الليبروصفوية والمنهج السلفي
(1) استهداف المنهج أم استهداف الإسلام ذاته؟!
التعاون بين الليبراليين من جهة والشيعة الرافضة من جهة أخرى في العالم العربي قضية
مطروحة للنقاش، لاسيما حول الأهداف المشتركة بينهما. وهذا ما يستوجب البحوث
والدراسات الكثيرة عن حقيقة التعاون، وعن مآلات خطابهما وأثره على الوحدة الفكرية
والسياسية للشعوب والدول الإسلامية.
وقد كُتبت عن هذا التعاون مقالاتٌ منشورة وكثيرة، ومن ذلك مقالات بعنوان:
«الليبروصفوية والوطنية السعودية 7/7»، وفيها بعض الأدلة والقرائن التي تؤكد أن
ليبراليي مثقفي الشيعة في دول الخليج هم الجسر العملي لتمرير الأفكار الصفوية من
قُم وطهران إلى إخوانهم الآخرين ليبراليي «أهل السنة» - إن صحَّ التعبير -!
لاستهداف المنهج السلفي، وذلك بحسب المراجعات والمكاشفات من دعاة الليبرالية
أنفسهم.
فهل «الليبروصفوية» بهذا الواقع تتقاطع مصالحها تجاه تحقيق هدف مشترك هو تشويه
المنهج السلفي؟
وهل مآلات خطابهم الثنائي المشترك تمثل معول هدم للوحدة الفكرية، ومن ثم صناعة
التصدع في الوحدة الفكرية تحت مسمى التعددية الفكرية، وما سيترتب على ذلك من تعددية
سياسية تهدد الوحدة الفكرية والسياسية على حد سواء؟
قد يكون من ذكاء هذا الخطاب الثنائي في تحقيق أهدافه المزدوجة - كما يتصورون -
استهدافه المنهج السلفي وخطابه بالانتقاص والازدراء لأتباعه وأنصاره تارة، والهجوم
على مؤسساتهم الدينية واتهام الرموز أو المؤسسات بأشنع التُهم المُنفِّرة للأجيال
من هويتهم الفكرية الحقيقية تارة أخرى! ومحاولات إسقاط رموز المنهج السلفي
التجديدية والإصلاحية عبر التاريخ محور أساس في خطابهم، وكذلك فإن محاولات إقصاء
المجتمع الإسلامي عن بعض شعائر الإسلام ومرجعيته الحقيقية واضحة في خطابهم المزدوج!
وكل ذلك للتمويه على المقصود من وراء خطابهم «الليبروصفوي»، وهو نقد الإسلام ومنهجه
الصحيح، لكن الاستهداف الشامل لكل مدارس المنهج السلفي ورموزه ومؤسساته يكشف حقيقة
المُستَهدف المقصود، فالسلفية أو الحنبلية أو مدرسة ابن تيمية أو الوهابية - كما
يصفونها - كلها في الحقيقة لا تعدو أن تكون المُعبِّر عن المنهج الإسلامي الصحيح في
الاستدلال للفهم الصحيح للنصوص وتفسيرها، كما هو المعروف عن هذا المنهج.
فالسلفية - مثلًا - منهج وليست عقيدة أو أيديولوجيا مستحدثة - كما هو معلوم -، بل
إن هذا المنهج في الاستدلال والتفسير والفهم لحقيقة الإسلام ليس حكرًا على ابن حنبل
أو ابن تيمية أو دعوة محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية - رحم الله الجميع -، فمعظم
الدعوات الإصلاحية لنهضة الأمة الإسلامية عبر تاريخها الإسلامي تتشارك في هذا
الفهم، كما تتفق على هذا المنهج الصحيح في فهم القرآن والسنة، حتى لو لم تتسمَّى
بالسلفية أو منهجها.
و«الليبروصفوية» بطرحها المتكرر في التشويه والانتقاص لهذا المنهج ومن ورائها الغرب
المتعصب دينيًّا وسياسيًّا يُعِدُّون للاحتفالية بهزيمة أهل السنة والجماعة ليتبرأ
بعضهم أو بعض دعاتهم ومثقفيهم من مصطلح المنهج السلفي، أو يخجلوا من الانتساب إليه،
ظنًا منهم أنه يعني جماعة أو فئة محددة أو دعوة معينة، ومن ثم تتكون الهزيمة
النفسية لدى بعض الأوساط الدعوية والسياسية أو الثقافية والاجتماعية، وما عَلِم بعض
هؤلاء المستهدَفين أن هذا التخلي عن هذا المنهج لا يعدو أن يكون تخليًا عن الإسلام
بشكل أو بآخر، ولعلَّ هذه الفقرات المتتابعة عن هذا الموضوع (5/5) تكشف عن بعض
الحقائق التي قد تكون غائبة عن المُستهدَف بالهزيمة النفسية والفكرية بشكل خاص، كما
تكشف عن طبيعة المنهج السلفي وقوة المقاومة فيه!! إضافة إلى أبعاد الهجوم الشرس
وأسبابه.
الحرية الحقة قيمة كبرى في حياة المسلم، حيث لا تتعارض مع عبودية الله، بل إن
عبودية الله هي الحرية، وأي ليبرالية تتمرد على العبودية لله الواحد الأحد مرفوضة
في المجتمع المسلم، والتمرد على الأديان الذي حدث في الغرب نتيجة طبيعية للأديان
المحرَّفة التي تتصادم مع العقل وكرامة الإنسان وحقوقه المشروعة، بل قد تكون
مُبرَّرة، والليبروصفوية تتجاهل أن الحرية الحقيقية هي التي لا تؤذي الآخرين في
معتقدهم وثقافتهم، أو تُلحق الضرر بهم، أو تصادر حرية الاختيار الصحيح لهم.
ولذلك، هل دعاة الليبرالية السعودية تجاوزوا حريتهم إلى انتهاك حريات وحقوق الآخرين
في محاولاتهم مسخ هوية الوطن الإسلامي وبلاد الحرمين ورسالته من خلال التشويه
المنظَّم للمنهج السلفي وما في ذلك من هدم ثوابت الإسلام وقِيَمه؟ وهل هم بهذا
الاستهداف يدركون حقائق التاريخ وقِيم الوحدة السياسية للأمة، ومن ثم حقيقة هوية
الأمة الإسلامية؟
لقد هُوجمت السلفية أو المنهج السلفي في الإعلام الدولي والمحلِّي بشكل غير مسبوق
وكأن هذا المنهج أُم المصائب والعائق الأكبر عن الحداثة والتجديد والإصلاح
والتطوير. يفعلون ذلك بخلط مُتَعمَّد بين المنهج - الذي هو الإسلام - وبين
الممارسات الخاطئة في حقه من السياسيين أو الشرعيين، الذين قد يكونون أساؤوا إليه
أكثر من خصومه. ففي محاولات التشويه الليبروصفوي قال أحدهم ممن فَقَدَ ذاكرته
التاريخية عن العامل الرئيس في تأسيس الوطن السعودي ووحدته: «لم تَعُد دعوة الشيخ
محمد بن عبدالوهاب اليوم إلا عبئًا على الدولة السعودية»[1]،
وغير ذلك من الكلمات المتشنجة، والأقوال في هذا لا تعد ولا تحصى[2].
والقول السابق بأن السلفية عبء على الدولة وما شابهه من أقوال كثيرة يعكس أزمة
نفسية وفكرية لدى الليبرالية في السعودية، فهل السبب أن المنهج السلفي يعد الأقوى
في تحصين المجتمع من محاولات التغريب القسري الذي هو هدفهم؟ أم أن الخطاب
«الليبروصفوي» بهذا يستهدف تغيير الهوية الوطنية للوطن السعودي من خلال تشويه
الأساس الذي قامت عليه الوحدة الوطنية؟ أم أن هناك جهلًا عن حقيقة العقد الاجتماعي
بين الحاكم والمحكوم - بغض النظر عن الممارسات الخاطئة - وأنه قائم على التوأمة بين
السياسة والدين؟! ثم هل محاولات التجريد من الهوية الوطنية هي الوطنية التي يؤمن
بها منتسبو الليبرالية ودعاتها؟!
لقد تجاوزت «الليبروصفوية» العداوة للمنهج السلفي إلى وصفه بالتعصب والجمود وعدم
التسامح وأنه منهج يدعو لعدم وحدة الأمة الإسلامية، كما وصفوه بما يُسمى «عدم
الانفتاح على الآخر» مما هو مدون في مقالات هؤلاء، بالرغم من أن كتابات المنصفين من
الغربيين وصفت هذا المنهج بعكس تلك المزاعم، بل أكدت أن هذا المنهج هو الأصل وهو
الموحد للأمة، كما أنه المنهج المتميز بتأصيل التسامح سعيًا لوحدة الأمة الإسلامية
على عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافًا لمناهج فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة، حيث
تعصب هذه الطوائف وغيرها وانشقاقها عن الأمة المسلمة وتمزيق وحدة الأمة.
وبهذا الصدد، كتب المفكر الفرنسي «شارل سان برو» عن دور المنهج السلفي في وحدة
الأمة: «امتثالًا للمذهب السني السلفي، رأت الحنبلية أن ما ينبغي إعطاؤه الأفضلية
هو وحدة الأمة والخير العام، لذلك كانت الحنبلية الموجودة في قلب مذهب أهل السنة
والجماعة مذهب الوسط بين التفريط والإفراط المتناقضين، لقد حاربت العقائد التي
أساءت فهم معنى تكافل الأمة والتسامح اللذين تجعل الشريعة منهما واجبًا مفروضًا على
كل مؤمن، وخلافًا للخوارج والمعتزلة وبعض الفرق الشيعية، لم تؤسِّس الحنبلية
أيديولوجيا شمولية، فهي لم تُؤدِّ إلى العنف»[3].
كما سجَّل الباحث الفرنسي الآخر محمد مُلين شهادته للمنهج السلفي، وتحديدًا الذي
قامت عليه الوحدة السعودية بأنه قادر على الانفتاح والإصلاح والتجديد دون التنازل
عن ثوابته، والعجز ليس في ذات المنهج بقدر ما هو في جوانب الممارسات، وكتب مُلين
بعبارات أوضح عن انفتاح هذا المنهج الموصوف بالحنبلية والسلفية تارة، والوهابية
تارة أخرى، فقال: «أقدم العلماء على بذل جهود أيديولوجية كبيرة من أجل إنقاذ
الأساسي في المذهب وفقًا للقاعدة الفقهية، التي تنص على مراعاة أخف الضررين، وكان
أن قرّروا بدعم وتشجيع من السلطة السياسية، الانفتاح على المذاهب السنية الأخرى»[4].
وبما أن «الليبروصفوية» تعاهدت عمليًّا في خطابها الإعلامي على تشويه المنهج السلفي
المتمدد عالميًّا والسائد في المجتمع السعودي بكثير من الوسائل الإعلامية، فإن هذه
الموضوعات الفرعية في هذا المقال ليست معنية بالرد على تلك الدعاوى والمزاعم بقدر
ما هي معنية بكشف بعض الحقيقة عنها، كما أن هذا الموضوع لن ينتصر لهذا المنهج
بأقوال أو مؤلفات أتباع المنهج السلفي أو علمائه - بالرغم من الأحقية في ذلك - لكن
سيكون الاكتفاء باقتباس بعض الأقوال والاستدلالات من باحثين غربيين منصفين أمضوا
السنوات العديدة للوصول للحقيقة، بل وتَعلَّم بعضهم اللغة العربية لمعرفة حقيقة ما
يُثار عن الإسلام وعن المنهج السلفي تحديدًا، وأكثر من ذلك أن بعضهم قاده الفضول
المعرفي للوصول للحقيقة بسبب الحملات الشرسة المنظَّمة على السلفية ومنهجها.
(2)
السلفية في منظور البحث العلمي الغربي:
استهداف المنهج السلفي - كما ورد سابقًا - كشف كثيرًا من حقيقة الهجوم المنظم من
«الليبروصفوية» داخليًّا وخارجيًّا من الإعلام الغربي والإيراني لصناعة كثيرٍ من
الفراغ الفكري والعقدي لمجتمعات أهل السنة والجماعة عمومًا في العالم الإسلامي،
والتركيز على إضعاف هوية المجتمع السعودي العقدية التي هي قدره في صناعة وحدته
الفكرية وقوته السياسية، وصياغة منظومته الثقافية والوطنية، كما أن القراءة الصحيحة
لمصطلح المنهج السلفي تكشف أكثر عن دوافع أعدائه وأهدافهم، ولذلك تأتي أهمية
التحرير للمصطلح لتؤكد التوافق العلمي بين المصطلح والمفهوم، والفرق بين الحقيقة
والزيف.
فمن خلال القراءة التاريخية في بعض المصادر، فإن المقصود بالسلفية أو المنهج السلفي
هو:
المنهج القائم على الكتاب والسنة وِفق فهم سلف الأمة، ومن ذلك تقديم النقل على
العقل لعدم تعارضهما، والمنهج السلفي بهذا المفهوم أكبر من المجتمع السعودي ودولته
وعلمائه، وليس المقصود بالسلفية الواردة هنا:
تلك الصورة النمطية التقليدية المشوهة من خصومها وأعدائها، أو من بعض أتباعها
وأدعيائها من بعض المحسوبين على العلم والعلماء، أو جماعات شرك الطاعة للولاة ومن
في حكمهم. والقصور الموجود في الاجتهاد والتجديد، أو في الجوانب التطبيقية الخاطئة
ليس ناتجًا عن قصور المنهج بقدر ما هو ناتج عن ممارسات بعض أتباعه من الشرعيين
والسياسيين، كما أن المستجدات العالمية والتحولات الثقافية لا تبرر طبعة جديدة
للإسلام أو تفسيرًا محتكرًا أو مشوهًا لقيمه ومبادئه وتشريعاته من أي جهة كانت.
ويتعرَّض الإسلام بمفاهيمه العقدية والجهادية لهجوم فكري وإعلامي غير مسبوق تحت
مسمَّى: التعصب، والتشدد، والجمود، والعنف، والإرهاب، ونسبة ذلك إلى المنهج السلفي،
هروبًا من المواجهة المباشرة مع الإسلام، ومقتضى العنوان في هذا الموضوع يتطلب
الاقتصار على بعض النقولات من بعض الكتب الغربية عن المنهج السلفي ومدرسته - كما
سبق
-
كما يقتضي الكشف عن الدعاوى والمزاعم من خصوم المنهج، وهم «الليبراليون والصفويون»
وأسيادهم، وما بينهم من قواسم مشتركة في الأهداف.
فعن مصطلح السلفية أو مفهومها كتب المفكر الفرنسي شارل سان برو، في كتابه: «مستقبل
السلفية بين الثورة والتغريب»، فقال:
«حظيت
كلمة سلفية
salafisme
بشهرة ما لبثت أن فقدتها نظرًا للتحريف المذهل في معناها الذي وقعت ضحية له،
فالمعلوم أن العودة إلى السلف الصالح أي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أتوا
بعدهم مباشرة
(القرون
الثلاثة المفضلة)
هي إحدى ثوابت السنة التي تستند إلى حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم
(خيركم
قرني ثم اللذين يلونهم ثم الذين يلونهم)[5]،
هذا المستند موجود عند سائر مفكري أهل السنة والجماعة، أي الغالبية من السنة، إنها
أحد مرتكزات الإصلاح الذي كان محمد بن عبدالوهاب أحد أهم رواده، لكن محمد عبدالوهاب
هو الذي أطلق عبارة
(سلفية)
في القرن التاسع عشر، وبدأ الحديث عن مذهب سلفي شكَّل أحد مرتكزات الإصلاح والتقدم،
والجدير ذكره أن المذهب السلفي ليس أيديولوجيا، بل منهجية، أي وسيلة لفهم الدين
بالعودة إلى الأصول واستبعاد التفسيرات غير اليقينية والإضافات والخرافات، وأيضًا
عوامل الجمود التي تراكمت عبر الزمن، فالسلفية التي لا تنفصل عن الإصلاح وعن ممارسة
الاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى، هي ضمان للأصالة وصفاء المنشأ والتقيد بأصول
الإسلام، ولا علاقة للسلفية بأي تطرف، ولا حتى بالنزعة المحافظة»[6].
كما قال في موضع آخر:
«وإذا
كانت عبارة (سلفي) تعبر أكثر عن ميل نحو السلفية وبعض الانكفاء نحو الماضي، فإن
السلفي هو الذي يعرف السلفية والنصوص والأخبار والعقيدة والمعارف المتوارثة عن
الأسلاف الأقدمين، إنه عارف مطلع يرنو لأن يعيش السلفية وأن يعمل على نشرها، ناسجًا
علاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل»[7].
إن القضية الرئيسية عند «الليبروصفوية» ليست سوى محاولات إسقاط للثوابت وللمنهج
السلفي تحديدًا من عيون أتباعه ومؤيديه وأنصاره، فهو المنهج الذي يحصِّن المجتمعات
من التغريب، ويقوي مناعتها أمام الأطماع الأجنبية، بل إنه الحصانة الفكرية
والسياسية أمام التوسع الإيراني المُعلن الذي يستهدف السيطرة على الحرمين الشريفين
بدون تُقية من أصحاب هذا المشروع، وبالتالي تفتيت الوحدة السياسية في كل دولة
إسلامية، وبلاد الحرمين بشكل خاص[8].
فالمنهج السلفي هو الهوية الوطنية الفكرية للوطن السعودي، والتعاون الليبرالي
الصفوي على هذه الهوية لا يقل عن التعاون الليبرالي الغربي في عمليات التغريب
القسري.
بعد هذا العرض اليسير عن المصطلح ومفرداته ومعانيه، وعن هوية المجتمع المسلم بشكل
عام والمجتمع السعودي بشكل خاص حيث قدره، هل تكون الهزيمة النفسية أو الفكرية من
هذا المصطلح كما يريد الخصوم؟!
وهل بعد هذا يكون الخجل من الانتساب إلى السلفية أو المنهج؟!
وهل بعد وضوح المصطلح ومفاهيمه يكون الاعتزاز بهذا المنهج
-
على المستوى الرسمي وغيره
-
الذي يحفظ للمسلمين هويتهم ووحدتهم وسيادتهم واستقرارهم؟!
(3)
حقيقة السلفية:
كتب هنري كوبان في تعليقه على كتاب شارل سان برو «مستقبل السلفية بين الثورة
والتغريب»[9]
عن حقيقة السلفية وعلاقتها بالتطرف، ودورها المقلق لعدوها في مقاومة التغريب، وكان
مما قال كوبان:
«يوضح
المؤلف أن السلفية الإسلامية تشكل أفضل رد على الانحرافات المتعصبة والمتطرفة، وعلى
التغريب الذي أدى إلى إنكار الحضارة الإسلامية، وبين الثورة والارتهان تُشكِّل
السلفية التي تنبض بالحياة تعبيرًا عن إسلام يجب أن يسعى إلى التوفيق بين الإيمان
بالعقيدة الثابتة ومظاهر التطور، وذلك عبر ممارسة الاجتهاد الذي يشكل مبدأ الحركة
في بنية الإسلام»[10].
الباحث الأكاديمي الدكتور «شارل سان برو» وهو المؤرخ الفرنسي المتخصص في العلوم
السياسية ومدير مرصد الدراسات الجيوسياسية في باريس والأستاذ في كلية الحقوق قد
دوَّن بعض الحقائق في كتابه: «مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب» عن مزاعم التطرف
في الفكر السلفي، وكان مما قال:
«إن
الادعاء بأن السلفية تؤدي إلى التطرف، أو أنها متطرفة هو قول مغلوط، لقد استخدم
الراديكاليون المتطرفون، والثوريون والخوارجيون،
-
دون وجه حق - عبارة خاصة بالسلفية السنية المستقيمة، في حين أن مراجعهم
الأيديولوجية الحقيقية مختلفة تمامًا»[11].
وعن حقيقة السلفية
(المنهج
السلفي)
ودورها البارز في الإصلاح والتطوير ومواجهة الانحرافات كتب برو:
«منذ
أكثر من قرنيين راجت التحليلات والروايات غير الموضوعية التي تناولت المنهج السلفي،
ولا بد من الاقتناع بأن شيخ نجد
[محمد
بن عبدالوهاب]
قد أقضَّ مضجع كثير من الناس الذين وصل بهم الأمر إلى هذا الحد من العداء له، لكنه
هو الذي جَدَّد السلفية في مواجهة الانحرافات الأكثر خطورة، والذي أطلق الإصلاح
الذي يحتاج إليه الإسلام، وكي نفهم بصورة أفضل هذا الرجل الذي ما انفك مجهولًا من
جانب كبار العاملين في التاريخ، يجب بادئ ذي بدء الاهتمام بالعديد من أحداث حياته،
ومن ثَمَّ يجب الاستناد إلى أعماله التي تُعد بكل بساطة أعمال مفكر سلفي وإصلاحي»[12].
وبما أن عقدة الليبروصفوية مع السلفية
(المنهج
السلفي)
هي الزعم بعدم قدرتها على مواكبة التطوير والتحديث والإصلاح
-
كما يَدَّعون
-
فإن الدكتور شارل برو وصفها بعكس ذلك تمامًا من خلال الشرح والتحليل عن تجربة الشيخ
المجدد محمد بن عبدالوهاب، وأكَّد أنها تتضمن قيم الإصلاح وعوامل النهضة، وعنها كتب
تحت عنوان:
«أصول الإصلاح» فقال:
«وكان
شيخ نجد محمد بن عبدالوهاب رائد المذهب الإصلاحي، قد استعاد بأسلوبه الخاص وفي سياق
تاريخي واضح جدًا الأصول الأساسية للسلفية، وأعطى زخمًا جديدًا للإسلام الذي كان
غارقًا في سبات عميق، ورغم الخصوم الأقوياء الذين حاربوا هذه الحركة الإصلاحية، فمن
الثابت أن تأثيره كان هائلًا نظرًا لكونه في أساس يقظة الإسلام وتجدُّده»[13].
وعن النهضة الفكرية والثقافية لدعوة الـمُجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وما فيها من
الحداثة والتحديث، ومقاومة التغريب، والتحصين من مخاطر التعددية الفكرية التي تؤدي
إلى إضعاف مناعة الأمة وحصانتها وتفكيك قوة الوحدة السياسية والوطنية أو الإجهاز
عليها، كتب برو:
«يمكن
عَدّ محمد بن عبدالوهاب رائدًا لحركة الإصلاح في الإسلام؛ لأنه طرح مسبقًا تساؤلات
طورها لاحقًا أولئك الذين أُطلقت عليهم تسمية إصلاحيين وأحيانًا حداثيون، وبعيدًا
عن كونه مذهبًا جديدًا، تحدد فكرة محمد بن عبدالوهاب بأنها حركة إصلاحية:
(تنتمي
الوهابية إلى جملة الإصلاحات الإسلامية التي شهدها القرن الثالث عشر الميلادي)
أي أن هذه الإصلاحات التي كانت إذا صح القول بالنسبة إلى الإسلام هي ما تشبه عصر
النهضة بالنسبة إلى أوربا
(العودة
إلى الأصول)»[14].
ويؤكد الباحث نفسه عكس ما يُثار عن الحنبلية والسلفية ومزاعم الجمود الفقهي لدى
المنهج السلفي بقوله إن السلفية الحنبلية تظهر وقت الأزمات، فيقول ناقلًا عن
المستشرق «لاوست»:
«الإسلام
السلفي يعد مذهبه مكونًا جوهريًا في الثقافة الإسلامية، ومع الرغبة في الحسبان
(أن
المذهب الحنبلي بشخص مُؤسِّسِه وأهم أتباعه أصبح أحد العناصر المكونة للثقافة
الإسلامية)،
وأصبح من الضروري التعرف بشكل أفضل إلى فكر ابن حنبل الذي كان له تأثيره على العديد
من المثقفين والمفكرين والمسلمين، وبخاصة الطليعيين كالشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأهم
رواد التيار الإصلاحي الذي اشتهر في نهاية القرن التاسع عشر»[15].
ويؤكد برو انفتاح السلفية
(المنهج
السلفي)
- عكس مزاعم الليبروصفوية
-
حينما قال عنها:
«السلفية
خير تعبير عن وسطية الإسلام وقدرته على التوفيق بين الإيمان والانفتاح».
كما تقول الباحثة الأمريكية «ناتانا دي لونج باس» عن الحوار والمناظرة في المنهج
السلفي السياسي:
«دعا
محمد بن عبدالوهاب إلى المناظرات والحوار أكثر مما دعا إلى العنف والحرب، لأن
الحوار هو الطريقة المثُلى للتعامل مع هؤلاء، آمن بقيمة الحوار والمنطق الأكثر
إقناعًا من الحرب»[16].
من خلال ما سبق من اقتباسات يتأكد أن إلصاق تهم التشدد والتكفير والظلامية ومنبع
الإرهاب بالسلفية أو المنهج السلفي، تحت أي مُسمى كان له أجندته الخفية والظاهرة،
حيث إن هذه المزاعم تصب بشكل مباشرٍ وغير مباشر في هدم المشروع الأساس للأمة
المتمثل بوحدتها الفكرية، وهذا يعد جناية بحق الوحدة الفكرية للأمة أو المنهج
السلفي، وهو بالتالي يعد خدمة لأعداء رسالة الوطن، فتفتيت وحدته الفكرية إضعاف
لأساس وحدته السياسية، ومن المسلَّمات أن أي أمة تفقد هويتها العقدية ووحدتها
الفكرية يسهل توجيهها، وتقوى فيها السيطرة للوافد الفكري سواء على الفرد أو على
المجتمع والدولة.
فحسب ما سبق فإن استهداف السلفية ومنهجها ورموزها عبر القرون هو في حقيقته استهداف
للإسلام ذاته القائم على منهج الكتاب والسنة، فالسلفية منهج في الاستدلال - كما سبق
-
تتشارك في هذا المنهج جميع جماعات أهل السنة والجماعة، والاستهداف لهذا المنهج
بانتقاص رموزه التجديدية والإصلاحية مثل ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب مما يؤكد
حقيقة المشروع العالمي «الحرب الصليبية والصفوية الحديثة» لإيقاف مدِّ الإسلام
وانتشاره وانتصاره، ولكن الله وَعَدَ ووعده الحق كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
(4)
الإسلام السياسي والإسلام المرفوض:
العقيدة والسياسة توأمان في المنهج السلفي لا ينفك أحدهما عن الآخر، بل هما الهوية
الحقيقية لأي دولة إسلامية، وتتأكد هذه التوأمة لأي دولة في جزيرة العرب، حيث لا
خيار غير الإسلام على منهج السلف الصالح، وهذا المنهج هو الهوية الحقيقية لبلاد
الحرمين
(السعودية)
بغض النظر عن أي ممارسة خاطئة في حقه، كتب المفكر الفرنسي «د. شارل برو» عن الإسلام
السياسي[17]
وأهمية الحسبة - وهما عدوان لدودان للمشروع الليبروصفوي التغريبي
-
في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حيث وُلدت الدولة السعودية من رحم الدعوة السلفية،
وكان مما قال:
«أما
بالنسبة إلى محمد بن عبدالوهاب فكان الأمر يتعلق بإصلاح العلاقة بين السياسي
والديني، أي بإعادة بناء دولة إسلامية حقيقية تقوم على أسس سليمة، تطبق الشريعة
المقدسة، وتحرص على أن يسود العدل، وتعمل على تشجيع الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر طِبقًا للشريعة العامة الإسلامية السلفية، وكان لا بد من ترجمة ذلك إلى
وقائع، والحال هذه كانت تنتشر في سائر أنحاء المنطقة تقريبًا عادات غريبة وطقوس
خرافية ومعتقدات تناقض العقل والدين»[18].
ولهذا فإن المزاعم تسقط حينما تكون الحوكمة أو المحاكمة لهذا المنهج على التشريعات
البريئة من الممارسات الخاطئة بحق المنهج.
فعقيدة المنهج السلفي قائمة أصلًا على السياسة الشرعية التي تقوم على سيادة الأمة
وحريتها من الرِّق، وهذه السيادة هي ما يُسمى اليوم على سبيل الذم «الإسلام
السياسي»، وبما أن هذه العقيدة - التي شوهها كثير من الممارسات السياسية
-
تقوم على استقلالية الأمة الإسلامية، وترسِّخ مبدأ السيادة للأمة والقيادة الذاتية
والحرية من التبعية الشرقية أو الغربية، فقد واجه هذا المنهج الهجوم الشرس والتشويه
من «الليبروصفوية» وأسيادهم لإطفاء نور حقيقة وجوهر الإسلام كما قال أحد المفكرين:
إن إسلام الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وحج وعبادات وزهد ليس معنيًّا بعداوة
الأعداء، لكن الخصومة الحقيقية للإسلام هو الذي ينازعهم السلطة أو السيادة في توجيه
العالم وبنائه على مثاليات و«قِيَم أخرى لا يؤمن بها الغرب».
ولهذا الاعتبار استحدث الغرب وتبعهم ليبراليو العالم العربي ودعاة الليبرالية
السعودية مصطلح «الإسلام السياسي» عن أهل السنة فقط بصورة التشويه والتنفير، بالرغم
أنه يعني السيادة والاستقلال السياسي - كما سبق
-،
وقد عبَّر عن هذا الواقع الدكتور مصطفى محمود
-
رحمه الله
-،
وكان مما قال:
«حينما
يصرِّح الساسة في الغرب بأنهم لا يعادون الإسلام، وأنهم ليسوا ضد الإسلام كدين،
فإنهم يكونون صادقين بوجه من الوجوه..
إذ لا مانع عندهم أبدًا من أن نصلي ونصوم ونحج ونقضي ليلنا ونهارنا في التعبد
والتسبيح والابتهال والدعاء..
ونقضي حياتنا في التوكل، ونعتكف ما نشاء في المساجد، ونوحد ربنا ونمجده ونهلل له،
فهم لا يعادون الإسلام الطقوسي..
إسلام الشعائر والعبادات والزهد..
ولا مانع عندهم في أن تكون لنا الآخرة كلها.
فهذا أمر لا يهمهم..
ولا يفكرون فيه..
بل ربما شجعوا على التصوف والاعتزال وحالفوا مشايخ الطرق الصوفية ودافعوا عنهم..
ولكن خصومتهم وعداءهم هي للإسلام الآخر..
الإسلام الذي ينازعهم السلطة في
(توجيه
العالم وبنائه على مثاليات وقيم أخرى)..
الإسلام الذي ينازعهم الدنيا ويطلب لنفسه موقع قدم في حركة الحياة..
الإسلام الذي يريد أن يشق شارعًا ثقافيًّا آخر...
ويُرسي قِيَمًا أخرى في التعامل ونماذج أخرى من الفن والفكر.
الإسلام الذى يريد أن ينهض بالعلم والاختراع والتكنولوجيا..
ولكن لغايات أخرى غير التسلط والغزو والعدوان والسيطرة.
الإسلام السياسي..
الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الحضاري
والتغيير الكوني، هنا لا مساومة، ولا هامش سماح.
وإنما حرب ضروس.
هنا سوف يطلق الكل عليك الرصاص!!
وقد يأتيك الرصاص من داخل بلدك الإسلامي نفسه!!
النمط الغربي للحياة تحول الآن إلى قلعة مسلحة ترفض أي منافس أو بديل..
والصدام هو قَدَر كل من يحاول أن يخرج بالإسلام من دائرة المسجد ويسعى به خارج
التَّكِيَّة الصوفية»[19].
ولذلك فإن الإسلام المرفوض هو ما يُسمى الإسلام السياسي اليوم، والمقصود بتوضيح
أكثر عن الإسلام السياسي:
أن يكون الدين الإسلامي بعقيدته وشريعته هو المحرك الرئيسي والضابط للحاكم
والمحكوم، والإسلام السياسي:
أن تكون الشريعة الإسلامية لها الحاكمية المطلقة على الجميع في جميع شؤون الحياة.
وبما
سبق فإن الإسلام السياسي يُصبح صفة مدح وثناء للمؤمنين بتطبيق الشريعة سياسيًّا
واقتصاديًّا واجتماعيًّا[20]،
وقد استخدم المصطلح للذم من قبل بعض الحركات العلمانية المعادية للمؤمنين بتطبيق
الشريعة، بل استخدموه وسيلة انتقاص واستعداء،
وربط بعضهم ذلك بما يُسمَّى «ولاية الفقيه» عند الشيعة
للتنفير من الحاكمية السياسية الشرعية السنية للشريعة الإسلامية، خلافًا
للإسلام السياسي الشيعي وأيديولوجيات ولاية الفقيه وتصدير الثورة، فهي لا تدخل ضمن
هذا الهجوم المنظم.
وقد عَرَّف بعض الباحثين هذا المصطلح بقوله:
«مصطلح
سياسي وإعلامي وأكاديمي استخدم لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره
نظامًا سياسيًّا للحكم».
ويمكن تعريفه بالتالي:
«مجموعة
من الأفكار والأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية والتي يستخدمها مجموعة
(المسلمين
الأصوليين)
الذين يؤمنون بأن الإسلام ليس عبارة عن ديانة فقط، وإنما عبارة عن نظام سياسي
واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة»[21].
(5)
الوهابية بعيون غربية:
كتبت الباحثة الأمريكية «ناتانا دي لونج» عن إحدى الفزاعات الغربية الحديثة، ومنها
السلفية وما يُسمَّى بالوهابية، مما يكشف عن الحقيقة، فقالت بحيادية علمية بعد أن
قادها الفضول العلمي للوصول إلى الحقيقة:
«بعد
الحادي عشر من سبتمبر تُعرَّف
(الوهابية)
من قبل الحكومات، والمحللين السياسيين، ووسائل الإعلام بأنها
(التهديد
الإسلامي)
الرئيس الذي يواجه الحضارة الغربية، وبأنها مصدر إلهام أسامة بن لادن وشبكة القاعدة
التابعة له، وقد أصبحت ذات سمعة سيئة نتيجة تأثيرها السلبي في الإسلام والجوامع
والمدارس على نطاق عالمي، وهي توصف بأنها راديكالية متطرفة تزدري الطابع العصري،
وتكره النساء، وذات طبيعة قتالية، وقد وُصِفَتْ بأنها ذات نظام إسلامي فاشيٍّ يتبع
تقاليد الشيوعية والنازية.
وتُتهم بأنها تلهم التطرف الديني القتالي لحركات تمتد من الطالبان في أفغانستان إلى
من يُطلق عليهم اسم
(الوهابيين)
في آسيا الوسطى وشبكة القاعدة التابعين لأسامة بن لادن، وهي قد جُعلت هدفًا في أنها
أكثر تزامنًا بين جميع تفاسير الإسلام، وتسعى إلى فرض نفسها وحدها بصفتها المعبرة
عن الإسلام الحقيقي، ويشار إلى أن التعاليم
(الوهابية)
في الأغلب على أنها
(خطاب
متعصب)،
ويطلق على
(الوهابية)
نفسها صفة
(التعبير
الأكثر رجعية عن الإسلام)،
و(إحدى
أكثر الحركات الإسلامية خوفًا من الأجانب)»[22].
وكانت دوافع الفضول لدى هذه الباحثة الأمريكية بسبب الصور النمطية السلبية عن
السلفية والوهابية والأصولية الإسلامية بحسب التعبيرات الغربية باعثًا للبحث عن
الحقيقة لتلك الصور النمطية خاصةً عن محمد بن عبدالوهاب وتراثه، ففي رسالتها
العلمية
(الدكتوراه)
من جامعة «جورج تاون» توصلت إلى نتائج عكسية، ومما قالت عن نتائج بحثها في مقابلة
صحفية معها:
«وجدت
الاعتدال والعقلانية والعمل العلمي المؤصل في ثروة ابن عبدالوهاب العلمية...
من الأعمال العلمية المغلوطة والمليئة بالكذب هما مرجعية الغرب عن فكر الشيخ ابن
عبدالوهاب لقد قالوا لي:
إن رسالة التوحيد لابن عبدالوهاب
(بيان
حرب)!!...
لم أرَ أي شيء ينم عن العنف في هذه الرسالة على الإطلاق، بل كلام علمي معتدل عقلاني
لا لبس فيه ولا غموض...»[23].
وعن الوهابية، وأنها ليست مذهبًا خاصًا كما يطلقه بعض الخصوم، وإنما هي مذهب أهل
السنة والجماعة ومصدر نهضتهم ومجدهم، كتب الباحث الأمريكي «لوثروب ستودارد» فقال:
«محمد
بن عبدالوهاب الذي أشعل نار الوهابية فاشتعلت، واتقدت، واندلعت ألسنتها إلى كل
زاوية من زوايا العالم الإسلامي...
أخذ هذا الداعي يحضُّ المسلمين على إصلاح النفوس، واستعادة المجد الإسلامي القديم
والعز التليد».
كما كتب الباحث نفسه عن حقيقة الحركة الوهابية ودورها الإصلاحي العالمي، فقال عنها:
«بدأت
اليقظة الكبرى في عالم الإسلام، فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة
غرضها إصلاح الخرق، وفسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليم
المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام والأخذ به على أوله وأصله ولبابه
وجوهره...»[24].
وتكشف الباحثة الأمريكية «ناتانا دي لونج» الستار عن مدى الصورة النمطية عن محمد بن
عبدالوهاب وعن الدولة التي قامت على دعوته من خلال قراءتها لجميع تُراث ابن
عبدالوهاب - كما قالت
-،
فتقول:
«كان
محمد بن عبدالوهاب - كما يظهر في أعماله المكتوبة
-
عالمًا وفقيهًا حسن التدريب وواسع التجوال، إضافةً إلى كونه كاتبًا كثير الإنتاج،
وتملأ أعماله المكتوبة الموجودة أربعة عشر مجلدًا ضخمًا، تتضمن مجموعة من الأحاديث،
وسيرة حياة النبي
(صلى
الله عليه وسلم)،
ومجموعة من الفتاوى، وسلسلة من التعليقات التفسيرية للقرآن الكريم، وعدة مجلدات في
الفقه، وعددًا من الرسائل الدينية، وغيرها من الأعمال المتنوعة التي تتضمن مناقشات
مفصلة عن الجهاد ومكانة النساء، إن مجال معرفته يقف على مضادّةٍ واضحة للفتاوى
القليلة التي أصدرها أسامة بن لادن، والأكثر أهمية إن إصراره على التمسك بالقيم
القرآنية، مثل المحافظة القصوى على الحياة البشرية حتى في وسط الجهاد بصفته حربًا
مقدسة، والتسامح مع الأديان الأخرى، وتأييد توازن الحقوق بين الرجال والنساء يؤدي
إلى نظرة شاملة مختلفة جدًّا عن نظرة المتطرفين القتاليين المعاصرين، إن غياب الخوف
من الأجانب، والنزعة القتالية، وكراهية النساء، والتطرف، والحرفية المرتبطة على نحو
نموذجي بالوهابية، كلها تثير أسئلة جدية عن كون مثل هذه الأفكار
(متلازمة)
هي والوهابية»[25].
الباحثة الأمريكية «ناتانا دي لونج باس» في بحثها
-
سابق الذكر
-
عن حقيقة دعوة محمد بن عبدالوهاب وتراثه كشفت في مقابلة صحفية عن حقيقة الدعوة، وأن
الاستهداف يتم من خلال محاولات تشويه رموز التجديد والإصلاح وحقيقة دعوتهم، ومما
قالت:
«توقعت
أن أجد الكثير من المواد في كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي تشجع على العنف وتدعو
إلى الجهاد وتصنف كل من ليس بوهابي على أنه كافر وهذا ما لم يكن، حالَمَا قرأتُ
كتاب التوحيد تغيرت توقعاتي، لقد أدركت أن معظم الناس قد أساؤوا فهم هذه الرسالة
على أنها
(بيان
حرب)،
لقد كان كتاب التوحيد حقًا بحثًا مستفيضًا في مضامين التوحيد، كان عملًا علميًّا
رصينًا هادئًا، وليس دعوة إلى الحرب، وعند قراءة الكتاب في سياق جميع كتابات الشيخ
يبدو واضحًا أنها عبارة عن رسالة في الإلهيات تناقش مسؤوليات جميع المؤمنين، وكذلك
موضوع الجهاد والزواج والمرأة فقد سقطت عندي الصورة النمطية التي تشاع عن الوهابيين...
ابن تيمية هو الآخر ظُلم وكُذب عليه ولم يقل شيئًا من ذلك...
لعل ما أصاب ابن تيمية هو مماثل لما أصاب ابن عبدالوهاب من ظلم وكذب وتحريف»[26].
كما كتب غير هؤلاء عن حقيقة هذه الدعوة فقال عنها المستشرق
(بركارت):
«لم
تكن المبادئ التي جاء بها ابن عبدالوهاب مبادئ دين جديد، وإنما كانت جهوده منصرفة
إلى إصلاح ما فسد من معتقدات المسلمين»[27].
وكتب كبير المستشرقين «جلد سيهر»:
«إن
الوهابيين أنصار للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي محمد
(صلى
الله عليه وسلم)
وأصحابه، فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان»[28].
وبما سبق من حقائق في هذا المقال ينكشف سر الهجوم المُنظَّم على الهوية الحقيقية
لأي مسلم من قبل دعاة الليبرالية والصفويين
(الليبروصفوية)
بقاسم مشترك، وهو إضعاف أو إسقاط مصدر الوحدة الفكرية للأمة الإسلامية، وهو ما يتفق
مع المشروع الصهيوأمريكي القائم على عداوة منهج أهل السنة والجماعة والإجهاز على أي
مشروع سيادي للأمة، لأن المنهج السلفي المنشود قادر على الإصلاح والتطوير، بل
واستيعاب الحداثة والتحديث، ومقاومة التغريب، والتحصين من التعددية الفكرية التي
تؤدي إلى إضعاف الوحدة السياسية للأمة أو تمنع قيامها، فالمنهج السلفي بديل حضاري؛
لنهضة الأمة الإسلامية، يؤدي إلى سيادتها وريادتها، وهذا من أبرز أسباب الخصومة
والاستعداء المحَلِّي والعالمي. وبالله التوفيق.
:: مجلة البيان العدد 337 رمضان 1436هـ، يونيو - يوليو 2015م.
[1]
انظر على سبيل المثال صحيفة الجزيرة السعودية، بعنوان:
«المسكوت عنه:
السلفية على فراش الموت»، للكاتب الدكتور:
حمزة السالم، العدد
14959، بتاريخ
6/11/1434ﻫـ.
[2]
انظر للمزيد عن هذه الأقوال الكتاب القيم للشيخ خليفة بن بطاح الخزّي:
«الليبراليون الجدد
–
الواقع المحلي» المحور الأول:
الانحرافات العقدية، الفصل الأول.
[3]
انظر:
الدكتور شارل سان برو، «الإسلام - مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب»، ص
163.
[4]
انظر:
د. محمد نبيل مُلين «علماء الإسلام
-
تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية بين القرنين الثامن عشر والحادي
والعشرين»، ص
207،
ترجمة:
محمد الحاج سالم، وعادل بن عبدالله، الطبعة
الأولى
2011م.
نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر - بيروت.
[5]
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، حديث رقم:
(6428).
[6]
انظر:
شارل سان برو.
«مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب»، ص
424.
[7]
انظر المصدر السابق ، ص
147.
[8]
انظر مقال صحيفة الرياض: «أبعاد مشروع أم القرى المزعوم»، د. حمد اللحيدان، على
الرابط التالي:
http://www.alriyadh.com/863442
[9]
كتاب برو هو:
«عن حقيقة السلفية وتاريخها العريق ودورها في مقاومة التغريب والتطرف»، وطبعته
مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض (حوالي
500
صفحة)،
وهو كتاب وثائقي ودراسة تحليلية بنتائج باهرة من شخصيةٍ لا تنتمي لهذا الدين، عدا
عن الانتماء للمنهج الذي قام بالبحث فيه وعنه، ولذلك يُنصح بقراءته.
[10]
انظر شارل سان برو، «مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب»، ص
13،
ترجمة: وجيه جميل البعيني، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، الرياض - السعودية،
1431هـ/2010م.
[11]
انظر المصدر السابق، ص
425.
[12]
انظر المصدر السابق، ص
239.
[13]
انظر المصدر السابق، ص
214.
[14]
انظر المصدر السابق ، ص
267.
[15]
انظر المصدر السابق ، ص
147.
نقلًا عن:
لاوست هنري،
LAOUST Henri.
[16]
انظر:
ناتانا دي لونج باس.
«دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
-
من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي»، ص
185.
[17] بقصد
بـ«الإسلام السياسي»
في لغة الغرب:
الإسلام الذي يعتقد معتنقوه أنه يحكم الشؤون السياسية من الحياة، أو أن الإسلام دين
ودولة.
[18]
انظر:
شارل سان برو.
«مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب»، ص
247.
[19]
انظر مصطفى محمود - رحمه الله
-
«الإسلام السياسي والمعركة» ص
17،
18.
[20]
أدرك الملك عبدالعزيز أن الإسلام السياسي هو الموحد الحقيقي للدولة السعودية، كما
هو محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود.
[21]
انظر:
الموسوعة الحرة، على الرابط التالي:
http://4i.ae/SWsO
[22]
انظر:
ناتانا دي لونج باس «دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
-
من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي»، ص
29-30،
ولها مصادرها التي ذكرتها في أصل الكتاب، ترجمة د. عبدالله بن إبراهيم العسكر، دارة
الملك عبدالعزيز، الرياض
–
السعودية،
1433هـ.
[23]
انظر:
المقابلة الشخصية، صحيفة الرياض، العدد
16236،
بتاريخ
20/2/1434ﻫـ،
عن كتابها بالطبعة العربية بعنوان:
«دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
-
من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي» نشر دارة الملك عبدالعزيز ، الرياض ،
1433هـ،
على الرابط التالي:
http://www.alriyadh.com/2013/01/02/article797986.html
[24]
انظر:
محمد بن عبدالله بن حمد السكاكر.
«الإمام محمد بن عبدالوهاب
–
حياته
–
آثاره
–
دعوته السلفية»، ص
287–288،
مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، الرياض
–
السعودية،
1434هـ/2013م.
نقلًا عن:
«حاضر العالم الإسلامي»، تعريب الأستاذ عجاج نويهض، ج1:
ص260،
طبعة دار الفكر.
[25]
انظر:
ناتانا دي لونج باس.
«دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
-
من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي»، ص
34.
[26]
انظر عن المقابلة الشخصية كاملة صحيفة الرياض، العدد
16236،
بتاريخ20/2/1434ﻫ،
عن كتابها بالطبعة العربية بعنوان:
«دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
-
من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي»، على الرابط التالي:
http://www.alriyadh.com/2013/01/02/article797986.html
[27]
انظر:
محمد بن عبدالله بن حمد السكاكر «الإمام محمد بن عبدالوهاب
–
حياته
–
آثاره
–
دعوته السلفية»، ص
289.
نقلًا عن:
«تاريخ البلاد السعودية»، للدكتور منير العجلاني، ج1
ص211.
[28]
انظر المصدر السابق، ص
290.
نقلًا عن:
كتاب: «بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبدالوهاب»، ج1
ص309،
وكتاب «العقيدة والشريعة» جلد سيهر.