إن
الناظر لطبيعة الحياة العائلية في الغـرب على وجه العموم وفي بريطانيا بشكل أخص،
سيرى أنها تغيرَّت خلال فترة الثلاثين سنة الماضية بشكل ملحوظ؛ فبسبب التغير سريع
الخطى غير المسبوق في أساليب الحياة «العصرية» تغيَّر مفهوم كيان الأسرة إلى حدٍّ
كبير؛ بحيث لم يعد من الدارج أن تعرَّف العائلة على أنها مجموعة أفراد تتكون من
زوج وزوجة وأولادهما. خذ مثالاً على ذلك ما ورد في تصنيفات إحصائيات المنازل
وقاطنيها من «العوائل» لسنة 2008م في بريطانيا؛ حيث جاء تعريف تصانيف
العائلة على النحو التالي:
- عائلة ثنائية
التكوين: أب، وأم، وأولادهما.
- عائلة ثنائية
التكوين: أب، وأم (مطلَّقان سابقاً أو يعيشان سوية خارج رباط الزوجية)، وأولاده،
وأولادها، من علاقة أو زيجة سابقة.
- عائلة ثنائية
التكوين: أب، وأم (يعيشان سوية خارج رباط الزوجية)، وأولادهما من هذه العلاقة، أو
من علاقة أو زيجة سابقة.
- عائلة أحادية
التكوين: أم بمفردها (إما نتيجة الطلاق، أو الترمل، أو هجر عشيقها لها)، وأولادها،
الذين قد يكونون من أكثر من أبٍ واحدٍ.
- عائلة أحادية
التكوين: أب بمفرده (إما نتيجة الطلاق، أو الترمُّل، أو هجر عشيقته له)، وأولاده.
- عائلة ثنائية
التكوين: من جنس واحد (أي: لوطيان أو سحاقيتان – والعياذ بالله - يعيشان سوية) مع
أو بدون أولاد[1].
المتزوجون يشكلون الأقلية:
تشير
الأرقام الواردة في سجلات الدائرة الوطنية للإحصاءات (سنة 2008م) في بريطانيا إلى
أنَّ المتزوجين أصبحوا يشكلون أقليَّة في المجتمع، وهو سَبْق لم يحصل مثله من
قَبْل[2]؛
فإن ظاهرة عيش الرجل مع امرأة (خليلة) في ظل علاقة لا تخضع لرابط الزوجية هي في
ازدياد مضطرد؛ حيث ارتفعت بنسبة 64 % خلال عقد من الزمان. فأصبح نصف المواليد
الجدد تقريباً يولدون من علاقات خارج رابط الزوجية[3].
كما
أن الأرقام تشير إلى أن نسبة حالات الطلاق في تفاقم هي الأخرى؛ حيث إن هناك حالتي
طلاق مقابل كل 3 زيجات جديدة؛ وهي النسبة الأعلى في أوروبا.
كما
يوجد في بريطانيا أعلى نسبةٍ أوروبياً من الأمهات الوحيدات (النساء اللاَّتي لهن
أطفال ويعشن معهم بمفردهنَّ: إما بسبب الطلاق أو الترمُّل، وإما بسبب هجران
العشيق)، فأضحى رُبُع أعداد أطفال بريطانيا يعيشون بمعيَّة أمٍّ وحيدة، غاب أو
تخلَّى عنها والد أولئك الأطفال.
وعلى
صعيدٍ آخر فإن نسبة العزَّاب من الجنسين ارتفعت إلى أكثر من 50 %؛ حيث يفضِّل
هؤلاء البقاء في حالة العزوبية[4]
على الزواج وما يتبعه من مسؤولية؛ كالأولاد والتبعات المالية.
الزوجة والعمل للتكسُّب:
لقد
كان من المتعارف عليه أن يكون الزوج هو المسؤول الرئيس في الإنفاق على العائلة من
خلال ما يجنيه من كدِّه في عمله، في حين تبقى الزوجة في البيت لمتابعة الشؤون
المنزلية ورعاية الأولاد.
أما
في عصرنا هذا فقد أصبح من المعتاد، بل أحياناً من المتوقع، أن تخرج الزوجة إلى
العمل للمساهمة في تغطية المصارف الكثيرة.
وليس
ذلك على الحاجيات الأساسية وحسب، بل على الكماليات أيضاً، التي أصبح كثير من الناس
يعتقد أنَّها من ضروريات الحياة، مثل أجهزة الترفيه الإلكترونية، والسفر لقضاء
الإجازة السنوية، واقتناء سيارة ثانية، إلى غير ذلك من الأمور التي ساهم
المروِّجون لنمط المعيشة الاستهلاكي عبر قنوات الدعاية والإعلام المختلفة في ترسيخ
المفهوم الخاطئ على أن مثل هذه الأشياء تُعَدُّ من متطلبات الحياة الأساسية. وفي
أحسن الأحوال تجد أن بعضاً من أولئك اللاهثين وراء مثل هذه الأمور يبرِّرون
ضرورتها من باب أنهم كانوا هم أنفسهم محرومين منها في سابق حياتهم؛ لذا فإن من
إسعاد أولادهم أن يوفِّروها لهم، وعدَمَ حرمانهم منها. وقد يكون التبرير أحياناً
بأنَّ توفيرها سيمنع عن أولادهم الشعور بالنقص إذا ما نظروا إلى أقرانهم ممن
يتمتعون بمثل تلك الأمور.
كما
أن النساء الموظفات في حال حَمْلِهن بتن يخترن الرجوع لوظائفهن باكراً بعد
الولادة، بعد قضائهن مدة إجازة وجيزة - وهي ما يسمى بإجازة الأمومة - التي لا
تتجاوز بضعة أسابيع؛ حيث بات من المألوف أن تترك الأم العاملة صغارها في رعاية دور
الحضانة، التي عادة ما تستهلك جزءاً ليس باليسير من مرتبها. وقد دأبت بعض الشركات
على فتح قسمٍ لتوفير خدمة حضانة الأولاد تابع لها، ترغيباً للنساء ذوات الأطفال
للعمل لديها.
وقد
أصبح لدى الآباء والأمهات قناعات بأنه لا ضير من تَرْكِ أطفالهم في عهدة دور
الحضانة أوقاتَ عملهم؛ لأن هناك من يستطيع الاهتمام برعايتهم، وربما كان ذلك أفضلَ
منهم أنفسهم؛ وهو ما يتيح لهم المضيَّ في حياتهم الوظيفية ومواصلةَ تطويرِ مستواهم
المعيشي. وعلى ما يبدو فقد أمسى الآباء والأمهات غيرَ راغبين بالتضحية بفُرَصِهم
الوظيفيـة مـن أجـل توفير العنـاية الخـاصـة لأولادهـم التي لا يخفى على ذي لب أهميتها
في سِنِيِّ حياتهم الأُولَى.
ومن
إفرازات هذه الأنماط المعيشية نشوء «الفرد المتجاوز»؛ وهو الشخص الذي يفكر
باحتياجاته على حساب شخص آخر؛ حتى وإن كان أحدَ أفراد أسرته، كما نوَّهت إلى ذلك
منظمة «جوزيف راوند تري»[5].
ولذلك
فإنه ليس من المفاجئ أنه عند بلوغ كثير من مثل هـؤلاء الآبـاء والأمهــات سِنَّ
الشـــيخوخة، لــن يجـدوا ما يحتاجونه من مشاعر حانية من قِبَل أولادهم الذين لن
يكترثوا كما ينبغي بشأن آبائهم، ولن يستهجنوا أمر تَرْكِهِم تحت رحمة دور رعاية
المسنين، التي لا يخلو كثير منها من تجاوزات وسوء معاملة، ناهيك عن افتقادها لما
يعوِّض مثل هؤلاء عما يحتاجونه من مشاعر العطف العائلية الحقيقية. وهكذا تتمثل
مقولة: «عقُّوهم صغاراً فعقُّوهم كباراً».
انفصال المراهقين:
من
الظواهر المألوفة في المجتمع الغربي أن يترك الأولاد بيوت آبائهم عند بلوغهم سنَّ
الثامنة عشرة أو قريباً من ذلك، للاستقلال في مسكنهم ومعيشتهم؛ ففي بريطانيا -
مثلاً - يحق للأفـراد الذين تجاوز سنهم 16 سنة أن يطلبوا المعونة من الجهات
الحكومية المخوَّلة بمنحهم المساعدات المالية لدفع تكلفة سكنٍ مستأجَرٍ، وحتى إن
كان ذلك دون موافقة آبائهم؛ حيث لا ولاية للآباء عليهم بعد تلك السن.
وقد
اكتشف الخبراء وذوو الاختصاص من أطباء نفسيين وغيرهم – مسـتندين إلى إحصاءات
ودراسات بحثية – أن ظاهرة التفكك العائلي، وهذا المدَّ الجارف من الأنانية التي
تحكمها الماديات لها في واقع الحال تأثيرات مُخِلَّة على الأطفال. وهو الأمر الذي حدا
بالعقلاء في عموم المجتمع إلى السعي إلى عكس السياسات التي كان كثير منهم يتفانى
في ما مضى لتحقيقها؛ فعلى سبيل المثال: هناك من ينادي اليوم بتشجيع النساء على
الاكتفاء بالعمل في وظائف بدوام جزئي بدلاً من العمل لكامل اليوم، بل هناك من يرى
ضرورة سَنِّ قوانين تمنح الأمهات مكافآت ماليةً مقابل مكوثهن في بيوتهن لرعاية
الأولاد. وبالطبع هناك من ينصح الأمهات بالاستعانة بدعم الأقارب في العائلة مثل
الخالات والعمَّات؛ غير أن الإشكال القائم في هذا الاقتراح هو أن أفراد هذا الجيل
من الأقارب هم من صنف «الفرد المتجاوز» سالف الذكر، الذي قد لا يعتقد أن من
مسؤوليته مساعدة أفراده الأقارب، ناهيك عن اعتقاده بأولوية اهتماماته الشخصية.
دعوة للاعتبار:
إن
المتأمل في واقع بعض مجتمعات الدول العربية في عصرنا الحالي، سيلحظ أن هناك ما
يدعو للقلـق؛ وذلك لأن بعـض الغـافلين لا شك في أنهم سائرون على خطى المجتمع
الغربي. وما سُطِّر في هذه المقالة المتواضعة لا يتجاوز كونَه إلماحاً لبعض عُوَار
المجتمع الغربي الذي يُعَدُّ التفكك الأسري وإرهاصاتُه السلوكية والخُلُقية على
عموم المجتمع غيضاً من فيض؛ فَهَلاَّ اعتبرنا بغيرنا ونحن الذين أعزَّنا الله بهذا
الدين الحنيف الذي ما فتئ يؤكد على أهمية الأسرة في المجتمع المسلم، مبيِّناً
بوضوح لا لَبْسَ فيه حقوق كل فرد فيها وواجباته.
نسأل
الله – تعالى – أن يحفظ أُسَرَنا ومجتمعاتِنا من التفكك والتسيُّب، وأن يهدينا
لفهم أهمية صيانة وحفظ الحياة الأسرية السليمة.
[1] الأولاد غالباً ما يكونون عن طريق التبني في مثل هذه الحالة.
[2] صحيفة الديلي ميل البريطانية: 27 يونيو 2008م.
[3] أي: «أولاد غير شرعيين» حتى في عُرفِهم قديماً.
[4] ويقضي مثل هؤلاء وَطَرُهم من خلال علاقات بهيميَّة متسيبة.
[5] مؤسسة بحثية بريطانية متخصصة في المسائل الاجتماعية.