• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سوابغ الستر

سوابغ الستر


إن من مقاصد الشريعة الإسلامية التي اعتنت بها واهتمت بها: حفظ الأعراض وصيانتها وحمايتها، ويظهر ذلك في جانب العقوبات المغلظة التي رتبها الشرع على العدوان على العرض، وتنويعه في الزجر بحسب عظم الاعتداء على العرض، وبحسب نوع الاعتداء.

كما منعت مجرد نشر الأقاويل عن ذلك حقاً كانت أو باطلاً، وهذا المنع يحفظ أعراض المجتمع، فإن كثرة تناول الشيء قد يفضي إلى التساهل فيه، وهذا مخالف لمقصد حماية الأعراض، وطلب صيانتها، فإن «لشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية، فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها، وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع، فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضراً متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب»[1].

وقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية ضبط الكلام ووجوب العناية باللسان، ولما سأل معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: ثم أخبره بأركان الدين وبعض شعائره ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم  بلسانه وقال: كف عليك هذا، فقال معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم؟[2].

قال ابن رجب: «هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه»[3].

ولذا كان الستر على صاحب المعصية هو الأصل المطلوب من المسلم عموماً، وهذا يتأكد في حق ذوي الهيئات الذين لا يعرف عنهم فساد[4].

«فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عصب صبره، وأديل عليه شيطانه؛ فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع. وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالم وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد»[5].

وقد رغب الشارع في الستر ببيان الأجر العظيم المترتب عليه، والتحذير من مغبة مخالفته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة»[6].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «المسلم أخو المسلم... ومن ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة»[7].

وقال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته»[8].

ويخاطب الفقيه ابن عقيل من يتجرأ على كشف ستر عباد الله تعالى فيقول: «الشرع يتغاضى عن حقوقه، وأنتم تتبعون الناس تتبع أصحاب الأخبار. وقد كفى المكلف ما وكل به من الرقيب والعتيد. وما قنعتم أنتم بما وضع، وقد رأيتم تغاضيه عن حقوقه حتى جعلتم نفوسكم حفظة له. تراكم لا تخافون أن يفضحكم في قعر بيوتكم على أقبح ذنوبكم؟ صاحب الحق يعفو، وأنت بسوء طبعك تكشف وتجفو. وصاحب الشرع يقول على علم منه ببواطن الأحوال: من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله. تراه يريد: فليستتر عن الله بستره، أم عنكم؟

فإذا استتر الجاني عنك امتثالاً لأمري، وكشفت أنت، كانت جريمتك في الكشف على أخيك المسلم أكبر من جريمته، حيث امتثل بسترها أمر الشرع. يا جاهل! أنا صاحب الحق وقد سترت. فيا فضولي! فما بالك، فيما ليس لك، بحثت وكشفت؟ احذر المقابلة مني بكشف، وأنت بين مصدق لك ومكذب. فإن مقابلتي كشفك بحيث لا تقبل معذرتك ولا يصدق جحدك. نعوذ بالله من التعبد بالجهل. أنت تعتقد أنك منكر وأنت غير منكر، حيث تطفلت بما لم تكلفه، بل بما عنه لا توقرني في الخلوة وتتعاصب لي على غيرك مع توقيه منك بأكثف ستر»[9].

أحكام وأحوال:

مع أن الأصل في كل ما يبلغ الإنسان عن غيره من المعائب والسيئات هو الستر، فإن لهذه المسألة أحوالاً وأوصافاً تفضي لاختلاف الحكم باختلافها، وهو ما نجمله في ما يأتي:

أولاً: من اطلع على أمر خفي فقد اطلع على سر، والسر أمانة تجب المحافظة عليها.

ومن ذلك ما يبلغ الإنسان من الأمور التي يطلب صاحبها كتمانها، سواء طلب ذلك صراحة، أو بدلالة الحال، مثل أن يتعمد الحديث عنها حال الانفراد مثلاً، ومنه ما يطلع عليه الشخص بسبب مهنته أو عمله كالطبيب والقاضي والمحقق والمحتسب والمربي.

فمتى كان إفشاء السر يتضمن ضرراً فإفشاء السر حرام باتفاق الفقهاء[10]، وكذلك إذا لم يتضمن ضرراً فالمختار أيضاً عدم جواز إفشائه[11].

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفشاء السر بعد موت صاحب السر إذا لم يتضمن غضاضة على الميت[12]، وفي هذا نظر، بل إفشاء السر لا يجوز سواء حال الموت أو الحياة، وسواء تضمن ضرراً أو لا؛ لأن هذا من قبيل حفظ العهد وهو كالوديعة التي يجب حفظها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم  وأنا ألعب مع الصبيان فسلم علينا، ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له، فجئت وقد أبطأت عن أمي، فقالت: ما حبسك؟ أين كنت؟ فقلت بعثني رسول الله إلى حاجة، فقالت: وما هي؟ فقلت: إنها سر، قالت: لا تحدث بسر رسول الله أحداً[13].

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم  السر أمانة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة»[14]، والأمانة واجبة الحفظ.

 وكذلك فإن مخالفة الستر وإفشاء الأسرار قد تدخل في الغيبة، والغيبة محرمة، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم  ضابطها في قوله: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته[15].

فذكر الإنسان لغيره بشيء يكرهه ولو كان فيه: غيبة.

وهذه تفيدنا قاعدة أن الكلام بما يكرهه المتحدث عنه حرام، وهذا يشمل عيوب الإنسان البدنية، أو الخلقية، وما قد يقع فيه من معاص وأخطاء[16]

ولذا رتب الشرع على كتمان عيوب الناس الأجر الجزيل، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول صلى الله عليه وسلم : «من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة، ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[17].

ثانياً: من عرف بالشر والفساد، وكان في الإخبار عن فساده منع للشر أو تخفيف منه، فهنا يتغير الحال، قال النووي: «وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد»[18].

ولذا فالمعروف بالفساد يسوغ البحث عنه لعقوبته وردعه، قال ابن حجر في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم : ومن ستر مسلماً: «أي رآه على قبيح فلم يظهره للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينته عن قبيح فعله ثم جاهر به.. كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبس بها فيجب الإنكار عليه وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة»[19].

وقال ابن رجب: «من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها لا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له فهذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود»[20].

وكذلك إذا كانت معصيته تلحق الضرر بالمجتمع، مثل الداعية للفساد، وناشر الأفكار الرديئة والأقوال الباطلة، وأصحاب المذاهب الهدامة، فهؤلاء لا بد من التحذير منهم، وتنبيه الناس لشرهم وفسادهم، وليس هؤلاء مثل أصحاب الفساد الأخلاقي بل شرهم أعظم وخطرهم أكبر، قال ابن منصور: قلت للإمام أحمد: إذا علم من الرجل الفجور أنخبر به؟ قال: لا، بل يستر عليه إلا أن يكون داعية[21].

وسبب هذا أن الداعية جاهر بخبثه وفضح نفسه فلم يبق مجال لستره، كما أن في التحذير منه تقليلاً لشره وفساده.

وهذا الأمر مزلة قدم فعلى الإنسان التبصر فيه قبل الإقدام، وأن لا تدفعه الحمية لفعل لا يرضى الله عنه، ويجتهد في تحقيق المناط وموازنة المصالح والمفاسد، والتنبه لحظ النفس، وإذا علم الله من العبد تحري العدل والإنصاف غفر له ووفقه للصواب.

اللهم جملنا بسترك، وأسبغ علينا سترك الجميل في الدنيا والآخرة.


 


[1] التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (18/ 185).

[2] سنن الترمذي (2616)، مسند أحمد (5/ 231).

[3] جامع العلوم والحكم ص309.

[4] شرح صحيح مسلم (16/135)، نوادر الفقهاء لمحمد بن الحسن التميمي، تحقيق محمد فضل المراد ص187.

[5] بدائع الفوائد لابن القيم (3/139).

[6] صحيح مسلم (395).

[7] صحيح البخاري (2442)، صحيح مسلم (2580).

[8] سنن الترمذي (2032)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في «غاية المرام» (420). وجاء عن أبي برزة عند أبي داود (1880). وقال في مجمع الزوائد (8/93): رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

[9] كتاب الفنون لابن عقيل (2/682).

[10] نقله ابن بطال، ينظر: فتح الباري (11/85)، الإنصاف (21/320).

[11] وهو مذهب الإمام أحمد وغيره، ينظر: الإنصاف (21/420)، الآداب الشرعية لابن مفلح (2/257).

[12] ينظر: فتح الباري (11/85).

[13] صحيح البخاري (6289)، صحيح مسلم (2482).

[14] سنن أبي داود (4868)، سنن الترمذي (1959) وقال: حديث حسن. وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (486).

[15] صحيح مسلم (25589).

[16] غذاء الألباب (1/103)، قال الغزالي: اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكره بنقص في دينه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته. ينظر: إحياء علوم الدين (3/129). 

[17] مسند الإمام أحمد (24881)، قال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير. مجمع الزوائد (3/21). 

[18] شرح صحيح مسلم (16/135).

[19] فتح الباري (5/97).

[20] جامع العلوم والحكم (2/292).

[21] المغني (6/558). وانظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/233)، الموسوعة الفقهية (24/168)، (10/161).

 

 

أعلى