الزيتون والذاكرة
قال الفتى وهو يستعيد ذكريات سنوات خَلَت، ويستعرض الصور التي تختزنها ذاكرته منذ طفولته لأرض الأجداد: وقفت مشدوهاً كمن استفاق من غيبوبة، حاولت أن أجمع شتات فكري وأنا اتجه صوب أرضي الزراعية التي كنت أحفظها عن ظهر قلب؛ كنت في أيام طفولتي الأُوَلى أحفظ الدروب مشياً؛ إذ لم تكن تتاح للصغار والفتية فرصةُ الركوب على الدواب التي كانت وسيلةَ النقل المتاحة آنذاك؛ وكانت الأولوية تُعطَى للكبار والعجائز من النساء.
انتابتني قشعريرة وغمرتني حَيْرة ووجوم، وتسمَّرت في مكاني؛ حيث غدوت كمن فقد بوصلته فتداخلت في أعماقه الاتجاهات؛ فلم أعد أميز الشِّعَاب والأودية، وانتابتني رغبة في الصراخ: أين الطريق إلى بساتين الزيتون؟ ما بال ذاكرتي لا تسعفني؟ هل أصابها تَلَف؟!
عندها لم أحس إلا بصديقي وهو يربت على كتفي بحنان قائلاً: لقد نسفوا الجبال بالمتفجرات، وطمروا بعض الأودية، وسحبوا مياه الآبار لري مستوطناتهم قبل سنوات قليلة؛ حينما كنتَ في ديار الغربة، وغيروا التضاريس؛ لشق طريق استيطاني أسموه: «طريق النجوم السبع».
- أين المغارة؟ تساءلتُ باندهاش.
- قال صديقي متنهداً: «لقد عبثت بها جرافاتهم، لقد تبخرت الأساطير التي كانت ترويها عجائز القرية عن المغارة وأن فيها دروباً سرية توصل للمدينة».
كانت هناك عشرات الأشجار التي اقتُلِعت، وها هو الشارع يتسع بلا حدود ويمتد كالجرح النازف عبر شرايين القرية ويلتهم أرضها الزراعية بلا رحمة.
يا لها من مجزرة بحق البيئة والإنسان!
ألقيت ببصري عبر الحدود، وكانت أشجار الزيتون المتبقية تتلوى ألماً، لكنها ما تزال شامخة في فضاء القرية لا تأبه بجدار الفصل العنصري الذي يتمدد كأفعى عبر الوهاد والسهول...
لجمتُ أحزاني، ومشيت متثاقلاً، ثم استجمعت نفسي؛ حتى لا تسقط تحت سنابك الأسى؛ لأنني قررت البقاء شامخاً كتلك الأشجار التي كانت تعانق لحظات الغروب.
(*) مدرس في جامعة الملك عبد العزيز - كلية المعلمين بمحافظة جدة.