جحيم الغوطة
أشجار مكسرة.. زروع محرقة.. بيوت مهدمة.. أنقاض وأطلال على مد البصر.. عيون اغرورقت بالدموع، والرؤية صارت على ضوء الشموع.. شم النسيم العليل بالعجاج يفوح..
لم يتمكن أبو محمد من منع الدموع ألا تسيل على وجنتيه عندما راح يروي قصته في جحيم الغوطة التي كانت يوماً ما تغنى بالطيور المغردة، وبجمالها وعطر ورودها.. تشق الآفاق بأريجها.. تمتع الأنظار برونقها.. تشد الأرواح برياحينها.
الآن ما عاد يُسمع سوى تغريد طائرة الميغ! بدويها وانفجارات قذائفها! ما وجد غير جسمه يغطي به أطفاله الزغب النحال، يحميهم مما يجود به طائر معدني! حلق في السماء قبل أن يهبط المساء:
بينما نحن على هذه الحال أعاود لقطات من النظر في وجه أم أطفال كالح، أكل الرعب كثيراً من نضارته التي كانت في الماضي.. إذا بشاب من الرجال الأشاوس يدفع باب الدار بقوة يعالجه حتى إذا قدر على خلعه ركض نحونا منادياً:
هيا قوموا معي لا تبقوا هاهنا.. البقاء هنا خطر عليكم.
أخذ يشدنا بعنف حمل اثنين من الأولاد، أنا وزوجي تكفلنا بالثالث، رحنا نعدو معه مئات الأمتار، كلانا يلهث.. كدنا ننكفئ على وجوهنا من شدة الإرهاق، عبر بنا قبو بناية، أودعنا المكان إلى جانب من غصت بهم القاعة، غادرنا مسرعاً وهو يقول:
أنا ذاهب لإنقاذ أسرة ثانية بعون الله.. سأعود إليكم سريعاً.
مضى جل النهار ثم هبط الليل بعتمته ودجاه لكن ذلك الشاب الشهم لم يعد، تناولنا شيئاً من الزاد مع الآخرين.. عل ذلك الطعام القليل يقيم صلبنا ويعيننا على البقاء على قيد الحياة.. منذ يومين لم نذقه نحن وأطفالنا المساكين.
ما كان للنوم أن يداعب أجفاناً قرحها السهاد وعيوناً محمرة من النحيب والبكاء.
أصبح الصباح ولم نكد نصدق أنّا ما زلنا على قيد الحياة.
حتى الساعة لم يخترق طائر الدمار جدار الصوت، خرجنا نتنفس قليلاً من الهواء الطلق قبل أن يخالطه التراب ويمتزج بالغبار، تجولت قليلاً في الشارع، يا إلهي ماذا أرى؟! الرجل الشهم الذي أنقذنا ملقًى على القارعة تناثرت من شبابه الأشلاء.
بجواره أفراد عائلة أخرى.. أجساد ممزقة وأيدٍ مبتورة وبركة دم قد جف من البارحة، هكذا نُقتل بسلاح دفعنا ثمنه من عرق جبيننا.. من قوت أطفالنا، لا أراكم الله مكروهاً مثلما رأينا في هذا اليوم والأيام السالفة، هكذا جمال الغوطة ببساتينها الغنّاء تحولت إلى جحيم من نيران ودمار وركام!
ناديت بعض رجال القبو ومن النساء من هن قادرات، يتعاون كل اثنين على حمل حرام قديم ضم مجموعة أعضاء لشهيد واحد كي نواريهم التراب في شق طويل سلف إعداده من سائق جرافة متطوع قبل أن تصاب آليته بصاروخ مقيت.
بيدي دفنت الشاب العشريني، مزق جسده صاروخ أعمى، رماه والعائلة التي معه عربيد أصم أخرق.
ما كدنا نفرغ من مهمتنا المضنية المبكية حتى جاءنا الطائر الأسود من جديد يتصيد فريسته الدسمة، تفرق شملنا سراعاً، منّا من ألقى نفسه بين الأنقاض، آخرون اختبؤوا خلف الأحجار.
سقطت براميل في فراغ وأخرى أصابت أبنية متأرجحة لم يكتمل سقوطها حتى اليوم.
كان لا بد من الإجهاز عليها مثل ذبيحة ظلت تصارع مصيرها بين حياة وموت.
بعدما انصرفت غرابين الموت هرعنا راكضين من حلاوة الروح إلى مخبئنا الذي اختاره لنا المرحوم الشهيد الفذ الحي في قلوبنا، ستبقى ذكراه مرافقة لنا ما حيينا وأنّى ذهبنا.
ما زلنا ننتظر الخروج من وسط الجحيم الملتهب والركام المنحدر.
أجيل ناظري في البطاح وأرسله نحو الآفاق وراء الركام والدماء والأشلاء..
أرقب يوماً تغمر بلادنا ظلال حرية ونسمات سلام.. خضرة وسلسبيل وماء زلال.
:: مجلة البيان العدد 347 رجــب 1437هـ، إبريل-مايو 2016م.