يَقْطَع باقاتٍ تلْو أخْرى بسرعةٍ، فما أنْ يضَعَها وراءَه حتى تخْتَفِي في لَمْح البَصَر، تظاهَر بصُنْع باقَةٍ ووضَعَها على صدْره، أغْمَض عَيْنَيْه كالمُسْتَسْلِم للنَّوْمِ، فامْتَدَّتْ يَدٌ كالبَرْق الخاطِف إلى الباقَة، أمْسَكَها قبل أن تُفْلِت إلى المَجْ
رَفَع عَيْنَين تَلْتَمِعان مِنْ وَجْنَة القمر، وبدأ يرسُم عليْه بنَظَراتِه المُحْتَرِقَة صُورَة تلك الفَتاة التي رآها حافِيَة القَدَمَيْن، تَرْتدي مِعْطَفًا رَثًّا لا يكاد يَسْتُر جَسَدًا صَغيرًا تَفانَى كأنَّه بَقِيَّةٌ منْ جَسَد، لمْ تُزِغْ عَيْناها عن وجْهِه المُتَوَرِّد الذي تظْهَر عليه آثار النِّعْمَة لحْظَة رُؤْيَتِه رفْقَة والدِه، وهُو يمُدّ إليها منْ زجاج باب السَّيَّارة قِطَعًا نَقْدِيَّةً تلَقَّفَتْها باشْتِياقٍ كَأنّ عَهْدَها بالنَّقْد بعيدٌ.
أخذَتْها في كفِّها الصَّغيرة المُرْتَعِشَة، اسْتَرَقَتْ نَظْرَةً خاطِفَةً إليها، ودسَّتْها في جَيْب مِعْطَفها، نَظَر إليها بإشْفَاقٍ، وهي تَتَنَحَّى إلى جانب الطريق غيْر المُعَبَّد، لتَسْمَح لسائق شاحنة مُحَمَّلَة بالرَّمل كي تمر بسلام، نظر إليها من الزُّجاج وسيارة والده الفارِهة تشُقّ فَجًّا بِتُؤَدَةٍ واتِّزانٍ، تَدوس عَجَلاتُها الكبيرة أكوام ثلوج تَجَمَّعَتْ في زوايا الطريق المُتَواريَة عن عُيُون الشَّمْس، كُلَّما تَنَحَّتْ عن حُفْرَة أو صخر هوى مِن منحدر هناك.
وَسْط حقلٍ كبير تتموج فيه سنابل خضراءُ، أخذ «يوسُفُ» يقطع سبْع سُنْبُلات خُضْر ويحزمها باقاتٍ، كُلَّما صنع واحدة التَفَت وراءَه فلا يَجِدُها؛ حيث وضعَتْها يَداهُ، لكَأَنّ الأرض كانت تَبْلَعُها في أحْشائِها...
يَقْطَع باقاتٍ تلْو أخْرى بسرعةٍ، فما أنْ يضَعَها وراءَه حتى تخْتَفِي في لَمْح البَصَر، تظاهَر بصُنْع باقَةٍ ووضَعَها على صدْره، أغْمَض عَيْنَيْه كالمُسْتَسْلِم للنَّوْمِ، فامْتَدَّتْ يَدٌ كالبَرْق الخاطِف إلى الباقَة، أمْسَكَها قبل أن تُفْلِت إلى المَجْهولِ، يَدٌ صغيرةٌ اخْشَوْشَن مَلْمَسُها اخْتَفَتْ داخل كَفِّه النَّاعِمَة، سَكَنَت اليَد في يَدِه ورفَع بَصَرَه فإذا هي الفتاة التي لقِيَهَا في الطريق الجَبَلِيِّ.
أَحْكَم قَبْضَتَه على الكَفّ الصغيرة، رغْم ما كان يجدُه من وَخْز الخشونة منها، أحسّ ارْتِعاشَها، لكنَّه لمْ يَشَأْ إِفْلاتَها، نظَرَتْ إليه بعيْنَيْن فاتِرَتَيْن، وقالتْ: اتْرُكْ يدِي، لقد آلَمْتَنِي.
يوسف: كيف أتْرُكُك وأنْت تَسْرِقين ما أصْنَعُه من حُزَمٍ؟
ردَّت الفتاة بنَبْرَةٍ حَزينة: نَعَمْ، لقدْ سرَقْت سُنبُلاتِك أيُّها الفَتى، وأَخَذْتُها إلى قَرْيَتي التي مَرَرْت منها مع والدِك.
يوسف -مُسْتَغْرِبًا-: وماذا سَتَصْنَعِين بها هُناك؟
ردَّت الفتاة -وهِي تُغالِب دُموعَها-: سَأُطْعِم مِنْ حَبَّاتِها أُمِّي المَريضَة وأخي الصغير، فهمْ بَعيدُو العَهْد بهذه السنبلات الخضر، وسأترك بقيَّةً منها تيبس، فأَزْرَعُها لتكُون غِذاءً لنا.
فقال -وقد غالَب دموعه-: لكِنْ أيْن والدُكِ؟
ردَّتْ -ودُموع الحُزْن تَغْشَى مُحَيَّاها الشَّاحِب-: مات مُنْذ سَبْع سِنين، كُنْت حينها رضيعةً، لم أرَه على الإطلاق، فقط أتخيّل شَكْل ملامحه؛ كما وصفته لي أمي في كَوْمات الثُّلوج.
ذَرَف الطفل دمْعًا كَفْكَفَه بِيَدِهِ، وقال: يُمْكُنُك أنْ تَأْخُذِي ما شِئْتِ منْ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ بكلّ حُرِّيَّةٍ أيَّتُها الفَتاةُ...
اسْتَفاق الطفْلُ، وهُو يَمْسَح أهْدابَه منْ قَطَراتٍ عَلِقَتْ بِها، وصُورَة الوجْه البَرِيء تُلاحِقُه ذلك الصَّباح.
جلس على مائِدَة الإفْطار يتأمَّل ألوان الطعام المصْفوفَة، ووالِدُه يأمره بالإفطار، لَكِنّ الطِّفْل ظلّ شارِد الذِّهْنِ؛ فقال الوالد: ما بك يا يوسفُ، هل تُفكِّر في شيءٍ؟
ردّ الطفل: لقد رأيت -يا أبي- ليلة البارحَة حُلمًا عَجيبًا، هلْ تذْكُر الفتاة الصغيرة التي أَعْطَيْتُها قِطَعًا نَقْديَّةً في الطريق الجَبَلِيّ؟
الوالد: نعم، إنّي أذكرها، كانتْ نحيفة الجسم، حافيَة القَدَمَيْن، ترتدي مِعْطَفًا باليًا.
يوسف: نعم يا أبي، لقد رأيتُها في منامي، وَجَدْتُني داخل حَقْلٍ واسِعٍ أقْطَع سَنابل خَضراءَ، وأَحْزِمُها باقاتٍ، وكلَّما وضَعْت باقةً اخْتَفَتْ حتى أَمْسَكْت بِيَدٍ صغيرةٍ، فظهرتْ أمامي تلك الفتاةُ، وأخْبَرَتْني أنّ والدهَا مات مذ كانت رضيعة، وأنّ أمَّها مريضَةٌ، وهِي تَسْرِق السَّنابِل منْ أجل إطْعام والدَتِها وأخيها الأصغر.
الوالد -وقد رفع رأسه إلى الأعلى كمن يفكر ويحلل-: «خير وسلام» يا بُنَيَّ، هذه رُؤْيَا من الله بَعَثَها رِسالَةً إلينا في مَنامِك.
يوسف: ماذا تَقْصِد يا أبي؟
الوالد: تناولْ إفْطَارك يا يوسفُ، سنَشُدّ الرِّحال إلى تِلْك القَرْيَة.
شقَّت السيارة الطريق وَسط صَمْتٍ مُطْبِقٍ، لا شَيْء ثَمَّة غيْر سُنبلاتٍ خُضْرٍ تتراقص أمام العيون، يَسْتَرْجِع الصغير مشاهد المنام، والأب يُفكّر في تَعْبير الرُّؤْيا، يَتَذَكَّر عَجْز المُعَبِّرين عن تفسير رؤيا البقرات والسنبلات، لكنه فطِن إلى أن الفتاة تَحْمِل رسالة عِتابٍ ملْأَى بالبكاء.
حافية القدمين على حافة الطريق الجبلي، نفس المعطف، نفس الوجه البريء، رَكَن الأب السيارة في زاوية آمنةٍ، تَرَجَّل منها رفقة يوسف، مدت الفتاة يدها بشكل عَفْوِيٍّ، إنها تستجدي عطاء أصحاب السيارات مِمَّنْ يَمُرُّون في هذه الطريق.
سألها الأب عن مَسْكَنِها، فأشارت إلى بيت طينِيٍّ يقع أسْفَل رُبْوَةٍ هناك.
مضى الأب وابْنُه ناحيَة البيت، والفتاة ترشدهما دون أن تكترث لبرودة الأرض المندَّاة بقطع الثلج، تخطو بقوة أكسبتها إياها دُرْبَة الأيام.
فتحت بابًا خشبيًّا مهترئًا سُمِع له صريرٌ مُزْعِجٌ، لا تكتَرِث لِنَشازِهِ امرأةٌ هناك في زاوية مُكَوَّمَة كقطعةٍ من لحْم قديد متيبِّس، وطفل صغير في عمر السادسة بجانبها يقوم على خدمتها بما استطاع.
يا إلهي! نفس الرؤيا التي شاهدتها! أبي إنها المرأة التي أخبرتك عنها، وهذا أخ الفتاة الصغير كأنه هو يا أبي!
الأب: إنه حقًّا أمر عجيب! ألم أقل لك يا يوسف، إنها رسالة من الله!
نَظَر الأب إلى المرأة، وسَلَّم عليها وعلى الصغير، فوقع بصرها الفاتر على وجه بشّ تغشاه أنوار إلهية تسكن لها الجوارح، فبادَلَتْه التَّحِيَّة بصوتٍ مُتَهَدِّجٍ يكاد يَتَقَطَّع، وقالت: «وعليك سلام الله يا بني! منْ أنت؟».
الرجل: سُنْبُلَاتٌ خُضْرٌ ساقها الله إليكِ.
قلَّب عينيْه في أرْجاء البيت الطِّينِيِّ، ونظر إلى الطفل الصَّغير، كان شاحِبًا كورقَة خريفٍ أسْقطَتْها الرياح من غُصْن أمِّه المُتَيَبِّسِ، لا شيْء في البيت يحمِل مَعْناه غَيْر سِتْرٍ من برودة الثلج في هذا الفصْل وحرّ شمسٍ تَلْفَح صَيْفًا.
التَمَس الرجل من المرأة وابْنَيْها أن يَذْهبا معه إلى حيث يَقْطُن، وقال: ما رَأْيُك يا سيدتي أن ترحلي من هذا المكان، وسأتولى شؤونك، فقد وهبني الله مالاً كثيرًا، ورزقني الله هذا الولد الوحيد «يوسف»، دعيه يتخذ من ولديك إخوةً له، يمكنني أن أُقطعك حقلًا وأهبك دارًا.
المرأة -وقد أيقَظَتْها الدهشة-: أَجَادٌّ أنت -أيها الفاضل- فيما تقول؟ لكأني في حُلمٍ!
الرجل: نعَمْ أيَّتُها الفاضِلَةُ، غَيْر أَنَّكِ بين يَدَي الحَقيقَة.
يوسُف -والبِشْر يَغْمُر وجْهَهُ-: نَعَمْ يا خالَتي، فنَحْن نَسْكُن في مَنْزِلٍ كَبيرٍ، ونَمْلِك حُقولًا وضيْعاتٍ كَبيرَةٍ، وأنا لا أجِد منْ يُؤْنِس وَحْدَتي فلا تَحْرِمينا ثَوابًا عظيمًا.
الفتاة والأخ الأصغر -وقد تعلقا بالرجل-: لا تَرْفُضي يا أُمِّي، هذا الرَّجُل سَيُعامِلُنا كَأَبْنائِهِ.
الرجل: نعَمْ أنْتُما من الآن وَلداي، وسَأَدْفَع بكما إلى المدرسة لتتَعَلَّما، سَتَنْعَمان بالرَّخاء الأخْضَر.
يوسف: سأمْنَحُك يا أخْتي كلّ السُّنبلات الخُضر التي سأقْطَعُها من الحقلِ، سأضَعُها على صَدْري باقَاتٍ وأَطْواقًا لتَأْخُذِيها بِيَدِك الصَّغيرة.
الفتاة: وأنا لنْ أَسْرِقَها من الحَقْل؛ لأني لنْ أجد من الآن منْ أمْنَحُه باقاتٍ من سبْع سُنبلات خُضْر.
الأب ماسحًا خُصْلاتِها المُنْسابَة: سَنَجِد مَن نَهَبُه من سُنْبُلاتِك أيضًا يا ابْنَتي.
المرأة -ملتفتةً إلى يوسف ودمْعُها يَتَحَدَّر كاللُّؤْلُؤِ-: لقد أخْرَجْتَنا يا بُنَيّ منْ غَيَابات الجُبِّ، كأني بسُنْبُلاتك الخُضْر تَتَراقَص أمام عَيْنَيَّ.