لم تسمع صوت حركاته الهادئة التي اعتادت عليها مذ أن كان طالباً في كلية الطب، ولم
ينقطع عنها ليلة مَّا. إنه ابنها الوحيد، وسندها في الحياة بعد أن أفقدها المرض
الخبيث زوجها.
تذكرت ليلةَ قالت له مشفقة: يا بني! أراك تُجهِد نفسك كثيراً؛ فأنت قضيت جُلَّ
ليلتك في طلب العلم ولم تنم سوى ساعة واحدة.
قَّبَل يدها قائلاً: يا أمي! قيام الليل شرف المؤمن.
قالت في نفسها: علَّّ النوم غلبه فأضاع عليه ثواب التهجد. راحت تطرق الباب برفق
لإيقاظه كي يدرك جماعة صلاة الصبح التي بدأت، لكنها لم تسمع صوتاً يجيب طرقاتها!
ولجت داخل الغرفة واستدارت لتضغط على زر المصباح وهي تنادي بصوت رقيق: اصح يا أحمد!
لكن لا مجيب! التفتت إلى سريره فلم تجده ووجدت ورقة مطوية تركها على وسادته. أخذتها
بشغف وشرعت في قراءتها بلهفة واضطراب.
سطَّر أحمد قائلاً: أمي الحبيبة! غادرتُ إلى المسجد مبكراً وسوف أنتظر الشروق، ثم
أنطلق إلى ميدان الحرية الذي تخلَّفْت عنه ثلاثة الأيام الماضية؛ ليس حرصاً منِّي
على حياة، بل إشفاقاً منِّي عليك. أمي الحبيبة! أسمع بكاء قلبك فينفطر قلبي، وأرى
دمعة عينك فينهمر دمعي، وأشعر بلهفتك إليَّ وخوفك عليَّ، ولهفي إليك أشدُّ وخوفي
عليك يمزق قلبي؛ لكنها الحرية والكرامة يا أمي! لم أنس كلامك الذي نقشتِه في عقلي
وحواه صدري: لا تعش عيشة الجبناء؛ بل عش عيشة الشجعان. وأرى الشجاعة الحقيقية - يا
أمي - هناك في الميدان. لم أنس - يا أمي - سرد أبي غزوة بدر على مسامعي وأنا طفل
صغير. لم أنس كلماته الواثقة المطمئنة التي بثها في وجداني: إن الفئة المؤمنة لا
تَغلِب بكثرة عدد أو عتاد. وإن الحق يعلو دائماً ولا يعلى عليه. لم أنس - يا أمي -
ترديد أبي: الحرية - يا بُنَي - لا توهب من ظالم مستبد؛ بل تُنتَزَع من بين يديه.
الحرية - يا بني - حق للإنسان الحر الذي خلقه الله حراً وليس عبداً لأحد سواه؛ كما
قال عمـر بن الخطاب - رضي الله عنه -: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً. لم أنس قولك - يا أمي -: عش حراً في نفسك دوماً حتى ولو كنتَ أسير
الأغلال. أعلم - يا أمي - أني أخطأت في عدم استئذانك؛ ولكن عذري أني خشيت أن
تمنَعني نظراتُك، ويحجبني أنينُك، ولو نطق لسانك أو أشارت يدك لي بالخروج. سـامحيني
يا أمي! سوف أعود إليك منتصراً بإذن الله، وإن كانت الأخرى فسأنتظرك هناك.
خفق قلبها، ودار رأسها، وزاغ بصرها، وماجت الأرض تحت قدميها، واصطدم جسدها بسريره
وأجهشت في بكاء ونحيب مستمرَّين حتى غلبتها سِنَة من نوم أفاقت منها سريعاً، وراحت
تمنِّي نفسها: مؤكد أنه سيتصل بي كي يعدَني بالعودة. أكيد شعر بعدم قدرتي على
فراقه. سأعاتبه: أطاوَعَك قلبُك - يا حبيبي - أن تخرج من دون أن أودعك، من دون أن
أملأ عيني بصورتك وأُحكِم عليها جفوني، من دون أن أملأ صدري بعبيرك؟ لا لن أعاتبه؛
فهو رقيق المشاعر، مرهَف الحس ستخنقه عبارات الاعتذار، وأنا أخشى عليه.
أخرجها صوت الهاتف من حوارها فانطلقت نحوه كسهم راعٍ غادر قوسه متجهاً نحو ذئب يريد
افتراس شاة قاصية. وقفت أمام الهاتف لتلتقط أنفاسها اللاهثة، وتنتظم ضربات قلبها
المضطربة؛ خوفاً أن تعكس نبرات صوتها ما يدل على خوفها وقلقها أو عتابها. ولكن
نبضات قلبها ازدادت، وسار في جسدها إحساس شعرت به لحظة فراق زوجها فزلزل كيانها،
وجمَّد أطرافها. لكن سرعان ما استرجعت فلهج لسانها بالدعاء والتوسل إلى الله...
التقطت سماعة الهاتف بيدٍ مرتعشةٍ قائلةً:
السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أنا عمر زميل أحمد في المستشفى.
هل أصاب أحمدَ مكروه؟
- الحمد لله على كل حال: إصابة بسيطة، وهو يريد أن يراك، وسوف آتي لاصطحابك.
قال عمر وهو يقود سيارته ماسحاً دمعةً حارة ألهبت وجنتيه: اطمئني يا خالتي! سيشفى
إن شاء الله. لقد تعاهدنا ألا نترك ساحة الميدان. أحمد كان بطلاً شجاعاً لم يعبأ
بالحجارة ولا الرصاص الحي ولالمطاطي الذي كان ينهمر على الأبطال العزَّل كالمطر.
كان همه الأول إسعاف الجرحى، ولم يبالِ بما أصابه حتى سقط فاقداً الوعي...
نظرت إليه وهو طريح الفراش لا يحرك ساكناً وقد لُفَّ رأسه بعمامة بيضاء نقية، رغم
تغير لونها بدمه الزكي.
حدقت في وجهه وقد بدا كالبدر ليلة اكتماله. انهمرت دموعها، وارتعشت شفاهها متمتمة:
حسبي الله ونعم الوكيل. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. إنَّا لله وإنَّا إليه
راجعون.