• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التربية السياسية للأطفال.. صناعة المستقبل

التربية السياسية للأطفال.. صناعة المستقبل

تكتسب الأوضاع السياسية المتأزمة في العديد من الدول العربية والإسلامية أهمية كبيرة من حيث شكلها وتأثيرها على نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، غير أن استمرارها لسنوات وعقود من الزمن يكسبها أهمية خاصة على ضوء تحول دفتها من جيل إلى جيل. ففي ظل تواصل المتغيرات السياسية والأوضاع المضطربة في دول عديدة في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص تفاعلت أجيال من الأطفال بشكل مباشر مع محيطها، وشكلت هذه التطورات في أذهانهم معتقدات ومفاهيم انعكست بوضوح على الأدوار التي لعبوها لاحقاً على الأرض عندما انتقلوا من مرحلة الطفولة إلى الشباب، لتشكل محوراً صلباً في صناعة القرار وتوجيه دفة الأزمات والصراعات السياسية على الأرض.

معايشة الأوضاع الإنسانية الصعبة غرست مفاهيم ومعتقدات لدى الأطفال، كان أبرزها وأكثرها حضوراً في العراق بعد الحرب الأمريكية البريطانية التي بدأت في عام 2003، والتي لم تتوقف آثارها السياسية والاجتماعية على الشعب العراقي حتى الآن، كما كان الحال في الأزمة الإنسانية الخطيرة التي تعرض لها الشعب السوري بعد انطلاق الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، وما صاحبها من عمليات تهجير وتدفق للاجئين على البلدان العربية والأوربية.

في هذا السياق، لم تكن معتقدات وأفكار الأطفال الذين أبصروا الحياة وسط هذه الأجواء بعيدة عن الأزمات الإنسانية والاجتماعية في البلدين، وربما كان انعكاسها واضحاً في تبنيهم منطق القوة والسلاح لمواجهة التحديات، كما لم تخلُ معتقدات الأطفال في بلدان ثورات الربيع العربي مثل مصر من تأثيرات مباشرة للصراعات السياسية، وربما تكون لها انعكاساتها في تبنيهم مواقف تتسم بالتأييد أو المعارضة بأقصى درجاتها.

وسط كل هذه المعتقدات، خرج جيل جديد عايش تربية سياسية مضطربة اختلطت فيها الدماء بمفاهيم الجهاد والإرهاب، وتباينت فيها أيضاً رسائل الإعلام ما بين التخوين والوطنية، ووصلت في أحيان أخرى لتزيف معاني المقاومة والنضال ضد المحتل.

ربما كان هذا الواقع باعثاً على صورة مضطربة للأطفال الذين عايشوا تلك الأزمات، لكنه في الوقت نفسه لا يعني مواصلة الاستسلام لتلك المؤثرات، ولا يعني كذلك الدفع بأجيال جديدة إلى دائرة الصراع، ومن ثم تبرز أهمية التربية السياسية الصحيحة للأطفال، بوسائل وتجارب أكثر وعياً بالتحديات المحيطة من أجل صناعة جيل جديد يبني مجتمعاً أكثر وعياً وإدراكاً لفرص نجاحه.

 تنشئة سياسية.. لا توجيه حزبي:

 في هذا الإطار، خرجت عدة كتب ودراسات، من بينها كتاب "التربية السياسية للأطفال" للكاتب سعيد إسماعيل علي، الذي تم نشره عام 2008، حيث يؤكد الكاتب على أن التربية السياسية تبدأ منذ المرحلة الابتدائية، ويستطيع الطفل في هذه المرحلة العمرية أن يتعايش مع واقع مجتمعه وما يعترضه من قضايا ومواقف سياسية، ومن ثم يتفاعل معها بالتحقق والمقارنة، وتتربى لديه العقلية الناقدة على أسس سليمة، قبل أن تتطور معه في مراحل عمره التالية.

 لكن على ضوء تشكيل الطفل لمعتقداته منذ تلك المرحلة العمرية الصغيرة والمتغيرات السياسية المحيطة به، لابد من التفريق بين بناء عقل الطفل من الناحية السياسية فيما يتعلق بضرورة الحوار واعتماد مبدأ الشورى خلال اتخاذ القرارات، وبين التوجيه الحزبي والسياسي للأطفال داخل المدرسة أو الأسرة أو في وسائل الإعلام، أو حتى الدفع بهم في التظاهرات واستغلالهم في الصور مع المسؤولين.

في هذا السياق، يعد أسلوب التوجيه السياسي للأطفال سواء في الإعلام أو المناهج الدراسية أمراً يبعث على القلق حيال الخلط بين التنشئة السياسية والتوجيه الحزبي، وهي وجهة نظر عبر عنها بوضوح وليد طاهر رسام الأطفال والكاريكاتير المصري، الذي اعتبر أن «مجلات الأطفال يجب أن تصل بالطفل إلى مرحلة كيف يختار وليس ماذا يختار.. وأن المادة السياسية يجب أن تكون للتربية السياسية للأطفال وليس للتوجيه السياسي، بهدف توعية الأطفال بأساسيات العلاقات بين البشر لتوصيل معنى الديمقراطية».

كذلك لا تخلو مناهج التعليم من فكرة التوجيه السياسي للأطفال؛ حيث يتحكم نظام الحكم في العديد من البلدان العربية بتحديد بوصلة المحتوى التعليمي في الاتجاه الذي يريده، خاصة فيما يتعلق بمادة التاريخ التي يمكن من خلالها تشكيل أفكار ومعتقدات لدى الأطفال قد تكون مغايرة للأحداث، وتوجههم في مسار محدد قد يصنع حالة عداء من جانب الأطفال لأي فكر معارض للنظام، وقد يحدث في حالات أخرى عقلية مضطربة بين مضمون المناهج والتوجهات السياسية التي قد تكون مغايرة لدى أسرة الطفل.

عوامل نفسية تحدد بوصلة التربية السياسية للأطفال:

من هنا، تبرز خطورة التوجيه السياسي للأطفال نحو اتجاهات بعينها، لكن في الوقت نفسه تطفو على السطح أهمية تفعيل فكرة التربية السياسية للأطفال عبر ممارسة حقيقية داخل الأسرة والمدرسة، تبدأ بتهيئة أجواء إيجابية تتيح للطفل الفرصة للتفكير بطريقة تتسم بقدر من الثقة في النفس، مروراً بتقبل الآخر والشورى قبل اتخاذ القرار، ووصولاً لاحترام رأي المعارضين، بهدف تفادي مخاطر بث روح التطرف والكراهية وانتشارها لاحقاً في المجتمع.

ترتبط هنا التربية السياسية بقدر من المسؤولية النفسية والاجتماعية للأسرة والمدرسة، من حيث تجنب وسائل إكراه الطفل وإذلاله حتى لا يستسلم لوسائل القهر التي من الممكن أن يتعرض لها عندما يكبر، وحتى لا يمارسها هو نفسه على المحيطين به إذا أصبح في منصب قيادي.

 في المقابل، تبدو التربية السياسية للأطفال إيجابية إذا اعتمدت على نشر أجواء من الإحساس بالأمن والاطمئنان والحب لدى الأطفال، لكي تنعكس لاحقاً على قدرتهم على التعايش والتسامح، إلى جانب تعزيز مبادئ العدل والحرية، والمواطنة من خلال معايشة حقيقية داخل الأسرة والمدرسة.

كذلك، تحتاج التربية السياسية الفاعلة للأطفال في المدرسة إلى عملية تربوية تراعي تأثير مناهج وأساليب التعليم ودرجة تأهيل المعلمين على النواحي السياسية، لكي تنعكس على حياة سياسية سليمة يكون لها صداها الإيجابي على المجتمع بعيداً عن أجواء الفوضى والعنف التي قد تهيمن على المدرسة أو أي مؤسسة اجتماعية أخرى ينخرط فيها الطفل ويتحول مسار حياته كلها لاحقاً إلى هذه الفوضى نفسها.

إلى ذلك، تتطلب التربية السياسية السلمية للأطفال قدراً من الوعي السياسي لدى الآباء والمعلمين، ليس فقط من خلال غرس روح الحوار والتسامح مع الأطفال، ولكن أيضاً من خلال اتباع نماذج سلوكية سياسية سليمة، بحيث يصبح الآباء والمعلمون قدوة من حيث طريقة ممارسة سلطتهم، وتجنب سلوكيات التسلط والإكراه في المعاملة.

أطفال فلسطين.. نموذج إيجابي لدور الأسرة في غرس روح النضال:

وفي إطار التأكيد على دور الأسرة الإيجابي في صناعة جيل جديد، قدم الشعب الفلسطيني نموذجاً يحتذى به في غرس قيم النضال لدى الأطفال، حيث ظهرت مشاهد مؤثرة للعديد منهم وهم يلوحون بعلامات النصر بعد فقد أطراف من أجسادهم في العدوان الصهيوني المتواصل عليهم، كما ظهرت على ألسنة الأطفال الفلسطينيين كلمات صلبة تحمل رسائل تحدٍ للعدو المحتل خلال مواقف عديدة فقد فيها الأطفال ذويهم، وكذلك كان الحال نفسه للرد على اقتحام الصهاينة للمسجد الأقصى، فضلاً عن المشاهد المشرفة لـ"أطفال الحجارة" والتي باتت صورة حية تلخص روح المقاومة والنضال ضد المحتل.

كما أن التأثير الإيجابي للأسرة الفلسطينية في بث روح النضال لم يظهر فقط في صلابة الأطفال، بل انعكس كذلك في صمود أجيال الشباب الذين ودعوا منذ سنوات قليلة مرحلة الطفولة ليدخلوا معارك جهادية ضارية ضد المحتل، سواء خلال العدوان الصهيوني على قطاع غزة، أو خلال انتفاضة السكاكين التي انطلقت مؤخراً للدفاع عن المسجد الأقصى.

روح النضال التي يعبر عنها الأطفال الفلسطينيون تعد انعكاساً مهماً لدور الأسرة في التنشئة السياسية، من حيث طريقة غرس الوعي إزاء قضايا الأمة، وإعلاء القيم الدينية والمشاعر الوطنية التي تحافظ على الهوية الإسلامية والعربية، لتصبح خط الدفاع الأول أمام المحتل الذي يسعى لتزييف الوعي ونزع البعد الديني والقومي من القضية الفلسطينية.

 مناهج التعليم.. وسيلة مهمة لتشكيل العقلية السياسية:

على غرار دور الأسرة والمعلمين في التنشئة السياسية للأطفال، تبرز أيضاً أهمية نشر الوعي السياسي من خلال المناهج الدراسية، وتحديداً في مواد التاريخ والتربية الوطنية، وهي أمور تبدو غير معتمدة بشكل جيد من جانب وزارات التعليم في الدول العربية والإسلامية، حيث ينصب المقرر الدراسي في كتب التاريخ والتربية الوطنية على سرد الأحداث والانتصارات، دون تمهيد الطريق أمام تشكيل عقيدة حقيقية لدى الأطفال تساعدهم على فهم التحديات السياسية الحالية المحيطة بهم دون توظيف سياسي لخدمة نظام حكم بعينه.

في المقابل، يعتمد الكيان الصهيوني على تكوين الاتجاهات لدى أطفاله منذ مرحلة رياض الأطفال، حيث يتم صهرهم في وحدة ثقافية واجتماعية واحدة، كما يعتمد على عدد من المؤسسات التعليمية التي تعمل على تربية الطفل وتوجيهه سياسياً وعقائدياً بطريقة تؤسس لقادة جدد للفكر الصهيوني للحفاظ على مستقبل هذا الكيان المحتل.

كما تركز المناهج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة لدى الكيان الصهيوني على صورة الإنسان العربي والمسلم، وبث توجهات عنصرية إزاء المسلمين، كما يظهر ذلك أيضاً جلياً خلال صورة متكررة لأطفالهم وهم يكتبون على دانات الدبابات والصواريخ عبارات عنصرية، من بينها "هدية من أطفال إسرائيل إلى أطفال غزة"، وغيرها من العبارات التي تعكس حجم التأثير السياسي على الأطفال منذ المراحل المبكرة.

إلى ذلك، يبدو التاريخ حافلاً بالتنشئة السياسية العنصرية التي اختلطت فيها السياسة مع التربية العقائدية في المناهج الدراسية بمجتمعات مثل الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية، وهو ما كان له أثر في تشكيل فكر سياسي استمر لعقود طويلة ووضع خريطة جديدة للعالم خلال القرن الماضي.

التنشئة السياسية للأطفال حولت أوربا من الصراعات إلى الشراكة (الاتحاد الأوربي.. مثال حي):

انفراط العقد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، دفع العديد من القادة الجدد للبلدان الاشتراكية القديمة إلى التفكير سريعاً في وقف التنشئة السياسية للأطفال بالعقلية القديمة من خلال تغيير المناهج الدراسية، وتوجيه رسائل إعلامية جديدة تفصل بين البث العقائدي والحزبي الذي كان السمة الرئيسة في التجربة السوفيتية.

واستهدف التوجه في تغيير مناهج التعليم وضع صيغة ملائمة للشكل الدولي الجديد، الذي انفتح تدريجياً بعد سقوط جدار برلين، وبدأ يعتمد في الأساس على أفكار تحقق مصالح اقتصادية وسياسية تحتاج إلى تشكيل فكر جديد، وكذلك تنشئة جديدة للأطفال لتحقيق الأهداف التي تحقق النمو والتطور.

في هذا السياق، تبدو نهضة الدول الأوربية مرتبطة بتنشئة سياسية مختلفة لأجيال متعاقبة من الأطفال تحمل أفكاراً تعزز فرص التفكير بعيداً عن المواجهات العنصرية مع بعضها البعض، لتشكل هذه الأجيال لاحقاً شراكات سياسية واقتصادية، كان من بينها الاتحاد الأوربي الذي يعد مثالاً حياً على نجاح تجربة التنشئة السياسية للأطفال على أساس التعايش بعد الصراعات الطويلة التي عاشها جيل الآباء خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة التي تبعتها.

وبمقارنة ذلك بالأوضاع الراهنة في عالمنا العربي والإسلامي، تبقى الصراعات السياسية بمثابة جرس إنذار بخطورة الانقسامات والصراعات التي تعاني منها مجتمعاتنا، لكنها في الوقت نفسه يجب أن تستمد العبرة من تجارب حية حدثت في أوربا وحصدت أرواح الملايين، قبل أن تنتقل إلى التعايش مع بعضها البعض عبر التنشئة السياسية الإيجابية للأجيال الجديدة.

يستدعي ذلك أيضاً من قادة الأنظمة الحاكمة في الدول العربية بشكل خاص استيعاب أهمية التنشئة السياسية السليمة القائمة على تشكيل وعي حقيقي لدى للأطفال في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام بعيداً عن التوجيه السياسي لمصالحهم الشخصية حتى تتجنب مخاطر الانقسام، كما تحتاج المنظمات والجهات الدينية إلى التركيز بالتوازي على تهيئة أجواء نفسية وأخلاقية داخل الأسرة والمدرسة لصناعة أجيال جديدة أكثر قدرة على التعايش وتحقيق التنمية والتقدم لبلدانها، وأكثر صلابة في مواجهة التحديات التي تتزايد يوماً بعد يوم.

:: مجلة البيان العدد  349 رمــضــان  1437هـ، يـونـيـو  2016م.

أعلى