• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اتفاقية سايكس بيكو ومشروع الأمة الغائب

اتفاقية سايكس بيكو ومشروع الأمة الغائب


لم تكن "سايكس بيكو" مجرد اتفاق سياسي يقوم من خلاله المستعمر الأوروبي بتقاسم تركة الطرف المهزوم كما هو مشاع منذ 100 عام، بل كانت معادلة جديدة يتم فيها بداية إنشاء مشروع جديد يلغي حقبة من الزمن كانت الحضارة الإسلامية فيها تسود العالم وتقوده. الاتفاقية التي تم تأريخ ظهورها إلى العلن في السادس عشر من مايو لعام 1916م، كانت عبارة عن تفاهمات سرية بين فرنسا وبريطانيا بموافقة روسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة. تم التوصل للاتفاقية على وقع الحرب العالمية الأولى، بين نوفمبر عام 1915 ومايو عام 1916م من خلال مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، ومع انتهاء عهد القياصرة الروس وبروز الثورة الشيوعية كشفت روسيا عن الاتفاقية.

تم تطوير التفاهم الفرنسي البريطاني على تقاسم الهلال الخصيب إلى اتفاق "كامبيون - غراي" في مراسلات بين سفير فرنسا في لندن بول كامبون ووزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي، وانضمت إلى الاتفاق روسيا وإيطاليا. قال سايكس إنه يريد أن "يرسم خطاً يبدأ بـ (ألف) عكا وينتهي بآخر (كاف) من كركوك"، كما يروي الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه "خط في الرمال".

كانت الغاية الأساسية لتوقيع الاتفاقية بين كبار المستعمرين في تلك الفترة أن يتم تفتيت منطقة الشرق الأوسط، كونها الحاضنة الأساسية للمشروع الإسلامي الكبير، والقضاء على وحدة الإرث الثقافي والفكري والديني، ولم يكن الهدف الاقتصادي ذا أهمية أكبر مما ذكر سابقاً، فقد احتضنت تلك المنطقة ومنذ قرون جميع المقدسات الدينية لجميع الديانات السماوية، وكانت وما تزال منذ الأزل هدفاً للحملات الاستعمارية والصليبية بكافة أنواعها، ولم تشهد منطقة في العالم بأسره اعتداءً عليها كما شهدت تلك المنطقة. سعت سياسة "فرق تسد" التي اتبعتها إنجلترا في تلك الفترة إلى تفتيت تلك المنطقة مستثمرة بدقة عالية التوزيع القبلي والطائفي والعرقي الذي لعب دوراً كبيراً في إنجاح المشروع الاستعماري الصليبي الذي جاء بمسحة حضارية وثقافية أكثر منها سياسية وأمنية. بموجب الاتفاقية حصل الفرنسيون على سوريا ولبنان وحصلت إنجلترا على شبه الجزيرة العربية. وكان دهاء المستعمر أنه وضع أساساً إدارية وسياسية لترسيم وتأصيل التقسيم الحاصل ولم يكن ليخطئ هذه المرة بأن يترك المنطقة متماسكة ثقافياً ودينياً واقتصادياً، فقد نصت الاتفاقية على مساعدة "أي دولة عربية تريد الاستقلال أو تقوم على أسس كنفدرالية". ولونت مناطق الوصاية المباشرة بالأزرق في الشمال لفرنسا (لبنان وكيليكيا) وبالأحمر في الجنوب لبريطانيا (الكويت وجنوب بلاد الرافدين مع جيب في حيفا من أجل مشروع لسكك الحديد يبدأ ببغداد). ولونت بالبني منطقة تم تدويلها هي فلسطين.

الشريف حسين وخديعة العرب:

عقب الإعلان الروسي عن الاتفاقية برز دور العرب في إنجاح المخطط البريطاني الفرنسي الذي كان هدفه طرد الدولة العثمانية من منطقة الهلال الخصيب وإبعادها عن أهم الممرات المائية في العالم، فعقب قيام البلاشفة الروس بنشر وثائق وزارة خارجية بلادهم في مدينة بتروغراد، والتي أرسلوها للأتراك العثمانيين، الذين بدورهم نشروها، وأوصلوها للشريف حسين قائد "الثورة العربية"، تكشَّف لشريف مكة آنذاك الخداع الذي تعرض له على يد الضابط البريطاني بيتر إدوارد لورنس المعروف باسم لورنس العرب الذي كلف بتأجيج الثورة العربية ضد العثمانيين التي بدأت في يونيو 1916. وبقي تقاسم الأراضي هذا نظرياً إذ إن القوات العثمانية كانت ما تزال موجودة في المناطق المعنية. ورغم محاولات الصلح التي تمت على يد جمال باشا، قائد البحرية العثمانية وحاكم بلاد الشام إلا أن الشريف حسين قد ركن إلى مراسلاته مع ممثل حكومة بريطانيا العظمى السير مكماهون، الذي بدوره واصل خداع الشريف حسين حتى بدأت فرنسا باحتلال ساحل بلاد الشام منذ عام 1918. كانت آمال الشريف حسين كبيرة بأن تفي بريطانيا بوعدها الذي قطعته له بأن تنصبه ملكاً على الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام، إلا أن مؤتمر فرساي عام 1919م الذي عقده الحلفاء لتقاسم الغنائم كانت قاسمة الظهر بالنسبة له. في معركة ميسلون عام 1920 طرد الفرنسيون الملك فيصل بن الشريف حسين من دمشق، ونصبه البريطانيون ملكاً على العراق، بينما أنشئت إمارة شرق الأردن لترضية شقيقه الأصغر الملك عبد الله، فقد تعرض الشريف حسين للخيانة من قبل أبنائه قبل حلفائه البريطانيين حتى أنه وصفهم بـ "بالأفاعي".

المشروع الصهيوني في فلسطين:

قسمت الاتفاقية بين فرنسا وإنجلترا على أن يتم تسليم فلسطين لإدارة دولية نظراً لمكانتها الدينية، لكن عقب تغير المعطيات بفعل الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة الحرب، يقول المؤرخ الفرنسي هنري لوران في محاضرة قدمها في جمعية توسيديد: "أرادت بريطانيا نقض الاتفاق وحركت حجارتها على الرقعة، وحصلت على تعاطف الحركة الصهيونية مع إطلاقها الوعد بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، في إعلان آرثر بلفور في 2 نوفمبر 1917.

احتلت بريطانيا بموافقة المفوض السامي الفرنسي على فلسطين وسوريا فرنسوا جورج بيكو، القدس على يد الجنرال أدموند اللنبي في 11 ديسمبر 1917، والذي خطب في القدس قائلا: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

وما إن انتهت الحرب حتى قام رئيسا الحكومتين الفرنسية والبريطانية بتعديل اتفاق سايكس بيكو بينما بدأت تبرز أهمية النفط في المنطقة. وفي أبريل 1920، أقر مؤتمر سان ريمو الانتداب البريطاني على (فلسطين والضفة الشرقية لنهر الأردن والعراق) وفرنسا (سوريا ولبنان). وفي 1921 تخلت فرنسا عن كيليكيا ثم في 1939 عن لواء إسكندرون. وعقب نجاح الاستعمار في القضاء على الثورات العربية في فلسطين وسوريا والعراق، صادقت عصبة الأمم عام 1922 على وضع هذه المناطق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

أتاتورك وتركيا الجديدة:

عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، عرض الحلفاء في أغسطس عام 1920 على الأتراك التوقيع على اتفاقية "سيفر" التي رفضتها الحركة القومية التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك الذي أكمل بدوره الإجهاز على الخلافة العثمانية لصالح تركيا علمانية قومية بدأ يحكمها عام 1923. واعتبر أتاتورك الاتفاقية اجحافاً بحق الدولة التركية التي تخلت عن كثير من الأراضي الشاسعة بفعل الهزيمة، ونصت الاتفاقية على منح تراقيا والجزر التركية الواقعة في بحر إيجه لليونان، والاعتراف بالانتداب البريطاني في الشام والعراق واستقلال شبه الجزيرة العربية وأرمينيا، بالإضافة إلى اعتبار مضائق البسفور والدردنيل مناطق مجردة من السلاح وتحت إدارة عصبة الأمم. كما نصت الاتفاقية على حصول كردستان على الاستقلال. ومع رفض تركيا لتلك المعاهدة وسعيها لطرد اليونانيين من آسيا الصغرى عقدت معاهدة لوزان عام 1923 التي تجاهلت منح الأكراد الاستقلال.

تمكن أتاتورك من جمع شتات الجيش العثماني وبدأ بصد الهجمات الفرنسية في جنوب البلاد واليونانية في غربها، وتمكن من تحقيق انتصارات كبيرة على اليونانيين عند مدينة أزمير عام 1920م، وقد أرخ الشاعر المصري أحمد شوقي تلك الانتصارات بقوله:

الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب

رغم أن تركيا كانت في تلك الفترة تخوض صراعاً عميقاً في تلك الفترة بين إرث الخلافة العثمانية المتبقي وحركة التحرر العلماني التي كان يقودها أتاتورك إلا أنها نجحت في الحد من خسائرها إثر الهجمات الفرنسية والبريطانية واليونانية المتواصلة على أرضيها. وقد خلد التاريخ التركي معركة جاليبولي التي حاول خلالها تحالف يضم (بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا، فرنسا) عام 1915 احتلال العاصمة العثمانية إسطنبول، لكن المحاولة باءت بالفشل وقتل ما قُدّر عدده بحوالي 55 ألف جندي من قوات التحالف وحوالي 90 ألف جندي عثماني ومئات الآلاف من الجرحى من الطرفين.

استطاع أتاتورك أن يفشل معاهدة سيفر، وعقد اتفاقية لوزان عام 1923م التي أعادت لتركيا وحدتها، وانسحب الفرنسيون من محافظات أضنة ومرسين، وفي وقت لاحق من الإسكندرونة، ولم تعد إسطنبول مدينة تحت الإدارة الدولية، أما العرب فقد استسلموا لمستعمريهم وانتهت حقبة الأمة الإسلامية الواحدة ليحول المستعمر تلك الأمة إلى كانتونات صغيرة يحكمها مجموعة من مناديب المستعمر البريطاني والفرنسي، وينهب خيارات تلك الأمة ويقسمها إلى طوائف وأعراق وقبائل تحتكم لمصالح المستعمر قبل كل شيء.

نهاية سايكس بيكو وبداية الشرق الأوسط الجديد:

في العقود الأخيرة شهدت الأمة مشاريع تحررية انطوت على نكسات كبيرة للمستعمر الغربي، كان أبرزها انتصارات كتيبة المجاهدين في البوسنة والتي خلفت بعد ذلك اتفاق "دايتون" الشهير، والمعارك التي أسقطت الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وكذلك المقاومة الإسلامية في فلسطين والعراق، وغيرها من المشاريع التي ساهمت بشكل كبير في صياغة مشروع مواجهة مع الغرب يتبنى فكرة التحرر الإسلامي وليس القومي أو الشيوعي أو تلك الشعارات التي جثمت على صدر هذه الأمة عقوداً. ونظراً لأهمية المنطقة الجغرافية والاقتصادية وكونها الحاضنة الدينية لأي مشروع إسلامي جديد يعقب الخلافة العثمانية، يسعى الغرب وخصوصاً عقب حرب أكتوبر عام 1973 التي شكلت أولى انتصارات المسلمين على المشروع الصهيوني، إلى بلورة صياغة جديدة للصراع تختلف عن الأسلوب القديم الذي يعتمد على الاستعمار العسكري المباشر للأراضي العربية والإسلامية.

فمنذ احتلال العراق وسقوط بغداد عام 2003 بدأت مرحلة إسقاط الدولة، وفي ليبيا عام 2011 ثم سوريا بعد ذلك، وبغض النظر عن اختلاف الأساليب فإن الغاية والهدف كان واضحاً، فقد صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة لصحيفة "واشنطن بوست" عام 2005، بأن الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط، في سبيل إشاعة الديمقراطية، سواء من خلال الحروب المدمرة التي شنها حلف الناتو "الستار العسكري للجيوش الصليبية" أو العمليات الاستخبارية التي كان أبرزها نموذج "داعش" فقد دمرت الحدود بين الدول وأسقطت هيبة الدول لصالح المشروع الأمريكي الجديد في المنطقة.

قال مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه في كلمة له خلال مؤتمر نظمته جامعة جورج واشنطن: "إن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة... سوريا مقسمة والنظام لا يسيطر إلا على ثلث مساحة البلاد... وتنظيم "داعش" يسيطر على المنطقة الوسطى... الأمر نفسه ينطبق على العراق... لا أعتقد أن هناك إمكانية للعودة إلى الوضع السابق". وأعرب باجوليه عن "ثقته" في أن "المنطقة ستستقر مجدداً في المستقبل لكنها ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية".

وزكى هذه النظرة نظيره الأمريكي جون برينان الذي قال: "عندما أنظر إلى الدمار في سوريا وليبيا والعراق واليمن يصعب علي أن أتخيل وجود حكومات مركزية في هذه الدول قادرة على ممارسة سيطرة أو سلطة على الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية... الحل العسكري مستحيل في أيٍّ من هذه الدول".

يقول الرئيس الصهيوني السابق شمعون بيريز: "لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن". تعقيباً على ذلك يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: هذه هي الرؤية التي طرحها برنارد لويس منذ السبعينيات وتبناها المحافظون الجدد، وتدور السياسة الأميركية في إطارها، تجسيد لواقع التطبيع التي تعيشه الدول العربية التي نجت من استهداف الفوضى لها، فإن الولايات المتحدة بعد أن ذاقت مرارة الفشل في العراق وأفغانستان قررت أن تعهد للكيان الصهيوني بتنفيذ مخططها الاستعماري بحيث تقوم بتدمير وتفكيك ما تبقى من أشباه الدول.

وفي مقال بعنوان "الولايات المتحدة متواطئة مع إسرائيل في تحطيم لبنان" يقول المعلق الأمريكي بول كريغ روبرتس: إن ما نشاهده في الشرق الأوسط هو تحقق خطة المحافظين الجدد في تحطيم أي أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أي معارضة للأجندة الصهيونية.

وهذا التصور للشرق الأوسط ينطلق من تصور أن التاريخ متوقف تماماً في هذه المنطقة، وأن الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعاً أعمى للولايات المتحدة.

المخطط الأمريكي عزز تأكيده ما طرحه رالف بيترز، وهو ضابط متقاعد يحمل رتبة مقدم، وضع مخططاً لإعادة تقسيم الشرق الأوسط في مقال نشر بمجلة القوات المسلحة الأمريكية في عدد يونيو 2006.

وينطلق بيترز مما يسميه الظلم الفادح الذي لحق بالأقليات حين تم تقسيم الشرق الأوسط من خلال (اتفاقية سايكس بيكو) مشيراً إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول" ويذكر أهمها: الأكراد، والشيعة العرب. ويشير إلى الأقليات مثل نصارى الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين. ويرى بيترز أن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها بعضاً، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقاً من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات.

ويختتم الرجل مخططه بقوله "سيستمر جنودنا، رجالاً ونساء، في الحرب من أجل الأمن والسلام ضد الإرهاب، من أجل فرصة نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها".

أعلى