• - الموافق2025/10/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التصعيد المصري الصهيوني بين الوهم والحقيقة

تشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية تحولًا جذريًا بعد طوفان الأقصى، مدفوعًا بالاستقلالية الاقتصادية والعسكرية للنظام المصري وازدواجية مواقفه، بالإضافة للمخاوف الأمنية الإسرائيلية، مما يرسم واقعًا من التوتر المستمر واستبعاد خيار الحرب.


منذ بدء طوفان الأقصى لم تَعُد العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني كما كانت عليه في العقود الأربعة الماضية. وتشير التصريحات والمواقف المتزايدة إلى تحوُّل جذري يتجاوز الأزمات العابرة التي مرَّ بها البلدان في الماضي؛ حيث يبرز الصراع الكامن ويندفع إلى الواجهة، على خلفية حرب غزة، وما أعقبها من تبادل الاتهامات بشأن تدفُّق السلاح إلى حماس عبر الأنفاق أو المُسيَّرات، وفي نفس الوقت ما طرحه الكيان عن مخططات يعتزم بها تهجير أهل غزة إلى سيناء.

ومنذ طوفان الأقصى لم تُرسل مصر سفيرًا إلى الكيان الصهيوني بعد انتهاء مدة السفير السابق، كما أنها لم تَرُدّ على حكومة الاحتلال بالموافقة أو بالرفض على ترشيح سفير جديد للكيان في القاهرة.

وقد كشفت هيئة الإذاعة الصهيونية، عن زيارة وفد من الحكومة الصهيونية إلى القاهرة؛ لبحث الترتيبات الأمنية على الحدود المصرية، ولكنْ على ما يبدو لم تُسْفِر الزيارة عن أيّ تهدئة؛ فقد ظل منحنى التوتر بينهما متصاعدًا، وبالرغم من بدء تطبق خطة ترامب إلا أنه لا توجد أيّ مؤشرات على تحسُّن تلك العلاقات.

ثمة نظريتان تُفسِّران هذا التصعيد:

الأولى أنه سيناريو ضمني متفق عليه بين الدولتين، وجرى التنسيق فيه للتصعيد، لرفع العتب واللوم الذي قد يُوجَّه لمصر داخليًّا وخارجيًّا إذا قبلت تهجير أهل غزة لها.

النظرية الأخرى في تفسير هذا التوتر بين كلٍّ من حكومتي الكيان ومصر، أن هناك بالفعل مواجهة حقيقية بينهما، على الأقل على الصعيد السياسي والإعلامي، فضلًا عن تهديدات متناثرة بالحرب.

فأيّ النظريتين يُمكن ترجيحهما؟

للإجابة عن هذا التساؤل، يلزمنا معرفة العقلية الإستراتيجية التي تُدير كلًّا من الدولتين، وكيف تُخطّط كلٌّ منهما لتنفيذ طموحاتها، وموقع كلّ دولة منهما في تلك الإستراتيجية.

العقلية الإستراتيجية للنظام في مصر

مصطلح «العقلية الإستراتيجية» يُشير إلى عملية تفكير تُركّز على تحليل العوامل الحرجة والمتغيرات التي تؤثر على النجاح طويل الأمد لأيّ هدف أو مشروع، سواء كان فرديًّا أو تنظيميًّا، ويمكن تعريفه أيضًا بأنه القدرة على النظر إلى الوضع من منظور موضوعي واسع، بعيدًا عن التفاصيل اليومية، للتنبؤ بالفرص والتحديات وتوجيه الجهود نحو تحقيق أهداف إستراتيجية.

هذا المصطلح يتجاوز التفكير التكتيكي قصير المدى، ويؤكد على النظر في عدة متغيرات متزامنة؛ مثل: المنافسين، والظروف الخارجية؛ لضمان التوازن بين الرؤية والتنفيذ.

ولكي نفهم العقلية الإستراتيجية للدولة المصرية، ينبغي تحليل خصائص حُكْم الطبقة العسكرية التي تدير مصر، في الفترة الزمنية الممتدة منذ أن استولى الجيش رسميًّا على السلطة في مصر في عام 1952م، وحتى وقتنا الحاضر.

وبالرغم من أن سيطرة الجيش على السلطة السياسية، امتدت منذ ما يقرب من ٧٥ عامًا، ولكنها تصاعدت، وأصبحت أكثر عمقًا وتجذرًا في السيطرة على مفاصل الدولة الإدارية في فترة العشر سنوات الأخيرة، والتي أظهرت علامات فارقة أثَّرت على أدائه وطريقة حُكمه، وطبعت بها سلوكياته، ونستطيع بعد رَصْدها فَهْم سياساته وإستراتيجياته الحالية في حكم مصر.

وسنختار من تلك العلامات خاصيتين أثَّرت بشكل ملحوظ على المواقف المصرية مما يجري في غزة، وهما: اقتصاد المؤسسة العسكرية، وازدواجية مواقف الحكومة المصرية.

اقتصاد القوات المسلحة

هذه تعد أبرز خصائص الجيش المصري، والذي ينفرد بها عن جيوش العالم حاليًّا، وهو أن يكون للمؤسسة العسكرية ميزانية وصناديق خاصة بها، بعيدًا عن ميزانية الدولة ومستقلة عنها.

وقد يندهش الكثيرون من أن الدولة المصرية تعقد صفقات ضخمة لشراء أحدث الأسلحة في العالم، واقتصادها يعاني من شبه انهيار، ولكن سرعان ما يأتي الجواب بأن الذي يعقد تلك الصفقات هو الجيش المصري بميزانيته المستقلة عن الدولة.

ووفقًا لبيانات معهد إستوكهولم الدولي لأبحاث السلام -والذي يُعدّ المرجع الرئيسي لتتبُّع تجارة الأسلحة العالمية-، ففي عام 2024م، جاءت مصر في المركز الثامن بالنسبة للترتيب العالمي في الاستيراد، بنصيب حوالي 4- 5% من إجمالي الاستيراد العالمي للأسلحة الرئيسية.

وبتتبُّع تاريخ نشأة فكرة استقلالية ميزانية القوات المسلحة؛ نجد أنها بدأت بعد انتهاء فترة الست سنوات ما بين حربي ٦٧ و٧٣.

فقيادات الجيش المصري عانت من أزمة مالية كبرى، وهي تُعيد بناء القوات المسلحة، والتي تم تدميرها تقريبًا في حرب ٦٧، وتم إطلاق خطة للتجنيد جرى بها لأول مرة تجنيد خريجي الجامعات من أصحاب الشهادات العليا، وكان ذلك يتم لأسباب؛ منها رفع كفاءة الجندي المقاتل، ومنها أيضًا: احتواء غضب الشباب وتدجينه، وهو الثائر في ذلك الوقت على الهزيمة؛ حيث امتلأت ساحات الجامعات بالمظاهرات الغاضبة، والتي تطالب بمحاسبة مَن تسبّبوا بالهزيمة.

وكل مَن كان يلتحق بالجيش في فترة الست سنوات (بين عامي ٦٧ و٧٣) لا يتم تسريحه؛ حيث يبقى في مدة تجنيد إلزامي مفتوحة.

واحتارت قيادات الجيش بين تمويل إعاشة أكثر من مليون من الجنود والضباط بلا دخل، وتمويل شراء سلاح ومنظومات دفاع جوي وطائرات، في ظل ميزانية للدولة متراجعة، خاصةً بعد إغلاق قناة السويس.

وكمثال صغير على حجم تلك المعاناة: فهؤلاء الجنود اشتكوا من أن ملابسهم الداخلية قد بَلِيت وتمزقت، وأصبحت غير صالحة للارتداء، فطلب السادات من القذافي طلبًا مباشرًا أن يُساعده في حلّ تلك المشكلة، فتعاقد القذافي مع شركة جيل الفرنسية، والتي أرسلت عدة ملايين من أطقم تلك الملابس لضباط وجنود الجيش المصري.

لذلك فور وقف الحرب، بدأت القيادة العسكرية تبحث عن حلّ لتلك الأزمة إستراتيجيًّا، فوجدت أنه لا بد من فصل ميزانية الجيش عن ميزانية الدولة؛ حتى لا يتأثر أداء الجيش في أيّ صراع مستقبلي بأزمة تمويل؛ سواء في معداته وأسلحته أو إعاشة ضباطه وجنوده.

ومما ساهم في تعزيز تلك الاستقلالية هو توقيع مصر لمعاهدة السلام مع الكيان الصهيوني برعاية أمريكية، والتي نصت على أن تدفع أمريكا ما يقرب من ١,٣ مليار دولار سنويًّا معظمها للجيش المصري في صورة أسلحة ومعدات ودورات تدريبية، فالرهان الأمريكي حينها كان على الجيش المصري باعتباره القوة المهيمنة على السياسة المصرية، كما كانت تلك المعونة سواء الأموال أو الدورات التدريبية للضباط وسيلة أمريكية للرقابة والنفوذ على ضباط الجيش المصري حتى لا يفكر مستقبليًّا في قتال الدولة الصهيونية.

تعاظمت إمبراطورية الجيش تدريجيًّا، وقد كان معدل النمو بطيئًا، ولكن بتراكم الوقت وزيادة استقلالية إدارة القوات المسلحة عن القيادة السياسية في أواخر حكم مبارك، تزايدت تلك الاستقلالية الاقتصادية، وتوسعت مشروعات القوات المسلحة.

يقول الدكتور عبد الخالق فاروق -الخبير الاقتصادي ومُؤلّف كتاب «هل مصر فقيرة جدًّا؟»-: إن اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية في الجيش المصري وقت خروجه من الخدمة العسكرية (يقصد بعد حل المجلس العسكري عند استلام الرئيس محمد مرسي في عام ٢٠١٢م)، وأمام شهود، ومنهم الدكتور حسام عيسى نائب رئيس الوزراء الأسبق في الحكومة التي أعقبت الانقلاب، وكأنه يُبرِّئ ذمته، قال: «إن القوات المسلحة كان لديها في حساباتها وصناديقها الخاصة ١٠٠ مليار جنيه، بالإضافة إلى ٢٨ مليار دولار»؛ أي: أن مجموع ما يوجد في خزينة الجيش في منتصف عام ٢٠١٢م ما يوازي ٥٥ مليار دولار(بسعر الدولار في ذلك التوقيت).

وهذه المبالغ كانت خارج الميزانية العامة للدولة، والتي سبق أن قال عليها اللواء محمود نصر مدير الشؤون المالية في القوات المسلحة باللغة العامية المصرية في مؤتمر صحفي عام ٢٠١١م: «هذه عَرَقْنَا.. اللي حييجي جنبها سنقطّعه».

وإذا كان هذا الحال قبل التغيير الذي حدث في يونيو ٢٠١٣م، والذي أعقبه سيطرة تامة من المؤسسة العسكرية على جميع أجهزة الدولة مباشرة وإدارتها.

فقبل ٢٠١٣م، كانت السيطرة محدودة الحجم والنطاق؛ حيث ساهمت في 1- 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مع تأثير غير مباشر عبر الشبكات الرسمية وغير الرسمية للضباط المتقاعدين، وقد حاول مرسي في فترته القصيرة تقليل التأثير، لكنّ ذلك لم يُغيِّر الواقع كثيرًا.

ولكن بعد ٢٠١٣م، طالت سيطرة الجيش المصري على الاقتصاد لتشمل قطاعات مثل البنية التحتية، الطاقة، الاتصالات، والأراضي الزراعية، مدعومة بمراسيم رئاسية تمنح إعفاءات ضريبية وجمركية كاملة.

وسيطر الجيش على مشاريع عملاقة مثل العاصمة الإدارية الجديدة وقناة السويس المُوسَّعة، لكنها أثارت انتقادات بسبب الفساد والإهدار، مع أصول غير خاضعة للمراجعة.

ووصف الخبراء أن الاقتصاد أصبح يعتمد على رأسمالية دولة عسكرية، مما يُعزّز الاستقرار السياسي لهذه الدولة، لكنه يُهدّد التنمية المستدامة طويلة الأمد، ولكنّه ينعكس بلا شك حول موقف تلك الدولة من التهديدات التي تمسّ الأمن القومي كمسألة سد النهضة أو تهجير أهل غزة إلى سيناء.

فعلى الرغم من أن سيطرة الجيش المصري على الاقتصاد تُعزّز استقلاليته المالية، وتُمكّنه من بناء قدرات عسكرية قوية، مما يجعله أكثر استعدادًا للرد على التهديدات الأمنية؛ إلا أنه في نفس الوقت يُقلّل من رغبته في خوض حروب كبرى بسبب المخاطر الاقتصادية المباشرة، مثل فقدان الإيرادات من مشروعاته، وهذا الأمر يجعل النهج أكثر حذرًا ودبلوماسيًّا، مع التركيز على الردود الدفاعية بدلاً من المبادرة.

ازدواجية الخطاب والمواقف السياسية

هذه هي الخاصية الثانية للحكم العسكري في مصر.

ومن منظور علم السياسة، تُعبِّر الازدواجية في الخطاب السياسي عن حالة من التناقض والازدواج في المواقف التي يتبناها النظام؛ حيث يظهر ما يخدم المصالح الداخلية أو يراعي الضغوط الدولية، بينما على أرض الواقع تختلف الممارسات أو تتناقض مع ما يُعلَن.

هذا الفارق قد يكون مقصودًا أو اضطراريًّا بغرض حماية النظام أو تحقيق أهداف إستراتيجية. وفي بعض الأحيان تكون الازدواجية ناتجة عن ظروف تاريخية وسياسية معقدة، وكما يحدث في بعض الأنظمة التي تخشى العقوبات أو الانتقام، فيضطر الخطاب لأن يكون على مستويين يتناقضان: العلني والفعلي.

وأحيانًا يطلق الأكاديميون على تلك الازدواجية مصطلح الميكيافيلية السياسية.

فهناك دائمًا نمطان سائدان في أداء غالب نظام الحكم المعاصرة: النمط الميكيافيلي والنمط البراجماتي.

فالميكيافيلية في الأداء السياسي، -والمستمدة من أفكار الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكيافيلي في كتابه الأمير في القرن السادس عشر-، هي نَهْج سياسي يركز على الحفاظ على السلطة بأيّ وسيلة كانت، حتى لو شملت الخداع، والكذب، أو العنف. ويَعتبر البعض هذا النهج واقعيًّا لكنّه غير أخلاقي في جوهره؛ حيث يُبرر الغايات السياسية بوسائل غير أخلاقية، مع التركيز على المصلحة الذاتية للحاكم أو الدولة.

أما البراجماتية أو العَمَلانية في الأداء السياسي، فهي فلسفة سياسية ظهرت في القرن الثامن عشر، تركّز على النتائج العملية والفعَّالة؛ حيث يُقيَّم الفعل السياسي بناءً على نجاحه في حلّ المشكلات الواقعية، دون الالتزام الصارم بمبادئ نظرية أو أيديولوجية. وهي مذهب يُعرَف بالذرائع إلى المقاصد، لكنها تحافظ على حدود أخلاقية أوسع، وتُركّز على المصالح الوطنية أو العامة بدلاً من المصلحة الشخصية.

والفرق الرئيسي بينها وبين الميكيافيلية، رغم التشابه في التركيز على الواقعية والفعالية، يكمن في الجانب الأخلاقي والدافع بالنسبة للأخلاق؛ حيث تسمح الميكيافيلية بالوسائل غير الأخلاقية صراحةً (مثل: الخيانة أو التلاعب، ...) للوصول والحفاظ على السلطة، بينما البراجماتية تُقيِّم الفعل بناءً على نتائجه العملية دون الوقوع في اللاأخلاقية المطلقة.

ومن حيث الدافع: فالميكيافيلية مدفوعة بالمصلحة الذاتية أو الحفاظ على سلطة النظام أو الشخص الذي يتحكم فيه، أما البراجماتية فتُركّز على المصالح العامة أو الوطنية أو غيرها من المصالح خارج الدائرة الشخصية.

وعند التطبيق: قد تؤدي الميكيافيلية إلى سياسات انعزالية مع مرور الوقت، بينما البراجماتية تُفضِّل التفاوض والحلول المرنة، فتصبح أكثر توافقًا مع الآخرين.

ولذلك تعتبر الميكيافيلية نوعًا من المقامرة السياسية الخطرة؛ لأنها تسبب فقدان الثقة في النظام مِن قِبَل الأطراف الخارجية وشعب الدولة نفسها، مما يُضْعِف المصداقية ويزيد من التوترات، ويؤثر في استقرار التحالفات الدولية والعلاقات الدبلوماسية، ويجعل السياسة الخارجية تبدو متقلبة وغير موثوقة.

وقد عكس النظام المصري بعد 1952م، صورة واضحة للمعايير المزدوجة في الخطاب السياسي والتعامل في علاقاته الخارجية؛ حيث تتغير المواقف بحسب الظروف السياسية والاقتصادية، مما أظهر ازدواجًا بين الخطاب الرسمي والممارسة، فالنظام المصري زمن عبد الناصر اعتمد على خطاب قومي في الداخل، بينما أظهر مرونة أو ازدواجية في التعامل مع قوى الغرب، وفي عصر السادات وبعد اتفاقية كامب ديفيد، تحولت سياسة النظام نحو التوافق مع المحور الأمريكي الصهيوني، رغم أن الخطاب الرسمي كان يتحدَّث عن دعم الحقوق العربية والفلسطينية، وظلت تلك السياسة ثابتة في عصر مبارك، أي الموازنة بين الإبقاء على صورة متماسكة فيظهر حرصًا على التوجُّه العربي لمصر، وبين إدارة مصالح واقعية خلف الكواليس المعلنة.

ولكن بعد التغيير الذي حدث في عام ٢٠١٣م، أخذت تلك الازدواجية منحًى متصاعدًا، وأخذت أشكالًا أكثر فظاظة.

ففي حين وقَّعت مصر صفقة مع شركة تابعة للكيان الصهيوني لاستيراد نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز حتى عام 2040م بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار، وفي نفس الوقت يصف رأس الدولة الكيان بالعدو في خطابه أمام القمة العربية الإسلامية، بينما لا يزال خبراء الكيان الصهيوني من العسكريين والإعلاميين مُصرّين على أن تدفُّق السلاح إلى حماس يتم من خلال الأنفاق.

وكمثال حي لتلك الازدواجية، هو التناقض في نفس التصريح، عندما سُئِلَ وزير الخارجية المصري عن رأيه في خطة ترامب الأخيرة؟ فقال: «خطة ترامب بشأن غزة بها كثير من الثغرات التي نحتاج إلى مزيد من المناقشة لسدّها، خاصةً فيما يتعلق بالحكم والأمن، وندعم تلك الخطة لإنهاء الحرب في غزة، ونحتاج إلى المضي قدمًا».

كيف يُفكّر الكيان في علاقته بمصر؟

هناك ثلاث قضايا تمثل لدى الكيان الصهيوني إشكاليات كبرى في نظرته إلى مصر: رفض الحكومة المصرية تهجير أهل غزة، وخرق اتفاقيات كامب ديفيد، وأخيرًا تهريب السلاح من خلال الأنفاق والمسيرات من سيناء إلى غزة.

وللتعامل مع هذا الأمر ثمة رأيان داخل الكيان الصهيوني:

الأول: يدعو لتوجيه ضربة استباقية وتفكيك الجيش المصري في سيناء، وظهر ذلك في مقالات في صحف داخل الكيان، ومنها جيروزاليم بوست، والتي دعت إلى توجيه ما أطلقت عليه ضربة وقائية «إسرائيلية» ضد الجيش المصري في سيناء.

بل إن بعضها دعا إلى سيطرة عسكرية على سيناء.

وفي العلوم العسكرية السيطرة غير الاحتلال؛ فالاحتلال يقتضي وجود قوات برية تتمدّد على كامل الأرض المحتلة، مثل احتلال غزة الآن أو احتلال سيناء نفسها عام ٦٧، بينما السيطرة ليست بالضرورة تكون بقوات على الأرض، لكن بواسطة النيران، أي الوصول لكل نقطة في المنطقة المستهدَفة بواسطة النيران، أو بالسيادة الجوية على أجواء المنطقة، مثل ما يحدث في الجنوب السوري حاليًّا.

أما السيناريو العسكري الأخير، وهو الاحتلال الكامل فقد أطلقه المتطرفان: سموتريتش وإيتمار بن غفير، فقد دَعَوا صراحةً إلى حلول جذرية تشمل الضغط على مصر لوقف التهريب، بما في ذلك تهديدات بإعادة احتلال سيناء.

في المقابل، هناك آراء داخل الدولة العميقة الصهيونية، وخاصةً بين أوساط دبلوماسيين ورجال سياسة والأجهزة الأمنية في دولة الكيان، مما يرون أن مصالح الكيان أكبر في ظل وجود كامب ديفيد وحالة السلام مع مصر.

تقول السفيرة الصهيونية السابقة في مصر أميرة أورون، وهي تتحدث مع بعض أعضاء الكنيست: «هناك حملة كبيرة لتشويه مصر، وكلّ ما يجري في وسائل الإعلام يعمل ضد مصلحتنا، أكرّر ضد مصلحتنا... هناك انشغال جنوني على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس في الكنيست بل على المنصات الاجتماعية... كانت هناك حملة هجومية استثنائية، وهذا يُخرج ردود فِعل من الجانب المصري».

وتتابع: «الوضع حسّاس أصلًا، وأقول لكم يا أصدقاء: دعونا نكون حُكماء، دعونا نكون معتدلين. فهذا أيضًا ينعكس على صورة «إسرائيل»... والدول العربية تشاهدنا. نريد الوصول إلى الخليج، وبالمقابل -لا قدر الله- لا نريد أن ننتهي إلى تقويض معاهدة السلام مع مصر».

فالمصلحة الإستراتيجية في مستوى القيادات الدبلوماسية والأمنية والعسكرية، ترى أن الحل السياسي والتهدئة، بدعم من الوساطة المصرية، هو المسار الأفضل في الوقت الحالي لتجنُّب المزيد من التوتر في المنطقة والحفاظ على استقرار الجبهة المصرية.

الخلاصة

دوافع كل من المجموعة الحاكمة في مصر مع المؤسسات الرسمية الصهيونية تَشِي بأن خيار الحرب مستبعَد بين الطرفين، وقد لخَّصَتْ تصريحات الرئيس المصري خلال زيارته إلى الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية الجديدة في الشهر الماضي، موقف الإدارة المصرية المُعلَن تجاه الصراع في غزة كما هو بالنص باللغة العامية المصرية: «عشان أدخّل مساعدات لغزة لازم «إسرائيل» تسمح ليّا بده، ولو رفضتْ مقدرش أدخّلها لأنها لازم توافق، في ناس بتقولي اقتحم وخش، ده كده عمل عسكري، وأنا مسؤول عن أمن الشعب، ومعملش مواقف تؤذي الدولة... احنا ناس بندافع عن نفسنا بس، ومبنهاجمش حد، ومصر مش هتدخل في حرب نتيجة التطورات بغزة».

وكما أسلفنا فهناك دافع مصري غير مُعلَن، بتجنُّب الدخول في أيّ حرب، وهو الحفاظ على البيزنس الاقتصادي للمؤسسة العسكرية.

وعلى الجانب الآخر، وفي شهر فبراير الماضي، وقبل تركه منصبه مباشرة، قال هيرتسي ليفي -الذي كان وقتها رئيس أركان الجيش الصهيوني-: «نحن قلقون جدًّا بشأن الحشد المصري في سيناء، ولكن ليس على رأس الأولويات، ويجب أن نقول ذلك، علينا ترتيب مشاكلنا وفق الأولوية، مصر لديها جيش كبير، يمتلك أسلحة متطورة، طائرات حديثة وغواصات، وزوارق بأعداد كبيرة، بالإضافة إلى دبابات متقدمة وقوات مشاة مُدرَّبة، في الوقت الحالي لا نعتبره تهديدًا، ولكنّه قد ينقلب في أيّ لحظة».

وتبقى خيارات أخرى للجانب الصهيوني في الضغط على الحكومة المصرية بوسائل غير الحرب، مثل استخدام صفقة تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر ورقة ضغط لتقليص وجودها العسكري في سيناء.

وأخيرًا، يجب أن نتذكر أن مجرد طرح خطة ترامب، وبصرف النظر عن نتائج تطبيقها؛ فإن إعلان هذه الخطة معناه انتهاء مخطط تهجير أهل غزة نهائيًّا، والتي يأتي سبب إفشالها في المقام الأول من صمود المقاومة وأهل غزة وتضحياتهم أمام مخططات الإبادة والتجويع، وفي المقام الثاني يأتي من إصرار الجانب المصري على عدم فتح الحدود أمام التهجير بصرف النظر عن الدوافع والمبررات.

 

أعلى