، ففسر لهم سورة البقرة تفسيراً لو سمعه الروم والترك والديلم لأسلموا. فلا يظنن أحد أن دعوة الغرب لا تكون إلا بالعقل، ولا يحتج عليهم إلا بما يؤمنون به، فإن ذلك وإن صح عقلاً لا يؤيده الواقع. فإن المشاهَد أن كثيراً ممن أسلم من الغربيين إنما أسلم من قراءة ترجمة لمعاني القرآن، فكيف لو قرأ القرآن بلغته التي تنزل بها؟
إن الدعوة بالقرآن أَولى الدعوات، فهو مفتاح مغاليق القلوب؛ ومن قرأ سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم رأى أنه قد يكتفي في موقف دعوي ما بتلاوة آيات من كتاب الله عز وجل، فهلا عُدنا إلى شِرب الأوائل؟!