معركة كوسوفا في التاريخ العثماني والصربي
"معركة كوسوفو بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم، ونحن مستعدون أن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفو إلى مكة".
(الرئيس الصربي الصليبي سلوبودان ميلوسيفيتش)
تعتبر معركة كوسوفا من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي والعالمي، وهي تمثل منعطفاً حاسماً في تاريخ شبه جزيرة البلقان والوجود الإسلامي فيها. دارت المعركة بين تحالف الجيش الأرثوذكسي بقيادة الملك الصربي لازار من جانب، وبين الجيش العثماني بقيادة السلطان مراد الأول من جانب آخر، وذلك في 15 شعبان 791هـ/ 28 يوليو 1389م. وفي ما يلي قصة هذه المعركة الملحمة.
منطقة البلقان: هذه المنطقة الكبيرة التي تشكل الزاوية الجنوبية الشرقية لأوروبا شكَّلَت عبر القرون خط تماس وتوتر ليس فقط بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية، بل بين العالَمين النصراني والإسلامي أيضاً.
جعل الأتراك العثمانيون هذه المنطقة ميداناً لفتوحاتهم وأنشطتهم في نشر الإسلام، على حساب الإمبراطورية البيزنطية التي تم عزل عاصمتها القسطنطينية عن محيطها؛ وذلك قبل فتحها من قبل السلطان محمد الفاتح عام 1453 وقد حقق المسلمون في هذه المنطقة، تحت قيادة العثمانيين، كثيراً من الانتصارات، وسطروا كثيراً من الملاحم البطولية المجيدة التي خلدها التاريخ، ابتداءً من فتح مدينة غاليبولي، بوابة البلقان عام 1354، وصولاً إلى أبرز تلك الانتصارات وأخلدها ذكراً، وهو انتصارهم الكبير على الصرب والقوى الأرثوذكسية المتحالفة معهم، في معركة "قوصوه"، أو كوسوفا، سنة 1389م/791هـ، وهي موضوع حديثنا هنا.
إن انتشار الإسلام في هذه المنطقة تم بجهود السلاطين العثمانيين الذين قدموا فيها أعظم التضحيات، قبل فتح القسطنطينية وبعده حتى مطلع القرن العشرين؛ إذ ترجح الدراسات التاريخية الحديثة أن حروب الدولـة العثمانية مـع خصومها في منطقـة البلقان كـانت هي الحروب الصليبية بامتياز. فقد استمرت زماناً طويلاً وأخذت أحجـاماً مادية ومعنويـة أضخم من حجم الحرب الصليبية في منطقـة الشرق الأدنى واتسمت بتزمت وتعصب وقسـوة من الطرفين خلت منها المعـارك والاشتباكـات في المنطقة العـربية الإسلامية. كـما لم تعـرف مراحل هدنـة طويلـة من النـوع الذي كـانت تعرفـه العلاقـات بين الصليبيين والأمراء المسلمين في بلادنا؛ أي في بلاد الشام.
الصرب من الشعوب السلافية، وهي من الشعوب التي ليس لها مساهمات في تكوين الحضارات الإنسانية، وقد اعتنق الصرب النصرانية الأرثوذكسية، في القرنين السادس والسابع الميلاديين، ولكنهم وقعوا تحت سيادة الإمبراطورية البيزنطية ثم تمكنوا من الخروج شيئاً فشيئاً من تحت عباءتها، وأقاموا لهم دولة مستقلة، في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وكان ذلك تحديداً في عهد ملكهم ستيفان، الذي تمكن عام 1208 من بسط سيطرته على إقليم كوسوفا، الواقع وسط البلقان، وطرد البيزنطيين منه، ومن ثَم جعل الإقليم مركزاً حضارياً ودينياً نصرانياً للصرب. وقد بلغت قوة الصرب ذروتها زمن الملك دوشان، الذي أعلن نفسه قيصراً عام 1346. وأعطى هذا الملك الصربي امتيازات كثيرة للكنيسة الصربية، ونقل مقرها الذي كان في "شيج" إلى مدينة "بيجا" التابعة لكوسوفا الحالية. وأظهر الصرب التعصب للأرثوذكسية، وسعوا إلى فرضها بالقوة على الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم، واضطهدوا كل الذين رفضوا اعتناقها اضطهاداً وحشياً، خاصة السكان الكوسوفيين. وقد تزامن ذلك مع صعود نجم العثمانيين في آسيا الصغرى، ووصول طلائع جيوشهم إلى منطقة البلقان في عهد السلطان أورخان بن عثمان، ثم تمكن مراد الأول، ثالث أمراء آل عثمان، من دخول البلقان وتحقيق عدد من الانتصارات التي توجت بفتح مدينة "أدرنة " سنة 1361م، وهزيمة القوى النصرانية، ونقل العاصمة من بروسة إلى أدرنة، التي عمرت بالمساجد والمدارس، وأصبحت نقطة انطلاق لمواصلة الفتوحات الإسلامية في أوروبا. وقد نجم عن دخول العثمانيين إلى شبه جزيرة البلقان وتوغلهم فيها، وانتشار الإسلام على أيديهم في تلك المنطقة، حدوث موجة من الخوف والذعر اجتاحت الدول الأوروبية، من هذه القوة الإسلامية المتعاظمة.
استعداد النصارى وتحالفهم:
ولما كان الصرب هم القوة الرئيسية في البلقان حينذاك، فقد نشطوا للتصدي للعثمانيين ولمجابهتهم وردِّهم، معتبرين أنفسهم حماة للنصرانية الأرثوذكسية في شرق أوروبا. وعلى هذا الأساس شرع الصرب في الاستعداد وحشد الأعوان والحلفاء، وبعثوا بالرسل طالبين النجدة من ملوك الغرب الصليبي، ومن بابا الفاتيكان، الذين لم يكونوا غافلين عن تحركات العثمانيين في تلك المنطقة. بل بلغت الجرأة بالصرب حداً جعلهم يتجرؤون على مهاجمة أدرنة عاصمة العثمانيين آنذاك أثناء انشغال السلطان مراد الأول بحصار مدينة (بيجا)، وذلك في سنة 766هـ/1363م. ثم في عام (773هـ/1371م) عندما كان السلطان مراد منشغلاً في آسيا، استغل الصرب الفرصة للهجوم على القوات العثمانية التي كانت في أراضيهم… ولأجل استئصال هذا التمرد فإن السلطان مراد استعد للحرب بتجهيز جيشه الآسيوي، ومعه ابناه بايزيد ويعقوب، وفي أوروبا انضمت أجزاء جيشه إليه، وجمع السلطان مراد الأول هذه الجيوش واتجه إلى المعركة... في غضون ذلك كان الصرب قد نجحوا في تشكيل أول تحالف صليبي ضد المسلمين في البلقان. هذا الحلف الذي أنشأه (لازار) ملِك الصرب، وانضم إليه (توارتكو الأول) ملِك بوصنة أيضاً. ثم توسع هذا الحلف فدخل فيه الألبانيون، والبولنديون، والبوشناق. وجمعوا جيشاً ضخماً، وضعوه تحت قيادة «لازار». كان هذا الجيش ضخماً إلى درجة ساد شعار (لو أن السماء وقعت لتلقيناها بأسنّة حرابنا) بين جنود هذا الجيش اللجب. وكان ذلك الجيش حسب بعض التقديرات، يتكون من ما يزيد عن مائتي ألف مقاتل. وأخيراً عندما جاءت الأخبار بقدوم الجيش العثماني إلى معقل الصرب أعلن الملك الصربي لازار النفير العام، واستثار نخوة الصرب وحماسهم الديني إلى أقصى حد، وزاد على ذلك بأن صرح على رؤوس الأشهاد بأن "كل مَن وُلد وتجري في عروقه دماء صربية أو نسب ولم يأت لقتال الأتراك في كوسوفو، لن يولد له صبي، أو صبية، ولن يرث أرضه ابن".
اللقاء الحاسم:
وما لبث الصرب وحلفاؤهم من نبلاء البلقان أن زحفوا بتلك القوات من الشمال لوقف الاندفاع العثماني، وعسكروا بجيوشهم الجرارة في سهل كوسوفا، إلى الشمال من مدينة بريشتينا، واحتلوا أفضل التلال المشرفة على الميدان. وحينئذٍ كان الجيش العثماني قد أكمل استعداداته فزحف بدوره من الجنوب على وجه السرعة. وفي صبيحة يوم 15شعبان 791هـ/ الموافق 28 يوليو1389م، التحم عشرات الآلاف من الجنود المسلمين من جهة، والنصارى من جهة أخرى في ذلك المكان، في معركة ضارية وطاحنة، يشيب من هولها الولدان، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معنى، وقاتل فيها الطرفان بعناد وضراوة، وكان الطابع الديني هو الغالب على شعارات وهتافات الطرفين، في تلك المعركة (الملحمة). ويقال إن المعركة بدأت في الثامنة صباحاً حينما هجم الأتراك، وأن ثلاثمائة وخمسين ألفاً من الجنود الصرب شاركوا فيها، كما يذكر أيضاً أن الجيش التركي كان يتكون من مائة ألف من الجنود. وبقيت الحرب بينهما سجالاً لأيام عديدة، تكبَّدت فيها القوات من الطرفين خسائر فادحة. وكان السلطان مراد وابنه وولي عهده بايزيد مع جميع وزرائه وقواده بأيديهم السيوف، يقاتلون جنباً إلى جنب مع الجنود، وقد أبدى ولي العهد خاصة شجاعة فائقة في هذه المعركة، فكان ذلك برهاناً على صدق اللقب الذي لُقِّب به سنة 1386م، وهو لقب (الصاعقة)؛ إذ كان ينزل كالصاعقة على الأعداء.
وأخيراً، فر صهر الملك لازار (فوك برانكوفتش) ومعه عشرة آلاف فارس، وانضم إلى جيش المسلمين، فدارت الدائرة على الصربيين، وجرح (لازار) ووقع أسيراً في قبضة المسلمين فقتلوه صبراً بسبب ما فعله بالأسرى المسلمين من شناعات ومذابح. ولم تلبث المعركة حتى انتهت بانتصار حاسم للعثمانيين المسلمين، وهزيمة ساحقة ماحقة للنصارى من الصرب وحلفائهم، الذين فقدوا في هذه المعركة زهرة شبابهم وكبار قادتهم، على رأسهم لازار، فضلاً عن كونها كانت نهاية لاستقلال الصرب، وفقدهم دولتهم التي اجتاحتها الجيوش التركية، التي استمرت في اندفاعها على مراحل تاريخية متقطعة، حتى وصلت إلى أسوار "فيينا"، واختفت الشعوب السلافية الجنوبية من التاريخ مدة ثلاثة قرون ونصف. ولم تقم للصرب دولة طوال تلك المدة، وبقي ذكر هذه المعركة شهيراً في أوروبا بأسرها.
السلطان مراد الأول شهيداً:
لقد انتصر المسلمون انتصاراً حاسماً في معركة كوسوفا، إلا أن القدر لم يمهل السلطان مراد الأول لكي يحتفل بانتصاره الكبير الباهر. فقد اغتاله أحد الجنود الصرب، حينما كان يتفقد الجرحى، من جيشي الطرفين في نهاية المعركة، وكان هذا الجندي الصربي، قد تظاهر بأنه مقتول، وعندما اقترب منه السلطان استل خنجره، ونهض من بين الجثث، وسدد له طعنة نجلاء في لمح البصر، فسقط القاتل قتيلاً تحت سيوف الانكشارية، لكن لم يفدهم قتله شيئاً؛ إذ أسلم السلطان الروح بعد ذلك بقليل، فكان أحد شهداء المعركة. وحول مقتل السلطان مراد الأول قال في (قصة الحضارة): "وادعى فارس حربي اسمه ميلوش كوبيلتش، أنه آبق في الخدمة العسكرية وجاسوس واستطاع بذلك أن يشق طريقه إلى خيمة مراد وأن يغتال السلطان فضرب حتى مات. واستثار ابن مراد ووريثه بايزيد الأول الحمية الغضوب في نفوس الأتراك وقادهم إلى النصر". وكان عمر السلطان مراد آنذاك حوالي 62 سنة، ومدة حكمه 29 سنة (1360-1389م)، أمضى معظمها في الغزو والفتوحات، وقام بكثير من الأعمال. وكان السلطان مراد الأول سلطاناً غازياً، وقائداً عسكرياً فذاً. وقد اشتهر بالجهاد في سبيل الله، والاهتمام بالجيش، والشجاعة، وحسن التدين، والكرم، والعدل، وبناء المساجد. ودرب مراد جيشاً لا يكاد يقهر، وفتح معظم أراضي البلقان، ويسر خضوعهم له بأن أقام لهم حكومة أقدر من تلك التي عرفوها على عهد السيطرة النصرانية. وقد خاض السلطان مراد الأول بنفسه 37 معركة كبرى، سواء كانت في الأناضول أو في البلقان، وخرج منها كلها منتصراً، ووسع غزواته للاستيلاء على الدول الأوروبية، بصورة تدريجية، وَفق خطة محكمة، كان يسير في ضوئها حتى يوم قتله. ووسع مملكته التي كانت مساحتها عند استلامه الحكم تبلغ (100000كم2) تقريباً، إلى مملكة مساحتها (400000 كم2)، أي وسعها أربعة أضعاف، لذا يُعد أول سلطان في الدولة العثمانية؛ إذ إن والده (أورخان) وجدّه (عثمان) كانا يلقبان بـ (بك). وتسلم ابنه (بايزيد الأول) الحكم من بعده. وقد أقيم للسلطان مراد الأول ضريح في نفس المكان الذي استشهد فيه يحتوي على دمه وأحشائه، بينما جثمانه نقل إلى مدينة بورصا التركية حيث مقبرة السلاطين الستة الأوائل من بني عثمان.
نتائج معركة كوسوفا:
لقد كان من نتائج معركة كوسوفا الفاصلة، سقوط البلقان برمته في قبضة الدولة العثمانية في ما بعد، وخضوع كوسوفا وصربيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا للحكم العثماني، وانتشار الإسلام على نطاق واسع في أقاليم هذه المنطقة، ما عدا مدينة بلغراد عاصمة صربيا اليوم، فإنها فتحت بشكل نهائي، في عهد السلطان سليمان القانوني، وذلك في 26 من رمضان 938هـ (1521م). وتم تحويلها إلى مركز للثقافة الإسلامية وبوابة للشرق. وقد كان للتسامح الديني الذي تميز به العثمانيون مردود إيجابي كبير في دخول سكان المنطقة في الإسلام، في بداية الأمر؛ إذ دفع ذلك أهل البلقان إلى أن يعتنقوا الإسلام طوعاً، وفي مقدمتهم الألبان والبوشناق، الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، وحَسن إسلامهم وعَظم بلاؤهم في خدمة الإسلام، وكانوا سنداً وعوناً للدولة العثمانية في قتال أعدائها، وفي نشر الإسلام في أوروبا وفي غيرها. وقد امتزاج الألبان وبقية المسلمين من القوميات الأخرى في البلقان، امتزاجاً شبه كامل مع إخوانهم المسلمين من الأتراك، وغيرهم، وانخرطوا في سلك العمل في هذه الدولة الإسلامية، قادة وولاة وتبوؤوا مختلف الوظائف والمناصب السياسية والعسكرية، بل حتى مستشارين وكتاب في بلاط السلطان العثماني نفسه، مستفيدين في ذلك من مبدأ المساواة الذي حاول العثمانيون تطبيقه قدر جهدهم على مواطنيهم المسلمين، أياً كان جنسهم أو عرقهم أو لونهم. فقد كان منهم في الدولة العثمانية القواد العظام مثل بالابان باشا (قائد من قواد فتح القسطنطينية) ومحمد علي باشا (والي مصر) والداهية الانتهازي المشهور، الخارج على الدولة العثمانية، وكما كان منهم كبار الكتاب والشعراء، الذين كانوا يؤلفون بلغات خمس: الألبانية والبوسنية والعربية والتركية والفارسية، مثل محمد عاكف أرسوي وسامي فراشري وغيرهم. وفي عهد العثمانيين كانت ولاية كوسوفا أكبر الولايات العثمانية في رومليا (أوروبا)، وقد اكتسبت أهمية إستراتيجية لوقوعها على الطريق التجارية إلى البلقان وتمتعت كغيرها من بقية أقاليم البلقان بأطول آماد السلم والاستقرار والرخاء وشهد نهضة عمرانية إسلامية، وما زال بعض تلك المنشآت قائماً حتى الآن. ولقد استمر الحكم الإسلامي في المنطقة حتى بدء تراجع نفوذ السلطنة العثمانية عام 1912.
كوسوفا في الذاكرة الصربية:
بعد هزيمة الصرب في معركة كوسوفا، أصبحوا جزءاً من الدولة العثمانية، واستمروا كذلك زهاء ثلاثة قرون. ومع عصر انبعاث القوميات في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الصرب مسيرة البحث عن ذريعة، لإنقاذ سمعتهم وتاريخهم، ولم يجدوا أمامهم سوى المسلمين الألبان، ليجعلوا منهم شماعة يعلقون عليها أسباب زوال دولتهم، صربيا. بل يتهمونهم بأنهم يقفون وراء مظلوميتهم التاريخية، المتمثلة في "النزوح الكبير"، الذي يزعمون أنه حدث لهم مع دخول العثمانيين بلادهم. وقد اعتبر الصرب تحول الألبان إلى الإسلام، خيانة عظمى ارتكبوها في حقهم، وفي حق الكنيسة، وفي حق أسلافهم النصارى، وفي حق التاريخ الأوروبي النصراني برمته. وقد تضخمت هذه الدعاية مع مرور الزمن، حتى تحولت إلى أسطورة من الأساطير الرائجة، التي تتخذ في الأدبيات الصربية شكل ملحمة شعبية حافلة بالقصائد الشعرية، والقصص الرومانسية الخيالية. وتحولت هزيمة الصرب في معركة كوسوفا تلك، إلى ذكرى يتم الاحتفال بها سنوياً، ويتم خلالها تمجيد القادة والفرسان الصرب، الذين خاضوا تلك المعركة، وخاصة الملك الصربي لازار، الذي لقي مصرعه فيها، فقد حولته تلك الأسطورة، إلى بطل قومي للصرب، بل إلى قديس يحظى بمكانة خاصة لدى الصرب، ولدى الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، لا يحظى بها حتى القديسون الحقيقيون أنفسهم. وصار كل ذلك جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية، ومن التراث القومي والديني الصربي، المتوارث جيلاً بعد جيل، وأصبح مصدراً للشحن الديني الذي ترتكز عليه الأيديولوجية القومية الصربية المتعصبة. ومنذ انهيار المملكة الصربية، كثيراً ما يزعم الصربيون، أن الأراضي التي تكونت منها مملكتهم، والأراضي التي استعمروها، أراضٍ صربيةٌ خالصة، ويزعمون أن أراضي "كوسوفا" مقدسة للصرب. أما أهل "كوسوفا" خاصة، وبلاد البلقان، عامة، فإنهم يعتبرون الصرب غزاة ودخلاء على بلادهم، وأن استيلاءهم على بعض أجزاء البلقان مدة من الزمن لا يعطيهم حقاً شرعياً في امتلاكها إلى الأبد، حتى ينـادوا بملكيتهــــم لها. ولا زال الصرب يتذكرون هذه المعركة، حيث أحيوا ذكراها عام 1989، وأعلن الرئيس الصربي بهذه المناسبة، إلغاء الحكم الذاتي لمسلمي كوسوفا، وقال كلمته المشهورة، التي صدرنا بها مقالتنا هذه. وكان ذلك تدشينا لحرب الإبادة الجماعية، التي شنتها صربيا ضد إقليم كوسوفا، على مرأى ومسمع من العالم. وظهر الحقد الدفين المتراكم منذ انتصر العثمانيون عليهم في معركة "كوسوفا" وحكموا هذه البلاد. وظهرت أوربا على حقيقتها في تعاملها مع المسائل التي تمس المسلمين.