لماذا يتخلى العالم عن إدلب السورية؟
لا تزال المأساة السورية تفجعنا كل يوم بأرقام وإحصائيات صادمة عن ضحاياها، حتى أصبحت تصنف ضمن أكبر الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث. لكن ثمة بقعة منكوبة في سوريا، تقع الآن فريسة لصراع لا ينتهي بين أطراف لا تفهم سوى لغة الموت والتدمير، واضعين أهلها في خيار صعب بين الموت أو النزوح أو حياة صعبة تشبههما، إنها "إدلب" المنسية، التي تواجه كل يوم جرائم ضد الإنسانية تفوق ما واجهتها نظيراتها السوريات، وتتفاقم مأساتها حين ينشغل العالم عنها بـ"كورونا" وصفقة القرن وتبعات نجاة ترامب من العزل وبريكسيت وغيرها من القضايا الدولية.
منذ شهرين تقريبًا؛ تنبري قوات نظام بشار الأسد ومعها القوات الروسية في قصف المحافظة التي تقع في الشمال الغربي من سوريا، والتي تعدّ المعقل الأخير لفصائل المعارضة، يسمي النظام هجومه على إدلب بـ "المعركة الحاسمة الكبرى"، خاصةً بعد أن تقدمت قواته واستحوذت على العديد من المدن والبلدات، وكانت أهمها مدينة معرة النعمان الرئيسية التي تعرضت لقصف شديد وتم إخلائها من سكانها بالكامل. المخزي في تقدم قوات الأسد المدعومة من سلاح الجو الروسي، أنها تبدأ بتدمير البنية التحتية لكل مدينة تدخلها، حيث يتم استهداف المستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء، يجاهر النظام بأنه يريد القضاء على هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقًا، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة، لكنه في الإطار يتبع سياسة الأرض المحروقة، حيث يدمر كل شئ، إذ لا تميز قوات النظام السوري والروس في هجماتهما بين المدنيين والمسلحين، فطبقًا لمعطيات المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا "جيمس جيفري" فإن "جيش النظام وسلاح الجو الروسي وجها في الأيام الماضية أكثر من 200 ضربة جوية ضد السكان المدنيين في إدلب، والرقم في تزايد مستمر"، فالهجوم الحالي لإعادة السيطرة على إدلب قتل المئات ونزح بسببه الآلاف، لكن هذه الدماء لا تكاد تؤثر في الأخبار العالمية، وهنا يخشى السوريون من أن يصبح ما يعيشونه مُجرّد أزمة ضمن قائمة طويلة من الأزمات العالمية التي لا نهاية لها.
"يبدو أن العالم قد سئم من الحرب الدائرة منذ فترة طويلة، واستسلم للنزاع المتجمد، مع إقرار وقف إطلاق النار على مستوى البلاد باعتباره أفضل سيناريو يمكن تحقيقه" هذا ما قاله "هيكو ويمن"، مدير مشروع العراق وسوريا ولبنان في مجموعة الأزمات الدولية، تعقيبًا على الثورة السورية المسالمة التي قوبلت بقمع وحشي وعنيف، فتحولت إلى نزاع مُسلح، ثم سرعان ما تحول، في نهاية المطاف، إلى حرب بالوكالة بين قوى كبرى وإقليمية، إذ ثمة تصعيد عسكري جديد في الميدان السوري، وهو مستمر منذ أسابيع في إدلب، بين القوات التركية وقوات النظام السوري، ويُخشَى أن يؤدي هذا التصعيد بين أنقرة ودمشق إلى تدهور أكبر للوضع المضطرب في إدلب، فتركيا أرسلت تعزيزات عسكرية ضخمة من مئات الآليات والجنود إلى شمال غربي سوريا، وانتشرت القوات التركية في نقاط عدة، أبرزها مطار تفتناز، هذا التصعيد الأخير يكتب شهادة وفاة فعلية للإتفاق الذي كانت قد وقعته تركيا وروسيا لتخفيف التوتر في إدلب، في عام 2017م، وبدأ سريانه العام الماضي، فقد اتفق الجانبان حينها على خروج دوريات مشتركة لمراقبة الوضع في المنطقة، ومنع وقوع أي اشتباكات بين مسلحي المعارضة وقوات النظام.
لكن بأي حال فإن كل الاتفاقيات التي تحدثت عن وقف إطلاق النار في إدلب، أو حتى غيرها، قد باءت بالفشل، وكل المحادثات السياسية لم تسفر سوى عن صور تذكارية وبيانات ختامية تحدد موعدًا لاحقًا لمفاوضات جديدة لا تنتهي، حتى مجموعة "أصدقاء الشعب السوري" التي تأسست لنجدة أهل سوريا وإعمارها وكانت تضم أبرز الدول الإقليمية والغربية، تبخرت منذ عامين. والمؤسف في كل ذلك أن المعارضة، سواء سياسية أو عسكرية، قد فشلت فشلًا ذريعًا في مضاهة النظام لأسبابٍ عديدة جعلتها غير قادرة على المواجهة. فالمعارضة السورية السياسية، فقيرة الخبرات وعديمة التنظيم، قامت بإعادة تدوير وإنتاج نفسها عشرات المرات خلال سنوات قليلة، والأسوأ أنها قد ربطت نفسها بالدول وليس بالقاعدة الشعبية السورية، وبالتالي منذ اللحظة الأولى أصبحت المرجعية السياسية ترتكز على الدول لا على القوى الثورية السياسية والعسكرية. أما المعارضة العسكرية فقد رسخت المشهد الذي رسخه حافظ وبشار الأسد من بعده في نمط القيادة، وهى الأخرى استمدت المشروعية من الدول التي تربطها مصالح وأجندات في سوريا، مما جعل ولائها لتلك الدول قبل المصلحة السورية، كما جرى تهمييش شخصيات عسكرية كان لها دور في صناعة صورة الثورة السورية منذ بدايتها، مثل رياض الأسعد، مؤسس الجيش الحر، وبينما انشغلت بعض الفصائل بتأسيس مجالس من أجل جلب المال من الدول الصديقة، تحولت بعض هذه الجماعات المسلحة إلى تجمعات مشبوهة، وتغلغلت القاعدة في أوساطها، وأصبح العمل في المعارضة تهمة، وليس شرفًا.
لا يذكر الساسة الغربيون مأساة إدلب إلا في عبارات الشجب والقلق والاستنكار، فإدارة ترامب تمخضت، وبعد غياب عن الحديث عن ما يحدث في سوريا، أعلنت أنها "تدين بأشد العبارات نظام الأسد وإيران وحزب الله والهجوم العسكري الوحشي وغير المبرر لروسيا"، فرنسا دعت إلى "إسكات الأسلحة في إدلب"، على حد تعبير السفير الفرنسي "نيكولا دي ريفيير" في مجلس الأمن، الذي لم يوضح كيف يمكن تطبيق هذا الإسكات، أما نظيراه البلجيكي "مارك بودتسورف" والألماني "كريستوف هويسغن" فقد قالوا أن "إدلب تصبح أكثر فأكثر مرادفًا لمجزرة"، في حين صرحت نظيرتهم البريطانية "كارين بيرس" قائلة: "أعتقد أن أسوأ كابوس يحدث حاليًا في إدلب"، وعلى هذا المنوال تتشابه عبارات القلق والاستنكار، التي لا تهدد معتدي للرجوع عن أفعاله ولا تتوعد قاتلًا بالمحاسبة على الدماء التي يريقها. ربما لم يدر بخلد المواطن السوري البسيط أنه قد يعيش أيامًا نحسات كهذه، سيشتاق فيها لما كان يسخر منه ذات يوم، فتصبح لغة الضغط لوقف الظلم عملة نادرة، ويصبح الامتعاض والغضب من أجل حماية المدنيين الأبرياء من المحال، لقد قُلّ الشجب على كثيرين رغم خفته، واكتفت القوى الكبرى ببيانات استنكار وإعلانات قلق، وكأنها تبرئ ذمتها حيال الشعب السوري الذي يُباد.
بعد أيام قليلة ستحل الذكرى التاسعة للثورة في سوريا؛ وقد بات واضحًا أن نظام الأسد هو المنتصر عسكريًا، وما ينقصه فقط هو بسط الهيمنة على كامل الأرض السورية، والتي لن تحدث سوى بالسيطرة على إدلب، ربما يخرج الأسد منتصرًا وتعود سوريا معه إلى المربع الأول من جديد، فبعد 9 سنوات من الحرب المستعرة، لابد من إعادة التفكير جديًا في صناعة جيل جديد بوجوه أخرى من المعارضة السورية الواعية في الداخل والخارج، لابد من تغيير سبل التفاوض ورهانات العمل العسكري، ربما لن يكون التغيير سريعًا والوصول إلى هذا الأمر صعبًا، لكن يبقى الخيار البديل لكل ذلك هو أن تقبع سوريا للأبد تحت حكم الأسد وحلفاءه، وهو ما على وشك الحدوث للأسف الشديد.