قال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط سمي العراق بهذا الاسم «لتواشج
عراق النخل والشجر فيها، أو لأنه استكفّ أرض العرب، أو سمي بعراق المزادة لجلدة
تجعل على ملتقى طرفي الجلد إذا خرزت أسفلها؛ لأن العراق بين الريف والبر، أو لأنه
على عراق دجلة والفرات أي شاطئيهما، أو معرب إيران شهر، ومعناه كثير النخل والشجر».
العراق تلك الدولة، أو الحضارة، التي لها العديد من الأسماء، والتي ترد على الفكر
الإنساني بمجرد المرور على ذكر هذه البلاد، سواء في كتب التاريخ، أو الصحافة، أو
الإعلام، ومن أبرز أسماء العراق: بلاد
سومر، وبلاد أكد، وبلاد بابل، وبلاد الرافدين، بلا ما بين النهرين، أرض السواد،
وغيرها.
وما تذكر الحضارات والعلوم إلا وذكرت البصرة والكوفة وبغداد، وهي حواضر الدنيا، في
زمن كانت العلوم في بداية نشأتها، وكانت تلك المدن في مرحلة من المراحل قبلة لطلاب
العلم والآداب من شتى أرجاء المعمورة.
العراق بعد عام 2003،
انقلبت فيه الموازين، وانقلبت المشاهد، وحُرفت الحقائق، وزور التاريخ القريب، وصار
الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمجرم بريئاً، والبريء مجرماً، والمحتل محرراً،
والمقاوم للمحتل إرهابياً، وهكذا دواليك، إلى أن صارت المليشيات الإجرامية هي
المطبقة للقانون، ومن يتهمها بالقتل والإرهاب يكون إرهابياً!
وهنا سنحاول الحديث عن بعض جرائم المليشيات وأسباب تركيزها على بعض المناطق في
العراق؛ ولاتساع رقعة الانتشار المليشياوي في العراق، سأحاول أن أُركز على مناطق
متفرقة في غرب وشمال وشرق العراق، وتحديداً محافظة ديالى، ومناطق حزام بغداد.
المليشيات صارت ظاهرة بارزة في الواقع العراقي، وفي منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014،
كشفت منظمة العفو الدولية في تقرير لها حول العراق كان بعنوان:
«إفلات
تام من العقاب: حكم
المليشيات في العراق»،
تفاصيل مروعة للهجمات الطائفية التي تشنها المليشيات الحكومية في بغداد وسامراء
وكركوك، وهي التي ما انفكت تكتسب المزيد من القوة؛ وذلك ضمن ما يظهر أنه انتقام من
الهجمات التي تشنها جماعة مسلحة تطلق على نفسها اسم «الدولة
الإسلامية»؛
وتم العثور على عشرات الجثث مجهولة الهوية في مختلف مناطق البلاد، وقد قُيدت أيادي
أصحابها خلف ظهورهم ما يشير إلى وجود نمط من عمليات قتل على شاكلة الإعدامات
الميدانية».
وذكرت المنظمة الدولية «أن
من أهم الملاحظات تحديد أهم وأكبر المليشيات التي ترتكب جرائم حرب، وعددها أربع،
وهي: مليشيا
منظمة بدر، وجيش المهدي، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله؛ والتي تضم عشرات الآلاف
من الشيعة، وهي تعمل بشكل بعيد عن المراقبة الحكومية، وعن أي مساءلة كونها خارج أطر
القانون كما نقل من التقرير، ولكن تستمر في جرائمها بمباركة الحكومة، التي تسيطر
عليها الأحزاب الشيعية بحجة تقاعس الجيش وهروبه أمام تنظيم الدولة الإسلامية قبل
أشهر في نينوى، وأن المنظمة لاحظت تداخل المليشيات ضمن القوات الحكومية لدرجة
استعمال مقراته وآلياته وتقسيماته العسكرية، ورُصدت الدوريات المشتركة للجيش
والمليشيات في حالات عديدة في مناطق متعددة.
الإرهاب المليشياوي اليوم منتشر بوضوح في العديد من المدن العراقية، وهنا سنحاول
الحديث عن بعض هذه المناطق، التي تسيطر عليها المليشيات، ومنها محافظة ديالى،
ومناطق حزام بغداد.
المليشيات ومحافظة ديالى
محافظة ديالى، هذه المدينة الجميلة، فبعد أن كان اسمها - في
يوم من الأيام - مدينة
البرتقال، وأنا أحب أن أسميها مدينة القداح، تعود اليوم مرة أخرى لتحصل على لقب
جديد ألا وهو مدينة الرعب والمليشيات والاختطاف.
هذه المدينة ليست في غابات إفريقيا، ولا من مقاطعات ولاية تكساس الأمريكية، ولا من
المدن النائية، وإنما هي مدينة عراقية تقع شمال شرق العاصمة بغداد، ولا تبعد سوى 45 كيلومتراً
عنها، إنها محافظة ديالى، ومركزها مدينة بعقوبة.
هذه المدينة عانت الأمرين فبعد أن استخف بأرواح أهلها ثلة من القتلة والمجرمين،
الذين يرتدون زي الأجهزة الأمنية، نجد أن هذه المحافظة تتعرض في كل ساعة لهجمة
منظمة شرسة من عناصر مليشيات الحشد الشعبي الإجرامية، الذين جعلوا من مكافحة
الإرهاب حجة لنشر الإرهاب، وإرهاب هذه المليشيات مستمر ليلاً ونهاراً في مدن
المقدادية وبعقوبة والخالص ودلي عباس، والسعدية، والعبارة والسادة، والكاطون وحي
المعلمين وحي التحرير، وغيرها من المدن والأحياء والقرى في عموم المحافظة.
جرائم المليشيات يعلم بها ساسة المنطقة الخضراء، وكذلك ساسة البيت الأبيض، وفي
منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2014،
وفي كلمة له بمؤتمر بولاية أريزونا الأميركية لدعم مجاهدي خلق في مخيم «ليبرتي» بالعراق،
كشف الجنرال جورج كيسي القائد العام للقوات الأميركية المحتلة للعراق للفترة من عام 2004–2007 عن:
«وجود
ارتباط وطيد بين قوة فيلق القدس وبين المليشيات الشيعية في العراق، وأنه تم اعتقال
ستة من عناصر قوة فيلق القدس كانوا مجتمعين مع مليشيات شيعية لفيلق بدر، وتم العثور
أيضاً على وصولات الأسلحة وسجل دقيق لجميع الأسلحة والمعدات التي استلموها، كانت
هناك خريطة لبغداد تم التأشير عليها بالألوان وكانت هناك علامات توضح خطة لتهجير
السنة والمسيحيين من أقسام في بغداد واحتلالها من قبل المليشيات».
وفي بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر
طالب محافظ ديالى عامر المجمعي باستبدال قادة الأجهزة الأمنية في المحافظة على
خلفية انتشار المليشيات الطائفية وعدم السيطرة على الملف الأمني في المحافظة.
أهمية ديالى
تكمن أهمية محافظة ديالى في أكثر من مجال، ومنها:
- قربها
من العاصمة بغداد، فحدودها الشمالية والشرقية لا تبعد عن بغداد سوى 25 كيلومتراً
فقط، بينما يبعد مركز محافظة ديالى 45 كيلومتراً
فقط شمال شرق بغداد؛ لذلك فإن السيطرة على ديالى يعني تأمين بغداد من الجهات
الشرقية والشمالية.
- محافظة
ديالى فيها بعض المناطق، التي باتت تعرف تحت عنوان «المناطق
المتنازع عليها» بين
الحكومة المركزية والساسة الأكراد، الذين يسعون بجد لضم مدينتي خانقين وجلولاء إلى
إقليمهم؛ فلهذا فإن جميع الأطراف الحكومية والكردية حريصة على السيطرة عليها.
- وهناك
سبب اقتصادي يتمثل في توريد النفط الخام من مدينة خانقين في محافظة ديالى إلى مصفى
الدورة في بغداد، حيث إن هذا المصفى يزود بما يقارب 10 آلاف
برميل يومياً؛ ما يعني أن السيطرة على هذه المناطق النفطية ستؤدي لأزمة في المشتقات
النفطية؛ وبالتالي إرباك وإحراج حكومة بغداد أمام العراقيين والعالم.
- وهناك
سبب آخر وهو أن محافظة ديالى هي من مناطق التماس المباشرة بين العراق وإيران، وعليه
فإن كافة الأطراف السياسية والعسكرية الموالية للحكومة، ومنها المليشيات يعملون من
أجل إبعاد المسلحين عن المناطق الحدودية؛ لكي لا تشكل مصدر خطر على إيران.
آخر جرائم المليشيات في ديالى تمثلت بقطع الطريق الواصل بين بعقوبة والمقدادية،
واختطاف 14 مواطناً
كانوا يستقلون سيارة نقل عام، وفي اليوم التالي وجدوا مقتولين في الطب العدلي، وهذه
الجريمة جاءت بعد يوم واحد من قتل أحد الشباب في المقدادية وحرق جثته وسط السوق
الشعبي!
وقبل أيام أخبرتني إحدى مديرات المدارس الثانوية في ديالى أن إدارة المدرسة أخذت من
كل الطالبات أرقام هواتف أهلهن بسبب خطف البنات أثناء خروجهن من المدارس.
واليوم وبعد أن انسحب مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية من ناحية جلولاء والسعدية (180 كيلومتراً
شمال شرق بغداد) دخلت
بعدها قوات الحشد الشعبي لتلك المدينتين، وجدنا أن المقاتلين عاثوا في هاتين
المدينتين الفساد، وذكرت قوات البيشمركة الكردية أن مليشيات الحشد الشعبي هي التي
حرقت وسرقت أكثر من 800 محل
تجاري، وسرقت وحرقت أكثر من 250 منزلاً،
وحرقت عشرات المساجد، حيث إن ناحية السعدية دُمرت مساجدها بالكامل، ومدينة جلولاء
لم يسلم من التدمير فيها سوى تسعة مساجد؛ في حادثة تذكرنا بأيام التتار حينما غزو
عاصمة الرشيد.
ديالى هي صاحبة الحصة الأكبر من الإرهاب المليشياوي، والمؤلم أن قوات الحرس الثوري
الإيراني أسهمت في قتل العراقيين بدعم وإسناد قوات مليشيات الحشد الشعبي، وهذه
الحقيقة يعرفها الغرب والأمريكان قبل غيرهم، وفي نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر
نقلت صحيفة «نيويورك
تايمز» عن
مستشارين ومحللين أمريكيين أن المليشيات العراقية مدعومة من قوات الحرس الثوري
الإيراني، وأن هذه المليشيات تلقت تدريباتها في إيران!
المليشيات ومناطق حزام بغداد
جرائم المليشيات لم تتوقف في محافظة ديالى، بل هي اليوم واضحة في مناطق حزام بغداد.
ومناطق حزام بغداد أعتقد أن اسمها يكفي للدلالة على أهميتها، فهي تحيط بالعاصمة
العراقية من كافة الجهات، وفي الواقع فإن بعض هذه المواقع «مؤيدة» لحكومة
المنطقة الخضراء، وبالتحديد شمالي بغداد في منطقة الحسينية، التي تعد معقلاً مهماً
للتيار الصدري.
الحزام الجغرافي، الذي يحيط بالعاصمة بغداد، يشتمل في أغلبه على مناطق ريفيّة وأغلب
سكانه من العشائر المختلطة طائفياً. وهو
يمتد من جنوب بغداد حيث مناطق المحمودية واليوسفية وعرب جبور إلى مناطق الغرب، حيث
أطراف أبو غريب وإلى شمال شرق بغداد حيث منطقة المدائن.
ويمكن ذكر بعض أهم المناطق المحيطة ببغداد، وذلك على النحو الآتي:
- قضاء
المحمودية: جنوب
بغداد، ويسكنه نصف مليون نسمة تقريباً، ويضم المدينة وقرى مجاورة، وهو مسيطر عليه
من قبل حكومة بغداد.
- قضاء
أبو غريب: الواقع
غرب بغداد، ويضم المدينة وقرى مجاورة، والمطار الدولي وأشهر سجون العراق، ويسكنه
قرابة 750 ألف
نسمة، وهذا القضاء مسيطر عليه من قبل القوات الحكومية، وفيه عمليات كر وفر بين
عساكر الحكومة وأبناء العشائر.
- قضاء
التاجي: شمال
بغداد، ويسكنه نصف مليون نسمة، ويضم العديد من البلدات وفيه قاعدة عسكرية كبيرة،
واليوم جزء من القضاء بيد الثوار والآخر بيد الحكومة.
- قضاء
المدائن: جنوب
شرق بغداد، ويسكنه نحو 100 ألف
نسمة تقريباً، ويضم مدينة سلمان بك وقرى عدة، مسيطر عليه من قبل القوات الحكومية.
- قضاء
الطارمية: الواقع
شمال بغداد، ويسكنه نحو نصف مليون نسمة، ويضم بلدات صغيرة، جزء منه بيد الثوار
والآخر بيد الحكومة.
- قضاء
الحسينية: شرق
بغداد، واليوم يسمى قضاء الاستقلال، وهو الأكثر كثافة، إذ يعيش فيه أكثر من مليون
نسمة، ومسيطر عليه من قبل القوات الحكومية والمليشيات.
وبخصوص جرائم المليشيات في هذه المناطق، فإننا سنكتفي بما وثقته منظمة «هيومن
رايتس ووتش»،
حيث أكدت «مقتل 61 رجلاً
سنياً بين 1 يونيو/حزيران
و9 يوليو/تموز 2014،
ومقتل 48 على
الأقل من الرجال السنّة في شهري مارس/آذار
وأبريل/نيسان
في القرى والبلدات المجاورة لبغداد، والمعروفة باسم حزام بغداد، وأن المليشيات كانت
المسؤولة في جميع حالات القتل، وقال شهود العيان في كثير من الحالات إنها مليشيا
عصائب أهل الحق التي يشار إليها باسم (العصائب)».
أهمية مناطق حزام بغداد
هذه المناطق هي التي تحيط ببغداد إحاطة السوار بالمعصم، وتكمن أهميتها في أن:
- من
يسيطر عليها من أية جهة كانت يمكنه أن يخترق حدود العاصمة بغداد، وبالمحصلة سيكسر
هيبة الدولة ويحدث خرقاً كبيراً في عموم «الدولة
العراقية»،
ومن يسيطر على بغداد سيسيطر على عموم العراق.
- الحكومة
في بغداد تعلم جيداً الأهمية الكبيرة لمنطقة حزام بغداد من ناحية المعطيات الأمنية؛
وذلك لأنها جزء من ميدان المعركة الحالية بين الحكومة والثوار في العراق؛ لأن
غالبية هذه المناطق تعد نقاط التماس الأمامية بين مقاتلي الحكومة والثوار، وخصوصاً
في الجهات الغربية والشمالية.
- غالبية
هذه المناطق فيها مصانع عسكرية ومعامل مدنية ومؤسسات أمنية وعسكرية واقتصادية
كبيرة، وهذا يعني أن من يسيطر على هذه المناطق سيسطر على منشآت حيوية وفاعلة في
العديد من الجوانب الأمنية والاقتصادية والخدمية.
- معارك
الحكومة في جنوب بغداد لها أهمية كبيرة لإعادة التمركز الإيراني عسكرياً وشعبياً؛
لكون تلك المناطق تقع على تماس مباشر مع محافظات الجنوب، وهذا ما يعطي انطباعاً
لإيران أنها تُركت كقواعد آمنة ومتقدمة في عمقها لا بد من معالجتها كأولوية عسكرية
وإستراتيجية.
- هناك
بعض المناطق الحيوية من حيث الموقع ومنها الرضوانية القريبة جداً من مطار بغداد
الدولي، وعليه من يسيطر عليها يستطيع أن يشل حركة الدولة، وينشر الرعب ويوقف
الملاحة الجوية في أكبر مطار مدني في البلاد.
هذه الأسباب وغيرها هي التي جعلت حكومة المنطقة الخضراء تطلق يد المليشيات في هذه
المناطق؛ لأنها تدرك جيداً أهمية الجانب النفسي، والرعب الهمجي في تغيير موازين
القوة على الأرض.
نختم كلامنا عن المليشيات بما قالته منظمة «هيومن
رايس ووتش»،
في تقريرها المذكور سابقاً، حيث أكدت على أن «هذه
التقارير عن عمليات القتل التي تنفذها المليشيات، وغالباً على مرأى من قوات الأمن،
توحي بوجود نمط من القتل الطائفي، الذي يبدو أن الحكومة تجيزه. كما
أن استيلاء المليشيات على جهاز أمن الدولة هو علامة واضحة على أن ما تبقى من سيادة
القانون في العراق يتهاوى، وأنه نظراً لاحتمال استخدام المساعدات العسكرية، التي
تتلقاها الحكومة العراقية في دعم المليشيات، فإنه يتعين على الحكومات، التي تساعد
العراق عسكرياً وقف تقديم المزيد من هذه المساعدات؛ حتى تنهي الحكومة دعمها
لمليشيات مثل عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وألوية بدر، وعليها اتخاذ خطوات
لتحميل قادتها وعناصرها المسؤولية».
وهو ما دفع كبيرة مستشاري شؤون مواجهة الأزمات بمنظمة العفو الدولية «دوناتيلا
روفيرا» للقول:
«لقد
أظهرت الحكومات العراقية المتعاقبة استخفافها المشين بالمبادئ الأساسية لحقوق
الإنسان؛ ويتعين على الحكومة الجديدة أن تغير المسار الآن، وتنشئ آليات فعالة تكفل
التحقيق في الانتهاكات التي ترتكبها المليشيات الشيعية والقوات العراقية، ومحاسبة
المسؤولين عنها».
هذا بعض الصورة المخيفة لجرائم المليشيات في بلاد الرافدين، سواء في محافظة ديالى،
أو في مناطق حزام بغداد، وغيرها، وهي اليوم باتت مدناً للرعب والمليشيات، وعليه لا
يمكن تصور وجود دولة معتبرة في ظل هذا الفلتان الأمني المقصود، والذي تسبب بهجرة
وقتل الآلاف من الأبرياء، فأين دولة المؤسسات التي يتكلم عنها ساسة المنطقة
الخضراء؟!
:: مجلة البيان العدد 331 ربيع الأول 1436هـ، يناير 2015م.