إنَّ العملَ بالعمل ارتفع به علماء، ووُضِعَ آخرون، وكما أن العمل بالعلم فيه نجاة للعالِم فكذلك فيه صلاح للأُمَّة ككل؛ فإنهم طليعة الأُمَّة في الإصلاح، وهم الذين يُصْلِحُون ما أفسَد الناس، وهم الذين يبذلون ويضحّون ويبادرون ويصححون
أسند الإمام الطبري إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- في قوله تعالى:
{
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}
[الأنعام: ٩١]؛
قال:
«إنّ
مِن أكثرِ ما أنا مُخاصَمٌ به غدًا، أن يُقَال: يا أبا الدرداء، قد علِمْتَ، فماذا
عمِلْتَ فيما علِمْتَ؟»[1]
وهذا أثرٌ عظيم يُستدلّ له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة -رضي الله
عنه- قال:
«إنّ
أوّل الناس يُقضَى يوم القيامة عليه... [وذكر منهم] ورجل تعلَّم العِلْم،
وعَلَّمَه، وقرأ القرآن...»[2]،
والأثر يتناول الأصل الأكبر وهو العَمَل بالعِلْم؛
«فالمسكين
مَن ضاع عمره، في عِلْم لم يَعْمَل به، ففاتته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقَدِم
مفلسًا، على قوة الحجة عليه»[3].
وبالرغم من وضوح معنى هذا الأثر؛ إلا أن فيه آيات للمتدبرين، ومنارات للعالمين؛ إنه
يرسم السِّرّ الأكبر للانتفاع بالعمل، وهو العمل بالعِلْم انتفاعًا ينتفع به المرء
لنفسه ثم لغيره، كما حدَّث ابن الجوزي -توفي 597هـ- عن مشايخه، فقال:
«لقيتُ
مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صُحبته
العَامِل منهم بعِلْمه، وإن كان غيره أعلم منه»[4].
إنَّ العملَ بالعمل ارتفع به علماء، ووُضِعَ آخرون، وكما أن العمل بالعلم فيه نجاة
للعالِم فكذلك فيه صلاح للأُمَّة ككل؛ فإنهم طليعة الأُمَّة في الإصلاح، وهم الذين
يُصْلِحُون ما أفسَد الناس، وهم الذين يبذلون ويضحّون ويبادرون ويصححون.
وهذا المشهد العملي من أبي الدرداء -رضي الله عنه- يرسم قدوة عملية للعلماء بأن
يُولوا العمل بالعلم جهدهم، وألّا يركنوا إلى تزكيات الناس فيُهْمِلوا العمل، وأن
يُحاسِبوا أنفسهم، ويعرضوها على ما يقرؤون من القرآن ويمتثلونه، وهذا هو التدبر
الحقيقي؛ أن تعيش مع القرآن الكريم ومع أحواله، وتَعرض نفسك عليها، كما كان يعرض
أولئك الصفوة الأخيار يفعلون؛ {
قُلْ ءَامِنُوا۟ بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟
ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
سُجَّدًۭا ١٠٧ وَيَقُولُونَ سُبْحَـٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولًۭا ١٠٨ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًۭا }
[الإسراء: ١٠٧ - ١٠٩].
[1] تفسير الطبري
(9/395).
[2] أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب مَن قاتل للرياء، رقم الحديث (1905).
[3] صيد الخاطر، ابن الجوزي (ص159).
[4] المرجع نفسه (ص 158).