تُعتبر الأحزاب الكردية الانفصالية في جنوب شرق تركيا أحد الأجزاء الأربعة في دولة كردستان الكبرى وهي الحلم الذي يسعى الأكراد لإنشائه، والتي تشمل أيضًا أجزاءً من شمال سوريا أو كردستان الغربية، وشمال العراق أو كردستان الجنوبية، بالإضافة إلى شمال غرب إيران
هل سيكون مصير سيناريو التهديد بعملية عسكرية تركية والتي لوح بها المسئولون في
تركيا القيام بها في شمال سوريا في الأيام الأخيرة، مثل مصير سيناريو التهديد
بالعمليات العسكرية التركية السابقة في سوريا والتي انتهت بدون أن تحدث؟
هل هذا التأخير هو انتظار لاعتبارات داخلية وخارجية؟ أم أن الأمر يتعلق بأن تركيا
لم تأخذ الضوء الأخضر من القوى الكبرى والتي تتواجد على الأرض في سوريا ونعني بها
الولايات المتحدة وروسيا؟
ولماذا تعارض كل من أمريكا وروسيا العملية التركية في شمال سوريا، أو على الأقل
تتحفظان عليها؟ والى متى ستستمر معارضتهما؟
للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا معرفة حقيقة تلك التهديدات التي تصدر عن الجانب
التركي والاستراتيجية التركية تجاه الأحزاب الكردية الانفصالية، ثم تتبع أجندة كل من روسيا وأمريكا في
سوريا، ومن ثم إدراك جوانب الاتفاق والتعارض بين تلك الأجندتين والأهداف التركية في
ذلك البلد المأزوم.
|
تاريخ الأحزاب الكردية الانفصالية في تركيا هو صراع طويل مع النظم السياسية المتعاقبة في
أنقرة، ففي عهد كمال أتاتورك قام بنفي مجموعات كبيرة من الأكراد، وظهر فيهم
منظمات تدعو للانفصال وتكوين دولة مستقلة لهم |
الاستراتيجية التركية تجاه الأكراد
منذ فترة طويلة عندما كانت تحدث تفجيرات في الداخل التركي، يتم اتهام الأحزاب
الكردية الانفصالية بتلك العمليات، ثم يتبارى المسئولون الأتراك بدء من الرئيس رجب
طيب أردوغان، مرورًا بوزير الدفاع وانتهاء ببقية المسئولين الأتراك، في إطلاق
التهديدات والتصريحات بقرب اجتياح للأراضي في الشمال السوري، والتي تتمركز فيه
الجماعات الانفصالية العسكرية الكردية لتحييد تلك الجماعات المسلحة وتأمين الحدود
ومنع المشاريع الانفصالية للأكراد، ومن ثم تمتلئ وسائل الإعلام الدولية والمحلية
بالأخبار والتحليلات التي تتحدث عن التدخل المزمع للجيش التركي في الشمال السوري.
فما الذي يريده الأتراك تحديدًا من الملف الكردي؟
تُعتبر الأحزاب الكردية الانفصالية في جنوب شرق تركيا أحد الأجزاء الأربعة في دولة كردستان الكبرى وهي
الحلم الذي يسعى الأكراد لإنشائه، والتي تشمل أيضًا أجزاءً من شمال سوريا أو
كردستان الغربية، وشمال العراق أو كردستان الجنوبية، بالإضافة إلى شمال غرب إيران
أي كردستان الشرقية. وبالرغم من أنه لا توجد في تركيا إحصاءات دقيقة لعدد الأكراد،
لكن بعض الإحصائيات تشير إلى أن عددهم يقدر بنحو 15 مليون نسمة، ويشكلون 56% من
الأكراد في العالم، في حين تبلغ نسبتهم حوالي من 15% إلى 19% من إجمالي الشعب
التركي ليبلغ تعدادهم هو ما يقارب 15 إلى 20 مليون كردي، وهم يتواجدون في كل
محافظات البلاد، فمثلاً يصل عدد الأكراد في إسطنبول حوالي 2 مليون نسمة، ولكن
النسبة الكبرى منهم تعيش في الركنين الشرقي والجنوبي الشرقي من البلاد.
بينما في سوريا يقدر عدد الأكراد بحسب تقديرات غير رسمية بـ 1.6 مليون نسمة،
ويشكلون 6% من أكراد العالم، و8% من سكان سوريا، ويتمركزن في مناطق شمال شرقي
البلاد، مثل الحسكة والقامشلي والمالكية.
تاريخ الأحزاب التركية الانفصالية في تركيا هو صراع طويل مع النظم السياسية المتعاقبة في أنقرة، ففي
عهد كمال أتاتورك قام بنفي مجموعات كبيرة من الأكراد، وظهر فيهم منظمات تدعو
للانفصال وتكوين دولة مستقلة لهم،
كان من أبرزها حزب العمال برئاسة عبد الله أوجلان حيث خاض قتالاً مسلحًا طويلاً مع
الجيش التركي الذي تمكن من اعتقاله.
أما في سوريا فقد استغلت الأحزاب الكردية الانفصالية حالة التفكك في البلاد والتي أعقبت اندلاع ثورة
الشعب السوري ضد حكم بشار الأسد القمعي الطائفي، ليسيطروا على مناطق ذات أغلبية
كردية شمال البلاد، مستغلين حاجة الولايات المتحدة لوجود قوات على الأرض من أجل
محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
وانتهى المطاف بالأكراد ليعلنوا في عام 2016، إنشاء نظام فدرالي بمناطق سيطرتهم
شمالي البلاد، وهي المقاطعات الثلاث ذات الأغلبية الكردية: عين العرب (كوباني) في
ريف حلب الشمالي، وعفرين بريف حلب الغربي، ومنطقة الجزيرة في محافظة الحسكة.
اختلفت نظرة حزب العدالة والتنمية التركي بعد تسلمه الحكم في ديسمبر 2002 عن سابقيه
من الحكومات التركية، ففي إطار سياساته لتصفير مشاكل تركيا وأزماتها الداخلية
والخارجية حاول احتواء الأكراد، بل انه دخل في مباحثات جدية مع حزب العمال لإقناعهم
بدخول العملية السياسية والقاء السلاح.
ولكن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تغيرت البيئة الداخلية والمحيطة بتركيا،
وأصبحت سياسة صفر مشاكل لا تجدي مع تدخل أطراف عديدة في سوريا، ووجد الأكراد سوريا
أرضًا رخوة وفراغًا جيوسياسي لتنفيذ حلمهم بدولة كردية.
لقد نظرت تركيا حينها إلى سوريا بصفة عامة وإلى الشمال السوري الملاصق لحدودها
تحديدًا على أنه عمق استراتيجي يحميها من أمرين:
أولاً من طموحات الأكراد بقيام دولة تقتطع من تركيا، وتكون بمثابة مخلب وذراع لقوى
دولية وإقليمية تبتز تركيا، وتحاول عن طريقها وقف طموحها باسترجاع مجد العثمانيين
باعتباره خطرًا داهمًا لهذه القوى.
ثانيًا فإن تأمين الشمال السوري، يوقف تدفق اللاجئين السورين الفارين من بطش الأسد،
والذين باتوا يشكلون عبئا اقتصاديا وسياسيا على حزب العدالة وفرص استمراره في حكم
تركيا.
في البداية وحتى عام 2013، دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إطلاق تصريحات
بأن بلاده لن تُجرّ إلى الحرب في سورية، إلا أنها ما لبثت أن أدركت ما يسعى إليه
الأكراد فحاولت دعم فصائل المعارضة وتسليحها، وتقديم التسهيلات واللوجستيات،
واستخدامهم كبديل وأحيانًا كغطاء لعملياتها على الأرض في الشمال السوري.
ثم أصبحت الاستراتيجية المعلنة للأتراك، السعي لإيجاد شريط حدودي يتراوح عمقه ما
بين 30 إلى 40 كيلو مترًا ليكون تأمينًا ضد أي مسعى كردي لتغيير خريطة المنطقة.
وبالفعل ومنذ عام 2016 نفذ الجيش التركي ثلاث عمليات عسكرية، في 2016 عملية درع
الفرات، وغصن الزيتون في 2018 ونبع السلام في 2019، ونجحت تركيا بالسيطرة على
جرابلس ومحيطها حتى مدينة الباب، ومنعت الوحدات الكردية من التقدم أكثر وقطعت
آمالها بالوصول إلى عفرين وإقامة الكيان الكردي.
ولكن الشكوك التركية تجاه النوايا الأمريكية والروسية سواء في اعتماد الأمريكان على
الأكراد كحليف على الأرض في الشمال السوري بحجة مكافحة ومحاربة داعش، واتخاذها ورقة
لتحجيم الصعود التركي، كل ذلك يزيد الإصرار التركي على سحب تلك الورقة من يد
الأمريكان والروس والإصرار على تأمين الشريط الحدودي المزمع إقامته في الداخل
السوري.
|
تركيا تخشى من الاستقلال الكردي الذي قد يمتد إلى الانفصال وإعلان دولة،
وفي الوقت نفسه فإنه على ما يبدو فإن الهدف المخفي الأمريكي من دعم الأحزاب الكردية الانفصالية هو لجم طموحات الصعود التركي إقليميًا وعالميًا |
روسيا والورقة الكردية
بنفس الحجة والتي دفعت الولايات المتحدة للتدخل في سوريا، اتخذت روسيا من تمدد
الإرهاب الداعشي حجة لها ولكن لكي تنقذ نظام بشار الأسد من الانهيار، باعتبار أن
حكومة الأسد هي الحكومة الشرعية في سوريا، بينما كانت الأهداف الحقيقية لروسيا في
الأراضي السورية غير ذلك تمامًا.
فالتواجد العسكري الروسي في سوريا يحقق نقلة استراتيجية لروسيا في خطواتها نحو
استعادة مجد الاتحاد السوفيتي القديم، الذي أعقب انهياره تقليص ميزانية الدفاع
الروسية من 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 4.5 في المئة.
ولكن بوصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أطلق إصلاحات واسعة النطاق لتعزيز قدرات
الجيش الروسي من ضمنها مشروع تحديث الجيش والأسلحة وزيادة العتاد الحربي والذي تبلغ
تكلفته نحو 283 مليار دولار، كما عدلت روسيا العقيدة العسكرية لسلاح البحرية، وباتت
تضع مواجهة تمدد الحلف الأطلسي كأولوية، وهو ما يدفعها إلى الحفاظ على وجود دائم
لأساطيلها في المحيط الأطلسي والبحر المتوسط حيث تشكل مدينتي طرطوس واللاذقية
السوريتين المنفذ الوحيد لها. بهذا المعنى يبدو التوسع العسكري في سوريا في سياق
توسع أكبر لروسيا يشمل تأسيس قواعد عسكرية في عدة بلدان منها فيتنام وكوبا وفنزويلا
ونيكاراغوا وجزر سيشيل وسنغافورا وبيلاروسيا، فالتواجد الروسي في سوريا يتيح لها
ذلك الطموح.
وفي نفس الوقت تتخذ روسيا من تواجدها في سوريا ورقة للضغط على تركيا، لكي توقف
تمددها في دول الجوار الروسي سواء في شمال القوقاز وجنوبه أو في جمهوريات آسيا
الوسطى.
أمريكا ولغز سوريا
منذ أربعة أعوام لخص وزير الخارجية الأمريكي ريكس تليرسون في كلمة له ألقاها في
معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية يوضح فيها أن الوجود أمريكي في شرقي
سوريا إلى أجل غير مسمى سيكون لمواجهة النفوذ الايراني ومنعها من إقامة ممرها البري
الذي يربط بين إيران ولبنان، ومنع عودة ظهور تنظيمات متطرفة مثل الدولة الإسلامية
والقاعدة، وأخيرًا الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تنهي حكم عائلة الاسد.
ولذلك سعت الولايات المتحدة لإقامة قاعدتين عسكريتين في سوريا، واحدة في مطار
الطبقة العسكري بالقرب من سد الفرات والاخرى في منطقة التنف على المعبر الحدودي بين
العراق وسوريا.
وكان دعم المجموعات الكردية المسلحة هي الأداة الثانية في استراتيجيتها داخل سوريا.
ومن هنا كان التعارض الاستراتيجي التركي الأمريكي،
فتركيا تخشى من الاستقلال الكردي الذي قد يمتد إلى الانفصال وإعلان دولة، وفي الوقت
نفسه فإنه على ما يبدو فإن الهدف المخفي الأمريكي من دعم الأكراد هو لجم طموحات
الصعود التركي إقليميًا وعالميًا.
ولكن جاءت حرب أوكرانيا لتغير البيئة الدولية في صالح تركيا ...كيف ذلك؟
ملخص الحرب أن أمريكا تحاول قصقصة أجنحة التمدد الروسي عالميًا، وروسيا تقاوم هذه
العملية، وبعدها تدخل الأتراك سواء بموقعهم الجغرافي الحيوي ودعمهم العسكري
لأوكرانيا بينما لم يتجاوبوا مع سياسة مقاطعة الروس مثل بقية دول حلف الناتو.
هنا احتاج الغريمان الروسي والأمريكي لتركيا، وحينها يحاول الأتراك فرض أجندتهم على
الطرفين، وشعروا بأنه بات الوقت مناسبًا لإنهاء الدور الكردي في سوريا إلى الأبد.