تنوع الأساليب في دعوة الأنبياء
مِنَ الرسل مَنْ أرسله الله تعالى إلى قومه
خاصة، ومنهم من أرسله إلى العالمين عامة، ولهذا تنوّعت المعجزات؛ وهي خوارق
العادات التي أيّد الله تعالى بها رسله، وكلها معجزات حسية مادية لا تؤثر إلا فيمن
حضرها، إلا معجزة خاتمهم صلى الله عليه وسلم؛
فقد كانت عقلية وجدانية تخاطب العقل والوجدان إلى آخر الزمان.
ولقد تنوّعت – أيضاً
– العقوبات
الإلهية للمكذبين للرسل؛ فكان الغرق والخسف والريح والحجارة المسومة وغير ذلك؛ قال
تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم
مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]. وإلى
ما قبل نزول التوراة كانت هذه العقوبات استئصالية عامة؛ فينتقم الله تعالى من
الكافرين ويتولى ذلك بعذاب من عنده، وينجي المؤمنين وينصرهم ولم يكلفهم بمواجهة
المشركين ولا بمدافعتهم؛ وفي هذا يقول تعالى: {وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى
بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43]،
وفي تفسيرها يقول ابن كثير: يخبر تعالى عما أنعم به
على عبده ورسوله موسى الكليم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، من إنزال التوراة
عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى: {مِنْ
بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} يعني
أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله
من المشركين، كما قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَن قَبْلَهُ وَالْـمُؤْتَفِكَاتُ بِالْـخَاطِئَةِ 9 فَعَصَوْا
رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} [الحاقة: ٩،
10]؛
فبعد نزول التوراة انتهى العمل بسنة الاستئصال، ولم يعذب الله تعالى بعامة، وفرضت
سنة المدافعة؛ قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]،
ويقول القرطبي: (قوله تعالى: {وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} أَيْ
لَوْلَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ وَعَطَّلُوا مَا بَيَّنَتْهُ
أَرْبَابُ الدِّيَانَاتِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّهُ دَفَعَ بِأَنْ
أَوْجَبَ الْقِتَالَ لِيَتَفَرَّغَ أَهْلُ الدِّينِ لِلْعِبَادَةِ. فَالْجِهَادُ
أَمْرٌ مُتَقَدِّمٌ فِي الْأُمَمِ، وَبِهِ صَلَحَتِ الشَّرَائِعُ وَاجْتَمَعَتِ
الْمُتَعَبَّدَاتُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أُذِنَ فِي الْقِتَالِ،
فَلْيُقَاتِلِ الْمُؤْمِنُونَ. ثُمَّ قَوِيَ هَذَا الأمر
في القتال بقوله: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ»... الْآيَةَ،
أَيْ لَوْلَا هَذَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي
زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الْمَسَاجِدُ). وقوله تعالى: {إنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ
الْـجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم
بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١١١]؛
بيان بأن سنة المدافعة بالقتال فرضها الله تعالى على اليهود في التوراة، وأمرهم
موسى عليه السلام بقتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة.. كما
فرضها الله تعالى على النصارى فتركوها وابتدعوا الرهبنة، فكانت هذه السنة هي
الباقية المشروعة إلى آخر الزمان حتى يخرج الدجال وينزل المسيح عليه السلام؛ ففي
سورة محمد: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (آية: 4)؛
قال ابن كثير: (قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى
ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ
مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال»).. وكما
تنوعت عقوبات المكذبين السابقين الذين عملت فيهم سنة الاستئصال؛ تنوعت – أيضاً
– عقوبات
التاركين لسنة المدافعة؛ فكانت عقوبة بني إسرائيل لما نكثوا ونكلوا عن قتال
الجبارين وقالوا لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]؛
هي التيه في الأرض أربعين عاماً، وهي عمر هذا الجيل الناكل الناكث: {قَالَ
فَإنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]. أما
أتباع عيسى عليه السلام لما أمرهم بمدافعة أعداء التوحيد بالسيف وقال لهم: “ولا
تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل
سيفاً“ (آية 34 - 35 الباب
العاشر – إنجيل متى)؛
نبذوا وصاياه وابتدعوا الرهبانية؛ وهي التعبد في الصوامع والبيع، وجعلوها ديناً
وبديلاً عن الذي جاء به، وتركوا بذلك سنة مدافعة أهل الشرك؛ قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ
فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]؛
وذكر القرطبي في تفسيرها: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ
تَدْرِي مِنْ أَيْنَ اتَّخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّهْبَانِيَّةَ ظَهَرَتْ
عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةُ بَعْدَ عِيسَى يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَغَضِبَ
أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَاتَلُوهُمْ فَهُزِمَ أَهْلُ الْإِيمَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَقَالُوا إِنْ أَفَنَوْنَا فَلَمْ
يَبْقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ فَتَعَالَوْا نَفْتَرِقُ فِي
الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي وَعَدَنَا
عِيسَى - يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرَانِ الْجِبَالِ
وَأَحْدَثُوا رَهْبَانِيَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ- وَتَلَا (وَرَهْبانِيَّةً) الْآيَةَ)،
فعوقبوا بتسلط الرومان واليهود عليهم وتفرقهم حتى كان بين فرقهم وطوائفهم قتال؛
فبدل أن يقاتلوا عدوهم اقتتلوا فيما بينهم، وألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى
يوم القيامة. ومما لا شك فيه أن الأقدار لا تجامل، وأن
السنن لا تحابي ولا تستجيب للأماني، ولا تعترف بالدعاوى الفارغة ولا بالادعاءات
دون سند أو دليل؛ قال تعالى: {لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123]،
فكما عملت السنن في الأمم السابقة؛ فإنها عملت وما زالت تعمل في الأمة الإسلامية؛
فإن عقوبتها إذا تركت دينها وتخلت عن شريعة ربها ومدافعة أعدائها؛ هي أن يلبسهم
الله شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ
هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ
انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]. وإذا
تركت الأمة سنة المدافعة تبدّدت طاقاتها في صراعات داخلية، وسلط الله عليها الذل
والضعف والانكسار، وساد الشرك وعمّ الفساد في البلاد، وعلا أهل العناد وتسلطوا على
العباد؛ قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251].
وإذا نظرنا في أساليب الأنبياء ووسائلهم في
دعوتهم لأقوامهم؛ فسنجد أن التنوع سمة عامة في كل الدعوات؛ فكل نبي أو رسول يبدأ
دعوته باللين والحجج والبراهين وعرض الدليل تلو الدليل، ومع ذلك الصبر على أذى
المعارضين وتكذيب المكذبين، ثم مع تصاعد المواجهة وردود الأفعال تتغيّر المواقف،
وبيان ذلك فيما يلي:
1 - دعوة نوح عليه السلام: فقد
دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً مراعاة لأحوال الناس وطبائعهم؛ {فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا 6 وَإنِّي كُلَّمَا
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا 7 ثُمَّ
إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا 8 ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ
لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا} [نوح: ٦ - ٩].. فمن
الناس من يكون وعيه وإدراكه في النهار أكثر من الليل بحسب طبيعة نشاطه وسعيه في
الحياة، ومنهم من يكون أصفى ذهناً لسماع الدعوة وحججها وأكثر تقبلاً للموعظة
بالليل حيث يغلب السكون والتأمل، وهو ما لا يكون بالنهار. كما
أنه علم أن من الناس من يستنكف عن قبول دعوته إذا وجهت إليه جهراً أمام الملأ وفي
العلن؛ فأسر إليه بدعوته ليحرره من قيود وتأثيرات العقل الجمعي العام، وفي ذات
الوقت لم يترك الدعوة العلنية لجماهير الناس لتنشيط الحوار المجتمعي لتثبيت المواقف
وتمييز الاتجاهات. غير أن الأمور لم تستمر على هذه الوتيرة،
خصوصاً أمام الخصوم الذين اتهموه بالضلال، وانطلقت أبواق الدعاية المضادة لتسخر
منه وممن آمن معه، وسعوا للصد عن دعوته وصرف الناس عنه، وأمام هذا العداء والعناد
والإصرار على الكفر، وبعد إعلام الله تعالى له أنه لن يؤمن إلا من قد آمن؛ لم يكن
هناك من وسيلة إلا الدعاء عليهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا 26 إنَّكَ
إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26
- 27]، فاستجاب الله تعالى وعاقبهم بالماء
المنهمر من السماء والمتفجر من عيون الأرض، فأغرقوا وصاروا إلى يوم الدين عبرة
وأحاديث.
2 - دعوة إبراهيم عليه السلام: فقد
دعا أباه بكل أدب ورفق راجياً هدايته، كما ناظر قومه من عابدي الكواكب والشمس
وجادلهم بالأدلة العقلية في مناظرة استدراجية؛ موافقاً لهم حتى يكونوا هم الحاكمين
على أنفسهم بضلال ما هم عليه من اعتقادات لا سند لها ولا برهان.. لكنه
لما جادل عباد الأوثان، وبيّن لهم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع دعاء ولا تستجيب
لداع؛ توجه إليها – موطناً نفسه على ما قد يلقاه من أذى – فكسرها
بيمينه وأهانها وهي لا تحس ألماً ولا تعي ما يفعل بها: {فَرَاغَ
عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]؛
فسلك بذلك وسيلة القوة، وتغيير هذا المنكر المتمثل في عبادة الأوثان باليد آخذاً
بعزائم الأمور، غير عابئ بما قد يناله من عابديها أو صانعيها، وهذ شأن أصحاب
الدعوات الذين يضحون بكل ما يملكون من أجل دعوتهم وعقيدتهم، ولا يخافون في الله
لومة لائم؛ فعواقب الأمور بيد الله عز وجل وحده.
3 - دعوة موسى عليه السلام: فقد
سلك في بداية دعوته لفرعون وملئه أسلوب اللين والحوار العقلي الهادئ، لكن مع رعونة
فرعون والملأ، وتصاعد حدة التهديدات، وردود الأفعال العدائية والرافضة للدعوة رغم
الحجج الواضحة والآيات الدامغة؛ ما كان من موسى إلا أن سلك مسلكاً آخر، وفاجأ فرعون
بهذا الرد الذي يليق بأمثاله: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102].. قال
ابن كثير: (أي هالكاً، وقيل ملعوناً، وقيل مغلوباً). ولما
رأى موسى عليه السلام أنه ومن معه في خطر، وأن الدعوة تمر بمنعطف صعب، وأن العقبات
تعوق تقدمها، وأنها مهددة بألا تسير في طريقها؛ دعا على فرعون وملئه، وتوجه إلى
الله تعالى بهذا الدعاء: {وَقَالَ مُوسَى
رَبَّنَا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي
الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: ٨٨]،
فأغرق الله فرعون وجنده وجعلهم عبرة لمن خلفهم.
4 - دعوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم: فمن
المعلوم أن الدعوة الخاتمة مرت بمراحل متغيرة؛ فقد بدأت بالتكوين، وقد اتسمت هذه
المرحلة بالسرية، ثم التبليغ والإنذار، وهي مرحلة المواجهة الأولى، ثم ردود أفعال
الملأ المكذبين، وما صاحب ذلك من إيذاء واضطهاد وحصار. ومع
قلة المستجيبين القابلين للدعوة كان لا بد من الصبر وسيلةً للمحافظة على القلة
المؤمنة.. ثم لما قوي المسلمون وصارت لهم منعة، أُمروا
بالدفاع عن أنفسهم وكيانهم؛ وسيلة جديدة لردع المتطاولين على الدعوة وأصحابها، وفي
هذا يقول الله عز وجل: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِـحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
ومما سبق يتبيّن ما يلي:
أولاً: أنه
إذا كان اللين والرفق هو الكلمة الأولى، فليس هو الكلمة الأخيرة، وتلك هي الحكمة؛
ففي مرحلة الضعف والقلة يكون الصبر وضبط النفس حكمة، وفي حال القوة يكون رد
العدوان وتأديب المتطاولين على الدعوة ورجالها حكمة الحكمة. وكما
أن الترغيب أسلوب فإن الترهيب – أيضاً - أسلوب،
ولكل مقام مقال. وكما أن تغيير المنكر باليد لمن يقدر من
أعلى المراتب، فإن التغيير باللسان قد يكون أجدى وأنفع، كما قد يكون التغيير
بالقلب من أثقل التكاليف.
ثانياً: أن طريق الدعوة محفوف بالأشواك
والعقبات، مجلب للمتاعب والآلام، فلا يكون ذلك داعياً للتخلي عن المضي قدماً نحو
أهداف الدعوة المنشودة؛ وفي هذا يقول تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]؛ فيصرفه أذى الناس عن الإيمان
وتكاليفه.. كما لا يكون ذلك – أيضاً - داعياً للتخلي عن ثوابت الشريعة؛ فيستبدلها
الدعاة بتجارب البشر، وآراء الخبراء، وما تراه العقول! فيكون الثمن غالياً،
والعقوبات قاسية؛ فقد تكون دماء وأشلاء، فضلاً عن تأخر النصر والتمكين.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.