"رؤيا إبراهيم" عليه السلام (1-2)
سفر «رؤيا إبراهيم» هو أحد الأسفار المنحولة التي كتبت في القرن الأول الميلادي[1]. يقول «ريزارد روبنكيفيتس»: «إن (رؤيا إبراهيم)، بأصلها الفلسطيني، وتاريخ كتابتها المبكر، وتراثها المشترك مع سفر أخنوخ الأول، وارتباطاتها بكتابات العهد الجديد، لتجد لنفسها مكاناً بين أهم الأعمال في العالم اليهودي في القرن الأول الميلادي»[2].
وبرغم أن أكثر العلماء يذهب إلى أن أصل الرؤيا كتب بالعبرانية أو الآرامية إلا إن أقدم النسخ الموجودة بين أيدينا إنما كتبت باللغة السلافية القديمة.
تُستهل الرؤيا بالحديث عن إبراهيم عليه السلام وهدايته واصطفائه من قوم يعبدون الأصنام، وتختم بالحديث عن الرؤيا التي هي موضوع دراستنا. وعلماء أهل الكتاب يكادون يجمعون على تفسير الخطوط العريضة للرؤيا، لكن التفاصيل هي محل الخلاف لاسيما ما يتعلق بأحداث الساعة الثانية عشرة في آخر الزمان، وسيأتي بيان ذلك من خلال تفسير النص.
نص الرؤيا وتفسيره
رأى إبراهيم عليه السلام من بين ما رأى صورة قد سُطرت فيها أعمال العباد وما هم صانعون، وقد قُسِّم الخلق فيها إلى ميمنة وميسرة، فتساءل:
22 «أيها الأبدي القادر! من هم الناس في هذه الصورة في هذا الجانب وذاك؟
فقال لي: أما الذين عن الشمال فكل الذين وُلدوا قبل يومك وبعده، منهم من كُتب له الحكم والصلاح، وآخرون الانتقام والمحق في آخر الزمان. وأما الذين عن يمين الصورة فهم الذين جعلتهم لنفسي، وقضيت أن يولدوا من صلبك، ودعوتهم شعبي. حتى بعض أولئك الذين من عزازيل.
يسأل إبراهيم عليه السلام في هذه الفقرة ربه عما يراه من فئتين ماثلتين في الصورة إحداهما في الشمال والأخرى في اليمين. فيجيبه الله بأن التي في الشمال هي كل البشر منذ بدء الخليقة إلى نهايتها. منهم من يكون من أهل السعادة ومنهم من يكون من أهل الشقاوة. أما الفئة التي في يمين الصورة فهم بنو إسرائيل الذين من نسل إبراهيم عليه السلام من جهة يعقوب عليه السلام، فهم «شعب الرب» كما يزعمون. ولا شك أن بني إسرائيل فُضلوا على غيرهم من الأمم ولكن في زمانهم.
يلحظ القارئ في النص تقسيم البشر إلى الشعب المختار وإلى غيرهم من الأمم. ولم أر من الشراح من خالف في أن المقصود هم «اليهود» و«غير اليهود». لكن الإشكال في وصف غير اليهود بالـ«وثنيين». علماً بأن الفقرة أعلاه تصرح بأن الذين في ناحية الشمال من الصورة منهم البر «من كتب له الحكم والصلاح»، ومنهم الفاجر الذي كتب عليه «الانتقام والمحق في آخر الزمان». وبما أن النص الأصلي للرؤيا كتب بالعبرانية أو الآرامية فإن الكلمة المستعملة هي «جوييم» أو «عَمَّيَّا» على التوالي. وكلتا الكلمتين لا تعني أكثر من «الأمم»، وإنما اكتسبت معنى «وثنيين» لأن اليهود عَدُّوا كل من سواهم وثنياً. لذا نجد بعض مترجمي الرؤيا يستعمل العبارة الإنجليزية The Nations التي تعني «الأمم» وبعضهم يستعمل The Heathen وتعني «الوثنيين» لإيصال المعنى المراد. وقد آثرت أن أستعمل في ترجمتي كلمة «الأمميين» لأكون أدق في ترجمة الأصل مع عدم إغفال الجانب العنصري في الكلمة.
«حتى بعض أولئك الذين من عزازيل»، عزازيل يمثل الشيطان أو إبليس أو الجن عموماً. والمقصود في الفقرة - والله أعلم - أن بعض من كان في الصورة كانوا من الجن الذين هم من ولد إبليس، كما قال شيخ الإسلام: «الشياطين هم مَرَدَةُ الإنس والجن، وجميع الجن وَلَد إبليس والله أعلم»[3].
25 ورأيت هنالك مثل صنم الغيرة، منحوت من الخشب، كذاك الذي اعتاد أبي صنعه، وكان جسده من النحاس اللامع يغطي الخشب. ورأيت أمامه رجلاً يعبد الصنم، وكان قدامه مذبح، وعلى المذبح غلام مذبوح بين يدي الصنم.
أما «صنم الغيرة» أو «تمثال الغيرة» (سيمِل هَكِّنْآه في النص العبراني) فقد جاء ذكره في موضعين من سفر حزقيال عند حديثه عن تسلل عبادة الوثنيين إلى داخل الهيكل الثاني بعد السبي البابلي. يقول حزقيال:
وَحَلَّقَ بِي رُوحٌ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَأَحْضَرَنِي فِي رُؤَى اللهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى مَدْخَلِ الْبَوَّابَةِ الشِّمَالِيَّةِ لِلسَّاحَةِ الدَّاخِلِيَّةِ، حَيْثُ يَنْتَصِبُ التِّمْثَالُ الْمُثِيرُ لِلْغَيْرَةِ. فَإِذَا بِمَجْدِ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ حَالٌّ هُنَاكَ كَمَا كَانَ حَالّاً فِي الرُّؤْيَا الَّتِي شَاهَدْتُهَا فِي السَّهْلِ. ثُمَّ خَاطَبَنِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، الْتَفِتِ الآنَ نَحْوَ الشِّمَالِ». فَالْتَفَتُّ وَإِذَا بِي أَرَى مِنَ شِمَالِيِّ بَابِ الْمَذْبَحِ تِمْثَالَ الْغَيْرَةِ هَذَا مُنْتَصِباً فِي الْمَدْخَلِ. وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ شَاهَدْتَ مَا يَرْتَكِبُونَ: هَذِهِ الرَّجَاسَاتِ الْفَظِيعَةَ الَّتِي يَقْتَرِفُهَا شَعْبُ إِسْرَائِيلَ لِيُبْعِدُونِي عَنْ مَقْدِسِي؟ وَلَكِنِ انْتَظِرْ، فَلاَ تَلْبَثُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْجَاساً أَفْظَعَ».
وكان هذا الصنم يمثل إلاهة الشمس «عشتار» التي هي من آلهة الحرانيين؛ ولذا قال: «ذاك الذي اعتاد أبي صنعه» يعني في بلاد العراق. أما الرجل الذي يقدم القرابين للصنم فهو «منسى» كما سيأتي.
فقلت له: «ما هذا الصنم وهذا المذبح، ومن ذلك القربان؟ وما هذا البناء العظيم الذي أرى حسَنَ الصنع والصورة، حُسْنه كذاك الذي تحت عرشك؟
فقال: «اسمع يا إبراهيم، إن الذي تراه هو الهيكل، نسخة من الذي في السماوات، جليل في هيئته وحسنه، أعطيه لبني آدم ليرسموا كهنوتاً لاسمي المجيد، وتقام فيه صلوات الناس، وتقدم فيه القرابين كما آمر قومك، أولئك الذين يقومون من جيلك. أما الصنم الذي رأيت فتمثال الغيرة، ينصبه بعض من يخرج من صلبك في آخر الأيام. وأما الإنسان الذي يسفك الدماء قرباناً فذاك الذي يدنس هيكلي، وأولئك شهود على الدينونة الآخرة، ونصيبهم مقدر منذ بدء الخليقة.
فالبناء العظيم هو الهيكل الأول، أما الذي ينصب تمثال الغيرة (عشتار) في الهيكل فهو ملك اليهود «منسى» ويسير بسيرته ملوك آخرون من أمثال آمون ويهوياقيم ويهوياكين. وتفصيل هذه الفقرة من تدنيس الهيكل وتقديم الغلمان قرابين نجده في سفر الملوك الثاني:
وَارْتَكَبَ [منسَّى] الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، مُقْتَرِفاً رَجَاسَاتِ اْلأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَادَ وَشَيَّدَ مَعَابِدَ الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي هَدَمَهَا أَبُوهُ حَزَقِيَّا، وَأَقَامَ مَذَابِحَ الْبَعْلِ، وَنَصَبَ تَمَاثِيلَ عَشْتَارُوثَ عَلَى غِرَارِ مَا صَنَعَ أَخْآبُ، وَسَجَدَ لِكَوَاكِبِ السَّمَاءِ وَعَبَدَهَا. وَبَنَى مَذَابِحَ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ فِي أُورُشَلِيمَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ الرَّبُّ: «فِي أُورُشَلِيمَ أَجَعْلُ اسْمِي»... وَأَجَازَ ابْنَهُ فِي النَّارِ، وَرَصَدَ الأَوْقَاتَ وَلَجَأَ إِلَى أَصْحَاب الْجَانِ وَالْعَرَّافِينَ وَأَوْغَلَ فِي ارْتِكَابِ الشَّرِّ مِمَّا أَثَارَ عَلَيْهِ غَضَبَ اللهِ الرَّهِيبَ. وَنَصَبَ تِمْثَالَ عَشْتَارُوثَ الَّذِي صَنَعَهُ، فِي الْهَيْكَلِ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ: «فِي هَذَا الْهَيْكَلِ، وَفِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُهَا مِنَ الأَرْضِ، الَّتِي وَهَبْتُهَا لِآبَائِهِمْ، أَجْعَلُ اسْمِي إِلَى الأَبَدِ. فَإِذَا أَطَاعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَعَمِلُوا كُلَّ مَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ، وَطَبَّقُوا الشَّرِيعَةَ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا عَبْدِي مُوسَى، فَإِنَّنِي لَنْ أُزَعْزِعَ أَقْدَامَهُمْ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي وَهَبْتُهَا لِآبَائِهِمْ». لَكِنَّهُمْ عَصَوْا، بَلْ أَضَلَّهُمْ مَنَسَّى فَارْتَكَبُوا مَا هُوَ أَقْبَحُ مِمَّا تَرْتَكِبُهُ الأُمَمُ الَّتِي طَرَدَهَا الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ[4]... وَزَادَ مَنَسَّى فَسَفَكَ دَمَ أَبْرِيَاءَ كَثِيرِينَ، حَتَّى مَلأَ أُورُشَلِيمَ مِنْ أَقْصَاهَا إِلَى أَقْصَاهَا.
فلما عتوا عما نُهوا عنه خاطبهم الرب قائلاً:
لأَنَّ مَنَسَّى مَلِكَ يَهُوذَا اقْتَرَفَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ، وَارْتَكَبَ شُرُوراً أَشَدَّ فَظَاعَةً مِنْ شُرُورِ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، وَأَضَلَّ يَهُوذَا فَجَعَلَهُ يَأْثَمُ بِعِبَادَةِ أَصْنَامِهِ، لِذَلِكَ يَقُولُ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: هَا أَنَا أَجْلِبُ شَرّاً عَلَى أُورُشَلِيمَ وَيَهُوذَا، فَتَطِنُّ أُذُنَا كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ بِهِ. وَسأُوْقِعُ عَلَى أُورُشَلِيمَ الْعِقَابَ الَّذِي أَوْقَعْتُهُ بِالسَّامِرَةِ، وَبِأَخْآبَ وَنَسْلِهِ. وَأَمْسَحُ أُورُشَلِيمَ مِنَ الْوُجُودِ كَمَا يُمْسَحُ الطَّبَقُ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ، ثُمَّ يُقْلَبُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَجِفَّ. وَأَنْبِذُ بَقِيَّةَ شَعْبِي وَأُسَلِّمُهُمْ إِلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ غَنِيمَةً وَأَسْرَى لَهُمْ.
وهذا ما تشير إليه الفقرة التالية من رؤيا إبراهيم عليه السلام:
27 فنظرت وإذا الصورة تميل، وقد ظهر منها من ناحية الشمال قوم فُجَّار فسلبوا الذين عن اليمين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، فمنهم من قتلوا ومنهم من سَبَوا. ورأيتهم يركضون وراءهم من أربعة منازل، فأحرقوا الهيكل بالنار، ونهبوا كل ما فيه من المقدسات.
فبسبب طغيان بني إسرائيل وعبادتهم لآلهة الوثنيين سلط الله عليهم عدواً من ناحية الشِّمال (أي من غير بني إسرائيل) هم البابليون الوثنيون بقيادة «بختنصر». وهنا يبدأ «زمن الفجور» أي تسلط الكفرة على بني إسرائيل عام 568 ق.م. كما سيأتي بيانه. وقد جاء وصف ما صنعه البابليون من استحلال الهيكل ونهب مقدساته وحرقه في سفر الملوك الثاني:
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ حُكْمِ الْمَلِكِ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، قَدِمَ نبُوزَرَادَانُ قَائِدُ الْحَرَسِ الْمَلَكِيِّ مِنْ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَحْرَقَ الْهَيْكَلَ وَقَصْرَ الْمَلِكِ وَسَائِرَ بُيُوتِ أُورُشَلِيمَ، وَكُلَّ مَنَازِلِ الْعُظَمَاءِ. وَهَدَمَتْ جُيُوشُ الْكِلْدَانِيِّينَ الَّتِي تَحْتَ إِمْرَةِ رَئِيسِ الْحَرَسِ الْمَلَكِيِّ جَمِيعَ أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ، وَسَبَى نَبُوزَرَادَانُ بَقِيَّةَ الشَّعْبِ الَّذِي بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْهَارِبِينَ الَّذِينَ لَجَأُوا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ وَسِوَاهُمْ مِنَ السُّكَّانِ... وَحَطَّمَ الْكِلْدَانِيُّونَ أَعْمِدَةَ النُّحَاسِ وَبِرْكَةَ النُّحَاسِ الَّتِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ، وَنَقَلُوا نُحَاسَهَا إِلَى بَابِلَ. وَاسْتَوْلَوْا أَيْضاً عَلَى الْقُدُورِ وَالرُّفُوشِ وَالْمَقَاصِّ والصُّحُونِ وَجَمِيعِ آنِيَةِ النُّحَاسِ الَّتِي كَانَتْ تُسْتَخْدَمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَكَذَلِكَ الْمَجَامِرِ وَالْمَنَاضِحِ. كُلُّ مَا كَانَ مَصْنُوعاً مِنَ ذَهَبٍ أَخَذَهُ قَائِدُ الْحَرَسِ الْمَلَكِيِّ كَذَهَبٍ، وَمَا كَانَ مَصْنُوعاً مِنْ فِضَّةٍ كَفِضَّةٍ... وَهَكَذَا سُبِيَ شَعْبُ يَهُوذَا مِنْ أَرْضِهِ.
فقلت: «أيها الأبدي، هو ذا الشعب الذي يخرج من نسلي وقد رضيتَ عنه ينهبه الفجار، فمنهم من قُتل ومنهم من سُبي ليكون عبداً، والهيكل قد أحرقوه بالنار، وما فيه من حسنٍ سرقوه ودمروه. إن كان هذا سيكون، فلم صدَعت قلبي؟ فقال لي: «ما رأيته سيكون بسبب ذريتك، أولئك الذي يغضبونني بتمثال الصنم الذي رأيت، وبسبب القربان البشري في الصورة، وبغيرتهم في فعل الشر ومكرهم في الهيكل، فكما رأيت سيكون».
هنا يسأل إبراهيم عليه السلام الرب أن يريه ما يخفف به حزنه مما يصيب ذريته بسبب ما أحدثوه من عبادةٍ للأوثان، فيسأل عن أهل الإيمان الذين يأتمرون بأمر الله وينتهون بنهيه.
فقلت: «أيها الأبدي العزيز! لتنصرف الآن أعمال الشر هذه التي عُملت كُفراً، ولكن أرني الذين ائتمروا بوصاياك، بأعمال البر، فإنك على ذلك قادر».
فقال لي: «إن أيام البر تُرى أنماطاً بحياة أولئك الحكام الأبرار الذين سيقومون، الذين خلقتهم ليحكموا في أزمنة موقوتة. لكن اعلم أنه سيقوم منهم آخرون لا يهمهم إلا مصالحهم، من نمط أولئك الذين أريتُكَهم.
28 فأجبت قائلاً: «أيها العزيز تقدس سلطانك! هبني سؤالي وأرني، فإنك لهذا أحضرتني هنا، أيجري لهم ما أريتنيه زمناً طويلاً؟».
فأراني حشداً من شعبه وقال لي: «بسببهم، في منازل أربعٍ كما رأيت سأغتاظ منهم، وفيها سيحق عليهم عقابي. وفي المنزلة الرابعة لمائة عام، التي هي ساعة من الدهر، أي مائة عام، سيكونون في نكبة بين الأمميين، ولكن أيضاً لساعة سيكونون في رحمة وعز بين أولئك الأمميين.
هذه الفقرة أشكلت على كثير من الشراح بسبب اختلافهم في ترجمة الكلمة السلافية Schody. فذهب البعض إلى أن معناها «الجموع» كما صنع «كوليك»[5]؛ وآخرون آثروا ترجمتها بالـ«الأجيال»، وفريق ثالث زعموا أن المراد بها الـ«مداخل»[6]. لكن أحداً لا يخالف أن معنى الكلمة الأصلي هو «درجة» أو «منزلة».
لكننا إذا أمعنا النظر في الفقرة نجد أن كلمة Schody تأتي لتعبر عن مرحلة زمنية، وهذا يستبعد ترجمة «كوليك» «وفي الجَمْع الرابع هناك مائة عام» لأنها لا تناسب السياق ولا تحمل معنى مفيداً. وأما ترجمة «بوكس» «في أجيال أربعة» فإنها برغم احتمالها ليست دقيقة.
والصواب - والله أعلم - أن النص يصور المدة التي بين السبي البابلي، الذي هو بداية زمن الفجور، إلى زمن الرحمة والعز على هيئة «درجاتٍ» أربع نزولاً Descents، كل خطوة تتألف من مئة عام. وفي الدرجة الرابعة، أو المئة الرابعة، من الأسر البابلي سيصاب بنو إسرائيل بنكبة - أو «شر» كما في بعض الترجمات - بين الأمميين (الوثنيين)، وسيستمر هذا لساعة من الدهر أو مائة عام. ونحن إذا نزلنا من السبي البابلي 586-539 ق.م. أربع درجات فإننا سنصل إلى ما بين 186-139 ق.م. فما هي «النكبة» التي أصابت اليهود في هذه المرحلة؟
في 175 ق.م. جلس الطاغية السلوقي «أنطيوخس إبيفانيس الرابع» على عرش الإمبراطورية السلوقية. وكان منهمكاً في حروبه مع المصريين. لكنه لما عاد ذات مرة، بعد أن أشيع أنه مات في إحدى المعارك، أُخبر بمحاولة انقلاب قام بها كبير كهنة اليهود الأسبق «ياسون» الذي كان «أنطيوخس» قد عزله وعين مكانه «منلاوس»، فكانت النكبة على اليهود. يحدثنا سفر المكابيين الثاني قائلاً:
فلما بلغت الملكَ هذه الحوادث، اتهم اليهود بالانتقاض عليه؛ فزحف من مصر وقد تنمر في قلبه وأخذ المدينة [القدس] عنوة، وأمر الجنود أن يقتلوا كل من صادفوه دون رحمة، ويذبحوا المختبئين في البيوت. فطفقوا يهلكون الشبان والشيوخ، ويبيدون الرجال والنساء والأولاد، ويذبحون العذارى والأطفال، فهلك ثمانون ألف نفس في ثلاثة أيام، منهم أربعون ألفاً في المعركة، وبيع منهم عدد ليس بأقل من القتلى. ولم يكتف بذلك، بل اجترأ ودخل الهيكل الذي هو أقدس موضع في الأرض كلها، وكان دليله منلاوس الخائن للشريعة والوطن، وأخذ الآنية المقدسة بيديه الدنستين، مع ما أهدته ملوك الأجانب لزينة الموضع وبهائه وكرامته، وقبض عليها بيديه النجستين ومضى... وحمل أنطيوخس من الهيكل ألفاً وثماني مائة قنطار، وبادر الرجوع إلى إنطاكية، وقد خيلت إليه كبرياؤه وتشامخ نفسه، أنه يقطع البر بالسفن والبحر بالقدم! وترك عمالاً يراغمون الأمة، منهم فيلبس في أورشليم وهو فريجي الأصل، وكان أشرس أخلاقاً من الذي نصبه، وأندرونكس في جرزيم، وأيضاً منلاوس الذي كان أشد جوراً على الرعية من كليهما. ثم حمله ما كان عليه من المقت لرعايا اليهود، على أن أرسل أبلونيوس الرئيس البغيض في اثنين وعشرين ألف جندي، وأمره أن يذبح كل بالغ منهم ويبيع النساء والصبيان. فلما وفد إلى أورشليم أظهر السلام، وتربص إلى يوم السبت المقدس، حتى إذا دخل اليهود في عطلتهم، أمر أصحابه بأن يتسلحوا، وذبح جميع الخارجين للتفرج، ثم اقتحم المدينة بالسلاح، وأهلك خلقا كثيرا [2 مكابيين 5].
ثم يتحدث الإصحاح التالي عن محاولة «أنطيوخس» طمس معالم اليهودية فيقول:
وبعد ذلك بيسير أرسل الملك شيخاً أثينياً، ليضطر اليهود أن يرتدوا عن شريعة آبائهم ولا يتبعوا شريعة الله، وليدنس هيكل أورشليم ويجعله على اسم زوس [الإله اليوناني]... وامتلأ الهيكل عُهراً وقصوفاً... وكان المذبح مغطى بالمحارم التي نهت الشريعة عنها. ولم يكن لأحد أن يعيد السبت، ولا يحفظ أعياد الآباء، ولا يعترف بأنه يهودي أصلاً. وكانوا كل شهر، يوم مولد الملك يساقون قسراً للتضحية، وفي عيد [الإله اليوناني] ديونيسيوس Dionysius يضطرون إلى الطواف إجلالاً له، وعليهم أكاليل من اللبلاب. وصدر أمر إلى المدن اليونانية المجاورة بإغراء البطالمة أن يُلزِموا اليهود بمثل ذلك وبالتضحية، وأن مَن أبىَ أن يتخذ السُنن اليونانية يُقتل، فذاقوا بذلك أمر البلاء [2 مكابيين 6].
وإنما أوردت هذه الاقتباسات الطويلة نسبياً لبيان أن هذه «النكبة» التي أصابت اليهود في زمن الإمبراطور «أنطيوخس» لم تكن أمراً هيناً، بل هي جديرة أن تكون النكبة المشار إليها في رؤيا إبراهيم التي نحن بصددها. فهي تزيد عن السبي البابلي في إكراه الناس على ترك دينهم واعتناق دين اليونان الوثنيين.
غير أن الرؤيا تشير إلى أن هذه النكبة ستنقضي وسيعقبها مجد لليهود لساعة من الزمن، أي مئة عام كما مر بنا. يقول النص: «سيكونون في نكبة بين الأمميين، ولكن أيضاً لساعة سيكونون في رحمة وعز بين أولئك الأمميين». وهذا ما حدث بالفعل، فبعد تلك النكبة على يد الإمبراطور «أنطيوخس الرابع» قام المكابيُّون اليهود بثورتهم ضد الإمبراطورية السلوقية، وأسسوا دولة الحَشمونيين واستقل اليهود في فلسطين من عام 165 ق.م. إلى عام 63 ق.م، أي 102 من الأعوام (ساعة من الدهر). وهذه هي الساعة التي عبر عنها النص بقوله: «ولكن أيضاً لساعة سيكونون في رحمة وعز بين أولئك الأمميين».
انقضت ساعة الرحمة والعز في عام 63 ق.م. عندما غزيت دولة الحشمونيين من قبل الروم، فتفككت ثم أصبحت تابعة للروم ولم تقم لليهود بعدُ قائمة، حتى الهيروديون اليهودُ العملاءُ حكموا فلسطين تبعاً للروم لا استقلالاً. وهكذا استؤنف زمن الفجور بعد أن عَز اليهود ساعةً من الدهر. فتساءل إبراهيم عليه السلام:
29 فقلت: أيها الأبدي! كم هي ساعات الدهر؟ فقال: اثنتي عشرة ساعة كتبت لزمن الفجور الحاضر أن يتسلط على الأمميين وعلى ذريتك، وإلى نهاية الأزمان سيكون كما رأيت.
فزمن الفجور الذي بدأ بالسبي البابلي سيستمر اثنتي عشرة ساعة (أي 1200 عاماً) قبل أن يأتي الخلاص. هنا يخاطب الربُّ إبراهيمَ ليتنبه إلى القادم ففيه الفرَج الذي كان ينتظره. فما هو الفرَج؟
هذا حديثنا في الجزء الثاني.
[1] James H. Charlesworth. The Old Testament Pseudepigrapha and the New Testament (Harrisburg, PA: Trinity Press International, 1998), p. 32.
[2] The Anchor Bible Dictionary, "Abraham, Apocalypse of" vol. I, p. 43.
[3] مجموع فتاوى ابن تيمية، 15/ 7.
[4] في هذا النص إثبات أن حق بني إسرائيل في الأرض المقدسة لم يكن حقاً مطلقاً بل كان مشروطاً بإقامتهم دين الله، فلما حادوا عن منهج الله نزع منهم ذلك الحق؛ وإنما يرث الأرض عباد الله الصالحون.
[5] Alexander Kulik. Retroverting Slavonic Pseudepigrapha (Atlanta: Society of Biblical Literature, 2004), p. 30.
[6] G. H. Box. The Apocalypse of Abraham (London: The Macmillan Company, 1918), p 76.