ظهرت البصمات الأمريكية بصفة خاصة والغربية بصفة عامة في المشهد السوري منذ اليوم الأول لاشتعال ثورة الشعب في 15 مارس 2011م، حيث دعمت أمريكا وبجانبها أوروبا قوات معارضة للنظام السوري ومتوافقة مع الغرب، في حين دعمت روسيا وإيران قوات نظام الأسد، ووقف الصين بجانب روسيا، بمعنى أن العالم انقسم إلى فسطاطين حيال الثورة السورية، أحدهما داعم والآخر معارض، ومن هنا تحولت سوريا إلى جبهة قتال للأطراف الدولية.
وتحتل سوريا أهمية خاصة في الاستراتيجية الأمريكية، وذلك انطلاقاً من عدة اعتبارات، أولاً أن سوريا تشكل دولة جوار بالنسبة لدولة الاحتلال الصهيوني، وهي امتداد طبيعي للأمن القومي الصهيوني، وثانياً: ترتبط سوريا بعلاقة عداء مستفحل مع دولة الاحتلال منذ احتلال هضبة الجولان في حرب حزيران/يونيو 1967 هذا على الرغم من أن سوريا لم ترد على أي من خروقات الاحتلال ولم تحاول استعادة أراضيها بالمطلق، وثالثا: أن سوريا هي موطأ القدم الأخير بالنسبة لروسيا، وهو ما يعني أن المنافسة بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي على أشدها، ورابعاً: ان سوريا محطة انتشار للقوات الإيرانية ومركزاً للتغلغل الإيراني في المشق العربي وخاصة فلسطين ولبنان وشمال افريقيا، وخامساً: أن سوريا واحدة من الدول المُراد تقسيمها وفق مجموعة الرؤى الأمريكية والغربية الساعية إلى تفتيت الوطن العربي وتجزيئه على قاعدة "تقسيم المقسم وتجزيء المجزَّأ".
وعلى الرغم من تدخل كثير من الدول في الشأن السوري وتقديم الدعم اللوجستي لكثير من الجماعات المسلحة سراً وعلانيةً؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأكثر تدخلاً في الشأن السوري، وهي الدولة الأكثر دعماً للجماعات المسلحة على الساحة السورية، وذلك انطلاقاً من الأسباب المذكورة آنفاً، وبحماية الدستور الأمريكي الذي يسمح بتكوين ودعم الميليشيات المسلحة. حيث ينص الجزء الثامن من المادة الأولى من الدستور الأمريكي، والمعني بمهمات الكونجرس الأمريكي، إنه من حق الكونجرس الدعوة إلى تنظيم ميليشيا لتنفيذ قوانين الاتحاد، وقمع التمرد وصد الغزو. أما الجزء الثاني من المادة الثانية من الدستور الأمريكي، فيذكر بأن رئيس الولايات المتحدة هو القائد الأعلى للجيش والبحرية الأمريكية، وكل ميليشيا خاصة بالولايات الأمريكية. هذا في حين يحدد الكونجرس إجراءاتٍ تنظم وعمليات تسليح وتدريب ودعم المليشيات، وإدارة أقسامها التي قد تكون عاملة في خدمة الولايات المتحدة أو للأخيرة مصلحة في دعمها.
للولايات المتحدة الأمريكية تجربةً فريدة من نوعها في تكوين الميليشيات والجماعات المسلحة، حيث قدمت الدعم المادي للجماعات المسلحة الإسلامية خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان 1979 – 1989م، وزوَّدت المجاهدين الأفغان بصواريخ "ستينجر"، التي سمحت لهم باستهداف المروحيات السوفييتية. وقدمت الولايات المتحدة الدعم لميليشيات حزب العمال الكردستاني المتواجد على الحدود التركية العراقية منذ تسعينات القرن الماضي. وبعد منتصف العام الماضي؛ دعمت الولايات المتحدة تشكيل قوات "البيشمركة" التابعة لإقليم كردستان، من أجل الدفاع عن نفسها في مواجهة داعش.
أما ما يتعلق بالمعارضة السورية المسلحة أو الجماعات السورية المسلحة؛ فلا تدخر الإدارة الأمريكية جهداً في تدريبها وتطويرها وتحسين أوضاعها العسكرية والمالية بما لا ينعكس سلباً على الأمن القومي للاحتلال الصهيوني، حيث أعلن وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، مطلع شهر مايو من العام الجاري ، البدء في تدريب المعارضة السورية " المعتدلة"، على أن يتم تدريب من 500 إلى 600 مقاتل سوري، يتم اختيارهم من جماعات تتمركز في الشمال السوري، وذلك بدعوى أن تلك التدريبات ستكون لمواجهة تنظيم داعش، وليس من أجل إسقاط نظام بشار الأسد.
وأشارت تقارير إعلامية في مطلع العام الجاري إلى أن الأسلحة الأمريكية قد وصلت لمن تسميهم واشنطن بـالمعارضة المعتدلة، لكن جبهة النصرة تمكنت من السيطرة على مستودعات حركة حزم التابعة للجيش السوري الحر المدعوم من واشنطن، في المناطق الشمالية من سوريا، وهو ما يعني أن التنظيم الذي تصفه القرارات الدولية بالتنظيم الإرهابي بات مسلحاً أمريكياً.
وسبق أن صرَّح مسؤولون أمريكيون بأن وكالة المخابرات المركزية (CIA) تقوم بتوسيع جهود سرية لتدريب مقاتلي المعارضة في سوريا، حيث أرسلت فرق شبه عسكرية إضافية إلى قواعد سرية في الأردن في أواخر أكتوبر 2013م، لمضاعفة عدد "المقاتلين المتمردين" الذين يحصلون على تعليمات وأسلحة من الوكالة قبل أن يتم إرسالها مرة أخرى إلى سوريا. ويضيف المسؤولون الأمريكيون أن مهمة الـ (CIA) هي رغبة من البيت الأبيض للتوصل إلى تسوية سياسية وهو سيناريو جديد يعتمد على تسوية الوضع بين الفصائل المقاتلة بدلا من ظهور منتصر واحد، ونتيجة لذلك على الوكالة توفير الدعم اللازم للمعارضة المسلحة المعتدلة لمنع خسارتهم على أرض المعركة. وتشير التقارير أيضاً أن مسؤولين أمريكيين أفادوا بأن الوكالة دربت قرابة ألف مقاتل في عام 2013م، في حين قال مسئولون بأنها دربت أكثر من 20 ألف مقاتل.
وفي سياق ذي صلة؛ ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" مطلع الشهر الجاري أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمر باستخدام القوة الجوية للدفاع عن قوات المعارضة السورية التي تدعمها بلاده، في حال تعرضها للهجوم من قوات النظام السوري، أو أي مجموعات مقاتلة أخرى، وهو ما يزيد من خطر حصول صراع مباشر بين قوات الجيش الأمريكي وجبهة النصرة ونظام الأسد، وذلك بعد إقدام "جبهة النصرة" على اختطاف خمسة مقاتلين كانوا قد تلقوا تدريبات في إطار التدريب الأمريكي للمعارضة في شمال غرب سوريا، بعد أقل من أسبوع على خطف ثمانية مقاتلين آخرين، تساؤلات عدة حول مدى قدرة واشنطن على حماية هؤلاء الجنود.
ولعل هذا الدعم يحمل في جنباته كثيراً من الأهداف الأمريكية المبطنة، حيث تحاول الولايات المتحدة إشغال الفصائل أو الجماعات المسلحة بالاقتتال الداخلي كما حدث في غزة بعد انسحاب الاحتلال الصهيوني منها أواخر عام 2005م، أو في العراق أثناء وبعد انتهاء الحرب الأمريكية عليها. هذا فضلاً عن محاولة الولايات المتحدة شراء ذمم قادة الجماعات المسلحة وتقديم دولة الاحتلال على أنها دولة إنسانية، وبالتالي تستطيع التحكم فيها كيفما تشاء، خاصة في ضوء قيام دولة الاحتلال على تقديم العلاج في مستشفياتها لمقاتلي بعض الجماعات السورية. وهذا يصبُّ في خانة بقاء الجولان خاضعة للاحتلال الصهيوني، حتى لو تطلب الأمر توقيع أو تنازل من الجماعات المسلحة عن الجولان.
ولا يمكن إغفال مسألة محاولة ضرب مكونات المجتمع السوري ببعضها وإشغالها عن مقارعة دولة الاحتلال لفترة من الزمن قبل سقوط نظام الأسد، خاصة وأنها لم تدعُ نظام الأسد إلى الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وظلَّت صامتة على انتهاكه لحقوق الإنسان واستخدام الكيماوي في ضرب المدن السورية.