إن الكثير من الصعوبات التي كانت تقف أمام نشر الدعوة في أماكن كثيرة، ولدى فئات مجتمعية سيتم تذليلها بفضل الذكاء الاصطناعي، ولا يَخفى أن هذه الصعوبات كانت سببًا في ضعف الدعوة مقارنةً بنظيرتها التنصيرية مثلًا.
تحدّثنا في مقال سابق[1] عن الاستثمار الأمثل للتقنية عمومًا في المجال الدعوي، وذكرنا فيما ذكرنا هناك تطبيقات الذكاء الاصطناعي باعتبارها إحدى التقنيات الواعدة، ولعلنا نُفرد لها هذا المقال، ونفصّل فيها؛ لأنها لم تَعُد واعدة، بل أصبحت كائنة متحققة؛ فعصرنا هو عصر الذكاء الاصطناعي، فأقول -وبالله تعالى التوفيق-: إنه وبالرغم من أن الذكاء الاصطناعي[2] كان معروفًا -كمفهوم ونظرية- منذ عقود، إلا أنه أصبح اليوم هو التقنية السائدة التي سيتم الاعتماد عليها بشكل كبير جدًّا خلال السنوات القريبة القادمة، وهناك سببان وراء بزوغ هذه التقنية اليوم بعدما كانت راكدةً خلال السنوات الماضية:
الأول: التطوُّر التقني المُواكِب في مجالات أخرى، والذي أدَّى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى ضخّ الدماء من جديد في مفهوم الذكاء الاصطناعي؛ فالبيانات الكبيرة وإنترنت الأشياء، وأمن معلومات الأفراد والدول والعملات الرقمية، وغيرها من التقنيات الجديدة[3]، جعلت من (الذكاء الاصطناعي) حلًّا للعديد من المشكلات والمسائل المرتبطة بهذه التقنيات، وإن لم يكن حلًّا مثاليًّا في بعض المجالات، فإنه في الغالب سيكون كذلك في قادم الأيام.
الآخر: فتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة في مجالات الحياة اليومية: الطبية، والهندسية، والتعليمية، والإدارية، والتصنيعية، والخدمة الاجتماعية، بل حتى المجالات العسكرية والحربية، وأحدث تغييرًا في كثيرٍ من الآليات والوسائل المتَّبعة في هذه المجالات، فأصبح -مثلاً- الاعتماد على الإنسان الآلي في أداء مهمة الكادر الصحي في المستشفى، وفي أداء مهمة فِرَق الإطفاء، وفي تقديم الخدمة للزبائن في المطاعم، كما باتت مهمة القتال في ساحات المعارك يتولاها سلاح ذكيّ بدلًا من البشر، وما حرب غزة عنا ببعيدة!
ولا شك أن مجال الدعوة الإسلامية من المجالات التي يمكن أن يستفيد بشكل كبير من الذكاء الاصطناعي؛ سواء كان عبر محاكاة الدعاة في أسلوبهم وفكرهم، أو في مساندتهم في أداء العمل الدعوي بتقديم النصائح والحلول لهم، واتخاذ القرارات بدلًا عنهم، وذلك في جميع الأنشطة الدعوية، سواء كانت على مستوى المسلمين أو غير المسلمين.
والفائدة من الذكاء الاصطناعي في المجال الدعوي تتمثل في عدة أمور، نذكر أهمها باختصار -دون خَوْض في المعلومات التخصصية- ما يلي:
أولًا: ترجمة مواد التراث الإسلامي
تُعدّ تقنية معالجة اللغات الطبيعية (Natural Language Processing) من التقنيات الواعدة بل والناجحة في مجال الترجمة، وما يتعلق بالترجمة. وهذه التقنية هي أحد فروع الذكاء الاصطناعي، وتهتم بتمكين الآلة -سواء حاسب آلي أو غيره- من القدرة على التعامل مع أيّ بيانات مبنية على اللغة الطبيعية للإنسان؛ سواء كانت مكتوبة أم مسموعة أو مقروءة. ولذلك يُستفاد من هذه التقنية وبسهولة في مجال نشر كتب التراث الإسلامي وتحقيقها، وكذلك المخطوطات التي هي بحاجة إلى فكّ حروفها، ناهيك عن الصوتيات القديمة التي تم تسجيلها منذ سنوات، بله عقود أو حتى قرون، كل ذلك يتم من خلال استخدام خوارزميات جاهزة للاستعمال تسمى التعرُّف على الأنماط (Pattern Recognition).
ولا يَخفى أن أكثر شعوب الأرض لا تدين بالإسلام إلى يوم الناس هذا، وأسباب ذلك كثيرة لا يناسب المقام الحديث عنها، والذكاء الاصطناعي يُوفّر أدوات للتفاعل والتواصل مع المستخدمين أيًّا كانوا من خلال روبوتات الدردشة (Chatbots)؛ التي ستُجيب عن الأسئلة الدينية، وتقديم الاستشارات والنصائح سواء للمسلمين أو لغيرهم، فالمسلون يُرَاد توعيتهم بالدين وأحكامه ومفاهيمه، وغير المسلمين يُرَاد تعريفهم بالإسلام الصحيح وبالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
خذ مثلًا، مناظرات كلّ من أحمد ديدات وذاكر نايك مع غير المسلمين، مثل هذه المناظرات يمكن بناء برنامج يعتمد على أدوات الذكاء الاصطناعي أو بشكل أدق (نظام خبير)؛ من أجل أن يقوم بدور ديدات أو نايك، وكأنهم موجودون الساعة، عبر الاستفادة من كمية البيانات المحفوظة لكلا الرجلين سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية! طبعًا، ويمكن كذلك «إعادة تدوير» -إن صح هذا التعبير- جميع مناظرات ديدات؛ بحيث يتم عرضها وكأنها حديثة وليست قديمة.
ولعل فئة ذوي الاحتياجات الخاصة من أكثر فئات المجتمع التي يمكنها أن تستفيد من الذكاء الاصطناعي؛ فلو لدينا مادة شرعية نريد إيصالها للجميع، فبفضل تقنية (معالجة اللغات الطبيعية)، يمكن للجميع الاستفادة، حتى الأعمى والأصم والأبكم، فالمادة ستُحوَّل تلقائيًّا على هيئة صوت من أجل المكفوفين، وتُحوَّل في ذات الآن إلى مقطع مرئي حتى يتسنى للأصم أن يستفيد أيضًا، وتُمكِّن الأبكم من الكتابة والتعليق.
الخلاصة: إن الكثير من الصعوبات التي كانت تقف أمام نشر الدعوة في أماكن كثيرة، ولدى فئات مجتمعية سيتم تذليلها بفضل الذكاء الاصطناعي، ولا يَخفى أن هذه الصعوبات كانت سببًا في ضعف الدعوة مقارنةً بنظيرتها التنصيرية مثلًا.
ثانيًا: معرفة الاهتمامات الإنسانية وتوظيفها دعويًّا
الدعاة سواء كانوا على مستوى المسلمين أو غير المسلمين، يحتاجون معرفة اهتمامات المدعوين؛ إذ لا يُتوقع لداعية أن ينجح في دعوة شخص للإسلام أو في دعوته إلى الاستقامة على دين الله، والداعية يجهل اهتمامات مَن يدعوه! الذكاء الاصطناعي يساعدك بسهولة على التعرف على اهتمامات من تدعوه من خلال (التنقيب: mining) في الإنترنت، وفي حسابات مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر، الفيسبوك، الإنستغرام، وغيره) عن الشخص المدعو لمعرفة اهتماماته سواء كانت هذه الاهتمامات اجتماعية أو فكرية أو تسويقية، وإذا كان أرباب التجارة الإلكترونية يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي لمعرفة اهتمامات الناس الشرائية؛ فيمكن للكيانات الدعوية أن تعمل نفس الشيء، لكن لمعرفة اهتمامات الناس الاجتماعية والثقافية والفكرية.
والكلام لا يتعلق بدعوة أفراد (الدعوة الفردية)، بل ينسحب على الدعوة الجماعية (دعوة جماعات وشعوب وبلدان كاملة)؛ إذ ستُوفّر أدوات التنقيب معلومات عن الخصائص التي تُميِّز شعبًا من الشعوب عن الآخرين، مثل هذه الخصائص مهمة للدعاة؛ حتى لا ينفر الناس من الدعوة من البداية، أو يصطدموا بها، فمن الشعوب مَن لا يحب الحديث عن «الموت»، ومنهم مَن يكره أيّ آتٍ من البلد الفلاني، ومن الشعوب ما يغلب عليها الأمية، ويميلون لتصديق الخرافات، بينما شعب مجاور لهم لا يقبل سوى لغة الأرقام؛ لأن نسبة الأكثرية متعلمة، وقِسْ على ذلك.
والأصل الشرعي في هذه اللفتة الدعوية قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- حين أرسله إلى اليمن؛ قال: «إنَّكَ تَقْدَمُ على قَوْمٍ أهْلِ كِتابٍ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبادَةُ اللَّهِ، فَإِذا عَرَفُوا اللَّهَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في يَومِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ، فَإِذا فَعَلُوا، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ فَرَضَ عليهم زَكاةً مِن أمْوالِهِمْ وتُرَدُّ على فُقَرائِهِمْ، فَإِذا أطاعُوا بها، فَخُذْ منهمْ وتَوَقَّ كَرائِمَ أمْوالِ النّاسِ»[4]، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «قَوْلُهُ إنَّكَ تَقْدَمُ على قَوْمٍ أهْلِ كِتابٍ؛ هِيَ كَالتَّوْطِئَةِ لِلْوَصِيَّةِ لِتُسْتَجْمَعَ هِمَّتُهُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلَ عِلْمٍ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا تَكُونُ الْعِنَايَةُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَمُخَاطَبَةِ الْجُهَّالِ مِنْ عَبدَةِ الْأَوْثَانِ»[5]، وكذلك قول ابن مسعود: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيّامِ؛ كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا»[6]، والمعنى أنه كان يُراعي الأوقات المناسبة للتذكير والموعظة.
وكذلك الاهتمام بفئة معينة من المجتمع كالنساء أو الأطفال مثلًا، فما يميل له الأطفال في الوقت الحالي يختلف عن السابق، الذكاء الاصطناعي سيختصر لك المسافات؛ فيمكنه اكتشاف ما تهتم به فئة ما (الأطفال مثلاً)، في مكان ما (في الصين مثلا)، يمكن للذكاء الاصطناعي -بعد اكتشاف اهتمامات هذه الفئة أو تلك- أن يُطوِّر بنفسه مادة إعلامية مناسبة كقصة قصيرة على هيئة مادة مقروءة أو مُشاهَدة.
والحاصل أن تجميع مثل هذه الخصائص، سواء عن الأفراد أو المجتمعات؛ سيتم بسرعة واحترافية عالية عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، بعدما كانت في السابق تتطلب جهدًا كبيرًا، ناهيك عن الوقوع في كثير من الأخطاء البشرية.
ثالثًا: التصنيف (Classification)
هذه الآلية يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي بشكل كبير؛ لأن العديد من الصعوبات والمسائل في مجالات الحياة المختلفة يمكن حلها باستخدام التصنيف، ففي المجال الطبي، يتم تصنيف الأورام إلى قسمين: حميد وغير حميد، وفي المجال الأمني يتم تصنيف البريد الإلكتروني إلى قسمين أيضًا: ضارّ أو غير ضارّ، وهكذا دواليك. وقد يكون التصنيف إلى ثلاثة أقسام أو أكثر.
نفس الكلام ينسحب على مجالات الدعوة والعلم الشرعي، وإذا كان النظام الخبير قام بأداء مهمة الطبيب بحيث ساعد في تصنيف الأورام إلى حميد وغير حميد، فيمكنه هنا مساعدة الكيان الدعوي الذي يعاني من قلة المتخصصين في علوم الحديث النبوي -وهم فعلًا قلة-، يساعدهم في أداء مهمة المُحدِّث؛ فينقل الحكم على الحديث من حيث الصحة أو الضعف؛ (تصنيف إلى قسمين)[7]، أو صحيح أو ضعيف أو حسن (تصنيف إلى ثلاثة أقسام)، وكما أنشأنا نظامًا خبيرًا لـ(المُحدِّث)، يمكن إنشاء نظام خبير آخر للمُفسِّر الذي يقوم بتفسير القرآن، وثالث للُّغوي الذي يُعلِّم الناس اللغة العربية، ورابع للفقيه، وهكذا.
ولا يخفى الحاجة لمتخصصين في عددٍ من علوم الدين وفنونه كعلم الحديث وعلم المقاصد، ونحوها من العلوم التي تمسّ حاجة الناس اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. والذكاء الاصطناعي يساعد بشكل كبير في حلّ هذه المعضلة؛ الأمر الذي يُمكّنه من مساعدة المجامع الفقهية فيما يتعلق بفقه النوازل، على سبيل المثال، غالبًا ما تعتمد المجامع الفقهية ودور الإفتاء التي تتبنَّى أسلوب الاجتهاد الجماعي، على أصحاب الخبرة والتخصُّص في المجال المراد إصدار الفتوى فيه، فيستعينون بالطبيب إذا كانت المسألة متعلقة بالطب، وبالاقتصادي إذا كانت المسألة متعلقة بالاقتصاد، وهكذا، وطالما أن الذكاء الاصطناعي أثبت نجاحه في هذه المجالات فيمكن لتلكم الجهات الاستعانة به بدلًا من الاستعانة بعنصر بشري ينسى ويخطئ في مقابل نظام تم تدريبه على بيانات كبيرة جدًّا وصحيحة لا يمكن لعنصر بشريّ أن يُحيط بها.
رابعًا: إنجاز المهام الإدارية في المجال الدعوي
تساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التنبؤات المستقبلية فيما يتعلق بأعمال المؤسسات الدعوية بناء على البيانات الحالية والسابقة، ومن ذلك -على سبيل المثال- النِّسَب المتوقعة للداخلين في الإسلام، مدى الازدحام المتوقع في المساجد في أيام الجمع ورمضان، والتوجيه والإرشاد لكل ما يحتاجه الحاجّ أو المعتمر فيما يتعلق بتحديد الأماكن والأوقات المناسبة للدخول والخروج، وكذلك التنقل بين المشاعر، ونحوها من الخدمات التي لا يفتأ الحاجّ أو المعتمر عن الاحتياج لها، والأعداد المتوقع قبولها في المعاهد الدينية، والاستشراف المستقبلي للعمل الإسلامي في بلدٍ ما أو قارة ما، والمخاطر الاقتصادية المتوقعة من جراء تمويل مشروع ما، ومدى موافقة أيّ وثيقة -سواء كانت اقتصادية أم سياسية أو ثقافية- لأحكام الشريعة الإسلامية.
وكذا الإرشاد لتوزيع الزكوات والصدقات بمهنية عالية؛ إذ يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تساعد في اكتشاف المستحقين من الأشخاص والأُسَر والأماكن، ويمكنه تحرّي الهلال بدقة قد تفوق دقة البشر، كل ذلك وغيره يتم بشكل تلقائي وعلى نحوٍ آنيٍّ لحظيّ، دون تدخُّل بشري، اللهم إلا ما يتعلق بالمراجعة الدورية أو الصيانة.
وهذا ما يُميّز الذكاء الاصطناعي عن غيره من التقنيات غير المعتمدة على الذكاء الاصطناعي؛ حيث تم «تدريبه» على بيانات سابقة لجميع الحالات السابقة، الأمر الذي يجعل القرار الإداري المُتَّخذ في هذا الصدد أكثر كفاءةً من ذي قبل بحكم ما وفَّره الذكاء الاصطناعي من توقُّعات.
ورغم ما ذُكِرَ مِن فرص وإيجابيات في هذا النطاق؛ فإن هناك بعض الصعوبات التي يُتوقَّع أن تعترض هذا المسار، ليس حديثنا عن الأضرار الاقتصادية للذكاء الاصطناعي من خلال فَقْد الوظائف ولا الأضرار الأخلاقية من خلال حَجْب المعلومات الصحيحة أو تزويرها، لكنّ حديثنا عن صعوباتٍ نَسْعَى لتذليلها حتى تستفيد الدعوة من هكذا تقنية، ونذكر منها اثنتين:
الأولى: ستواجه عملية تبني الذكاء الاصطناعي في المجال الشرعي عمومًا تردُّدًا في قبول الناس لأيّ نتيجة أو اقتراح معتمد على هكذا تقنية، ورغم أن هذا التردد في الوقت الحالي له اعتبار بحكم أن الأمر يتعلق بالدِّين والأحكام الشرعية، إلا أن هذا التردّد سيتلاشى مع الأيام ومع زيادة نسبة الموثوقية في تلكم النتائج[8].
وليس من نافلة القول: إن العملية برُمّتها قد يَكتنفها بعض العيوب والنقص، مثل الأخطاء الناتجة عن وجود التحيُّز (Bias)، وعمومًا فإن هذه العيوب قليلة مقارنةً بالفوائد والآفاق التي يفتحها الذكاء الاصطناعي، علمًا أن مثل هذه السلبيات موجودة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في سائر المجالات الأخرى كالطب والتصنيع؛ لأن طبيعة الذكاء الاصطناعي وفرعه المنبثق عنه المعروف بـ(تعلُّم الآلة)، تعتمد على التعلم أو التدرّب على ما تُعطاه من بيانات حجمًا ودقةً، فكلما زادت كمية البيانات التي تُعطَى للنموذج من أجل التدريب؛ زادت نسبة الصواب فيه، وكلما زادت نسبة الدقة والصحة في البيانات المعطاة، قلَّت نسبة الخطأ في النموذج المعتمد.
ولذلك لا يُستغرب أن يوجد نموذج لتفسير القرآن الكريم يعطي إجابات خاطئة في التفسير؛ لأن هذه النتيجة إنما بُنِيَتْ على ما أُعطي من بيانات سابقة؛ من حيث كمية البيانات المعطاة، وكذلك صحتها ودقتها. وقل مثل ذلك فيما لو كانت إجابات النموذج تتعلق بأمور في الربوبية أو الإلحاد، فلا يفرح غير الملحدين كثيرًا بإجابة (إثبات وجود إله في الكون)؛ لأن مثل هذه الإجابات قد تتبدل بعد فترة بناء على الخوارزمية وكمية البيانات المعطاة وصحتها.
وعودًا على مثال تصنيف الأحاديث النبوية الذي ذكرناه سابقًا؛ فقد يكون الحكم على الحديث من حيث الصحة أو الضعف أيضًا ليس دقيقًا 100%، والخطأ في تفسير معنى كلمة قرآنية أو في الحكم على صحة حديث نبوي وارد حتى مع وجود العنصر البشري، والمتمثل في المفسِّر أو المُحدِّث، بل قد يكون الخطأ في هؤلاء أكبر لوجود عوامل التعب والإرهاق والتحيّز والنسيان أو الاختلاط -على حد قول أهل الحديث-.
الأخرى: إذا كانت الجهات الدعوية تُدرِّب الدعاة في السابق، ثم تبعثهم إلى أصقاع المعمورة، فإن «واجب الوقت» يُحتِّم أن ينفر من كل جهة دعوية طائفة ليتخصصوا في مجال الذكاء الاصطناعي، وبهؤلاء المتخصصين ستستغني الجهات الدعوية عن الكثير من الدعاة الذين عادة ما يتطلب إعدادهم تمويلًا، ناهيك عما يعتري العنصر البشري من ضعف أو ملل، فإن المتخصصين سيقومون ببناء أنظمة الذكاء الاصطناعي، والتي ستتولى مهمة الدعاة، وتعمل على مدار الساعة دون كلل أو ملل أو سآمة تصيبها!
ويكون دور المتخصصين -والذين قد يكونون من الدعاة أيضًا- هو مراقبة المنصات الجديدة، وتطويرها، وتغذيتها بالبيانات «الصحيحة» التي تحتاجها، وعلى أصحاب الثروات أن يلتفتوا لهكذا مشاريع كأوقاف وصدقات جارية؛ لأنها تبني الإنسان المسلم، وتحافظ على الإسلام وتراثه، وتُسهّل الوصول إلى ما يحتاجه الإنسان أيًّا كان هذا الإنسان، فإن كل ما سبق من اعتماد للذكاء الاصطناعي في المجالات الدعوية يُحقّق أول ما يُحقِّق المقصد الأعظم من المقاصد الشرعية، والمتمثل في (حفظ الدين)، ناهيك عن دخوله في عموم شرط (البصيرة) الوارد ذِكْرها في الآية؛ ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]؛ فالبصيرة هنا تعني «كل ما يتعلق بالدعوة؛ من حيث استقراء تاريخها والإفادة منها، ومعرفة مواطن النجاح فيها، والعقبات، والمناهج، وفقه واقعها، واستغلال كل الوسائل التي تُحقِّق مقاصدها»[9].
وإذا كان البعض قد استخدم الذكاء الاصطناعي في أمور الشر؛ باعتباره إحدى القوى الناعمة، فعلى أهل الإسلام أن يستخدموه في نشر الإسلام، وتمكين الخير وتصحيح المفاهيم وكشف الشبهات؛ لأنه لا يعدو كونه سلاحًا ذا حدَّيْن، لا سيما وأن الجيل المعاصر يعتمد أول ما يعتمد على التقنية الحديثة، سواء في أموره الخاصة أو العامة.
[1] استثمار أمثل للتقنية في أعمال المؤسسات الدعوية، البيان، العدد 391، ربيع الأول 1441هـ، نوفمبر 2019م.
[2] يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه قدرة الآلة على محاكاة الإنسان في التفكير والتعلم، ومِن ثَم اتخاذ القرارات.
[3] تعرف بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة (The Fourth Industrial Revolution).
[4] أخرجه البخاري: 1458، ومسلم: ١٩.
[5] فتح الباري لابن حجر ٣/٣٥٨.
[6] أخرجه البخاري: 68، ومسلم: ٢٨٢١.
[7] Detecting Hadith Authenticity Using a Deep-learning Approach، إشراق الرفاعي، المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل، المجلد 23، العدد 1، يونيو 2022.
[8] وزارة التعليم في السعودية -على سبيل المثال-، وابتداءً من العام الدراسي القادم 1446/1447هـ الموافق 2025/2026، قرَّرت جَعْل مادة الذكاء الاصطناعي متطلبًا جامعيًّا لجميع طلبة الجامعة.
[9] الدعوة الإسلامية في عصر الذكاء الاصطناعي، خالد حنفي، مجلة الوعي الإسلامي، 2024، العدد 713