• - الموافق2025/08/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جهاد المسلمين في فرنسا  بعد معركة بلاط الشهداء

وأيًّا ما كان قائد هذه الحملة، فقد استعاد المسلمون خلالها، جزءًا كبيرًا، من جنوب شرقي فرنسا، مما كانوا قد فقدوه بعد هزيمتهم في وقعة البلاط، وقد ثبت المسلمون في هذا الجزء عدة سنوات، قبل عودتهم إلى القواعد، التي انطلقوا منها في سبتمانيا.


لم يتوقّف نشاط المسلمين الجهادي في «غالة» أو بلاد الفرنجة (فرنسا)، بعد معركة بلاط الشهداء الشهيرة، واستشهاد القائد الكبير عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس في وسط فرنسا في رمضان سنة 114هـ، كما هو شائع، بل استمر قويًّا رائعًا لفترةٍ من الوقت، تتجاوز ثماني سنوات، وقام بعض ولاة الأندلس، خلال تلك السنوات بحملات جريئة وناجحة، في مناطق جنوب شرق فرنسا، فكان هذا الجزء المُهِمّ من فرنسا، بالتالي، مسرحًا للعديد من المعارك العنيفة بين المسلمين والفرنجة، وبعض هذه المعارك، لم تكن تَقِلّ، في شدتها وعنفها وضراوتها، عن معركة البلاط.

ومن أهم الأحداث التي وقعت خلال هذه الفترة، ما يلي:

1- حملة الأمير عبدالملك بن قَطَن الفِهريّ

تزعم الروايات النصرانية أن صدى هزيمة المسلمين في موقعة البلاط، تردَّد في نواحي «غالة» الجنوبية، وإسبانيا الشمالية، فتواثب أهلها بالمسلمين من كلّ ناحية. وليس لدينا على ذلك دليل من المراجع العربية، وإن كان من المعقول أن يَطمع أهل هذه النواحي في المسلمين، وأن يتشجّعوا للوثوب عليهم؛ لأن قواتهم قد تفرقت بعد هذه المعركة. ومن هنا كانت مبادرة الخلافة، ممثلة بالخليفة هشام بن عبدالملك، وبوالي إفريقية عبيدة السلمي، بتولية عبدالملك بن قَطَن الفِهريّ، أميرًا على الأندلس، خلفًا للأمير القتيل عبدالرحمن الغافقي، وتكليفه بعمل اللازم لحماية ولاية الأندلس، وإنقاذها من تداعيات هذه الهزيمة الأليمة، وإقرار وترسيخ أمر المسلمين فيها.

وكان ابن قَطَن هذا، من كبار عرب إفريقية، وكان قد غزا صقلية عام 731م/ 112-113هـ، أي: قبل معركة البلاط بعام واحد، فدخل الأندلس في شوال سنة 114هـ، وكان أول ما اهتم به هو المسير، على رأس حملة، إلى شمال الأندلس؛ حيث أوقع بالثوار البشكنس الجبليين، عدة وقائع، ونال منهم، حتى أجبرهم على طلب الصلح، أو اللجوء إلى أعالي الجبال، وكان ذلك في سنة 115هـ/ 733م.

وبعد أن أعاد ابن قطن الهدوء إلى أملاك المسلمين في نواحي جبال ألبرت، لم يلبث أن عبر على رأس جيشه، جبال ألبرت، وقصد أربونة قاعدة المسلمين وراء جبال ألبرت، واهتم بتحصينها وتحصين المعاقل، التي كانت لا تزال بأيدي المسلمين هناك، وتنظيم حاميتها، ووقف موقف المدافع عنها، في وجه المتربصين بها من القوط والفرنجة، والذين كانوا يتطلعون للسيطرة عليها منذ هزيمة المسلمين في موقعة البلاط.

ثم حاول ابن قطن الإغارة على مقاطعة أكيتانيا، لجسّ نَبْض حاكمها الدوق أودو، وكان شارل مارتل، قد ثبّته في منصبه، بعد انتصاره على المسلمين في معركة البلاط، فألفاه مستعدًّا للمجابهة، لذلك لم يُخاطِر ابن قطن، بالصدام معه، نظرًا لقلة جيشه، ولأنه أصلًا لم يقدم لهذا الغرض.

ومهما كان الأمر، فإن حملة عبدالملك بن قطن هذه في «غالة»، كانت بالغة الأهمية؛ لأنها أظهرت لأهالي هذه البلاد أن المسلمين لا يزالون أقوياء، وأنهم لم يفقدوا زمام المبادرة بعدُ.

وتمكَّن ابن قطن في وقتٍ قصير من تثبيت سلطان المسلمين في سبتمانية، ومن تلافي الكثير من الآثار السيئة، التي تخلفت عن هزيمة المسلمين في معركة البلاط، مما شجَّع الأمراء المحليين الثائرين في مقاطعات جنوب شرقي فرنسا، المناوئة للفرنجة ولشارل مارتل على قصد المسلمين في أربونة، للتحالف معهم، وعقد ابن قطن معاهدات مع نفر من أولئك الأمراء، منهم مارونت دوق بروفانس، وريكولف كونت نيم. وهذا دليل على أن هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء لم تكن هزيمة ساحقة، وبالتالي، لم تُؤدِّ إلى زعزعة هيبتهم في نظر أهالي البلاد، ولم يلبث ابن قطن بعد ذلك حتى عاد إلى الأندلس، ثم عُزل عنها في رمضان سنة 116هـ، وتولّى بعده عقبة بن الحجاج السلولي، مولى عبيد الله بن الحبحاب، الذي كانت وقتذاك قد صارت إليه أمور الجناح الغربي للدولة الإسلامية، أي مصر وإفريقية والأندلس.

2- حملة الأمير يوسف بن عبدالرحمن الفِهريّ

وفي شوال من نفس تلك السنة (116هـ)، قدم الوالي الجديد عقبة بن الحجاج السلولي إلى الأندلس، وأخذ يُنظّم الأمور ويتأهب لاسترداد الثغور الإسلامية الشمالية، وتجديد الفتوح في «غالة»، وبتوليته تجدَّدت همّة المسلمين في أربونة وفي الأندلس للجهاد؛ لأن عقبة كان محمود السيرة مثابرًا على الجهاد.

وكان عبدالملك بن قطن قبل عودته إلى الأندلس، قد أقام على أهل الثغر، أي ثغر غالة، قائدًا من قواده، تسميه حولية موايساك، التي كُتِبَت بعد حوالي قرنين من معركة البلاط، يوسف بن عبدالرحمن، دون أن تنسبه، والغالب، أنه يوسف بن عبدالرحمن الفِهريّ (حفيد عقبة بن نافع)، الذي ستصير إليه ولاية الأندلس، فيما بعد، فيكون آخر ولاتها.

وفي أول ولاية عقبة بن الحجاج للأندلس، أي: في سنة 117هـ/ 735م، وذلك بعد مرور عامين فقط على موقعة بلاط الشهداء؛ قام يوسف الفهري، والي ثغر أربونة، بحملة عسكرية، على وادي الرون (رودنة) في جنوب شرقي فرنسا، وردت لنا أخبارها عن طريق مدونة دير «مويساك»، التي عرفنا بها سابقًا؛ حيث عبر يوسف هذا النهر، واستولى على مدينة آرل عند مصبّه، للمرة الثانية، وشيَّد بها أربعة حصون منيعة، كل حصنين متقابلين لا تزال آثارها باقية إلى اليوم، كما قال أحد من زارها.

 كما استولى يوسف على سان ريمي في بروفانس، وذلك بمساعدة مورونتوس دوق مرسيليا. وكان هذا الدوق، من أقوى زعماء جنوب شرقي فرنسا، وكان قد سيطر على معظم مقاطعة بروفانس، هذه الأخيرة التي كانت أكثر تأثرًا بالتقاليد والنظم الرومانية، وبالتالي، كانت أقرب إلى الأندلس من الناحيتين الحضارة والمدنية، من باقي مقاطعات «غالة»، وكان أهلها أرقى حضارة وثقافة من الفرنجة، الذين كانوا بنظرهم، في عداد البرابرة، كما كانت لهم لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، التي تختلف عن لغة وعادات وتقاليد الفرنجة، وبالتالي، كانوا أكثر نزوعًا للاستقلال عن حكم هؤلاء الفرنجة، للخلاص من جَوْرهم واستبدادهم، فصار مورنتوس، بالتالي، يحكم المنطقة الواقعة ما بين نهر الرون وجبال الألب، ويتحكم فيها، ويسعى إلى توطيد استقلاله، وتوسيع مُلكه، على نحو ما كان يفعل أودو، دوق أكيتانيا.

ومن أجل ذلك تحالف مورونتوس مع المسلمين في أربونة، وأقام علاقات طيبة معهم؛ للعمل ضد شارل مارتل، عدوهما المشترك. ولذلك لم يلبث يوسف بن عبدالرحمن، حاكم أربونة، حتى اتَّحد مع مورونتوس المذكور، فصعدَا شمالًا، بمحاذاة نهر الرون، في جيشٍ مشترك، فاستوليا على أفينيون، إحدى عواصم هذه المقاطعة، وكانت تحتل موقعًا بالغ الأهمية والحصانة، وكذلك افتتحوا ليون وفالانس، وتوغلوا في وادي دورانس، واخترقوا مقاطعة دوفينيه، التي تمتد شرقي نهر الرون، وتشمل جزءًا كبيرًا مما يعرف اليوم بالرافييرا الإيطالية، وغزوا دوقية برجنديا، وغيرها.

ويَنْسب محمد عبدالله عنان هذه الحملة، إلى عبدالرحمن بن علقمة اللخمي، والي أربونة، والموصوف بأنه «فارس الأندلس»، تنويهًا بشجاعته الفائقة، والذي سيلمع اسمه، فيما بعد، في أثناء الفتنة التي ستنشب في الأندلس، بين البلديين والشاميين.

وأيًّا ما كان قائد هذه الحملة، فقد استعاد المسلمون خلالها، جزءًا كبيرًا، من جنوب شرقي فرنسا، مما كانوا قد فقدوه بعد هزيمتهم في وقعة البلاط، وقد ثبت المسلمون في هذا الجزء عدة سنوات، قبل عودتهم إلى القواعد، التي انطلقوا منها في سبتمانيا.

وفي غضون ذلك كان شارل مارتل، قد وضع يده على مقاطعة أكيتانيا، بعد موت سيدها الدوق أودو سنة 735م، وفرغ من حروبه في الشمال، ضد الفريزيين، وأكمل استعدادات حملته لرد المسلمين، فبعث أخاه شلدابراند على رأس جيش ضخم يتألف من فرنجة وبورجونيين، إلى جنوب شرقي فرنسا، ثم لحق به هو على رأس جيش آخر، مزودًا بآلات الحصار، ولما وصلت أخبار تحركات شارل مارتل هذه، إلى المسلمين المرابطين في قواعد تلك المنطقة، وعرفوا أن جيش الفرنجة يفوقهم عددًا وعُدَّة، أسرعوا بالانسحاب من ليون، الموغلة في الشمال، وتحصَّنوا في مدينة أفينيون، فزحف الفرنجة نحو هذه الأخيرة، وهاجموها بشدة، وضيّقوا الخناق عليها، وظلوا محاصرين لها، حتى سقطت في أيديهم، فأجهزوا على مَن تبقَّى حيًّا من حاميتها المسلمة، قليلة العدد والعدة، والتي قاتلت لآخر رمق.

3- حصار شارل مارتل لأربونة ومعركة بيري:

ونتيجة لذلك، فقد اضطر المسلمون، إلى الجلاء عن المواقع المتقدمة، التي كانوا يسيطرون عليها، ويرابطون فيها، في جنوب شرقي فرنسا، ومِن ثَم اللجوء إلى أربونة، معقلهم الرئيسي الحصين في «غالة»، للتحصن بها، فكان أن سار إليها شارل مارتل على رأس قواته، وتقدَّم لحصارها وضرب استحكاماتها، كما قام أيضًا، بإغلاق البحيرة، التي تصلها بالبحر المتوسط، لكي يَحُول دون وصول أيّ مدد إليها، من الأندلس، من جهة البحر، ومع كل ذلك، فقد قاومه المسلمون المتحصنون بها، أشدّ مقاومة، وردّوا كل هجماته، وأفشلوا مخططاته للاستيلاء عليها، وكان ذلك في سنة 119هـ/ 737م. وكان حاكم أربونة، آنذاك، رجل تسميه إحدى الحوليات الكنسية (أكلوما)، والأرجح أنه عبدالرحمن بن علقمة اللخمي، الذي ذكرناه سابقًا.

وتذكر المدونات اللاتينية أن قبائل ألبرت المشاكسة، وَثَبَت بالمسلمين، من جديد وقطعت طُرقهم مع الأندلس، فخيَّم القلق على قُرْطُبَة، عندما بلغتها أنباء هذه الحملة الفرنجية الضخمة، وحصار شارل مارتل لأربونة، فبادر عقبة بن الحجاج، أمير الأندلس، بإرسال المدد إلى أربونة عن طريق البحر، لإنقاذ المدينة، ولفكّ الحصار الفرنجي المضروب حولها، فنزل هذا الجيش على الشاطئ، في ربيع من نفس العام، ثم زحف برًّا نحو أربونة، ولما صار على مقربة منها، علم به شارل مارتل، فرفع الحصار عن أربونة، وتقدّم للقاء هذا الجيش، ففاجأه قبل أن يصل إلى أربونة، ودارت بين الجيشين معركة هائلة، عند شاطئ جدول صغير جنوب أربونة يسمى بيري، بين أربونة وبين البحر، وحلت الهزيمة بالمسلمين، للمرة الثانية، بعد هزيمتهم في معركة البلاط، وقتل قائدهم، كما تذكر المراجع النصرانية.

ومهما كان من أمر، فإن سرور الفرنجة بذلك الانتصار المزعوم، لم يكتمل، فقد لقي قائدهم الميداني في هذه المعركة، مصرعه، في هور سيجو، وعلى إثر ذلك، أعادت القوات الإسلامية التي قدمت من الأندلس ترتيب صفوفها، وانقسمت إلى قسمين؛ القسم الأكبر منها استطاع أن يخترق خطوط العدو، وأن يدخل أربونة ويتحصن بها مع من كان بها من المسلمين، والقسم الآخر عاد أدراجه إلى المراكب الراسية في الشاطئ، وعبر إليها سباحة بعد أن قتل الفرنجة منهم ما قتلوا. وبعد ذلك عاد شارل مارتل لحصار أربونة من جديد، ولكنّ حاميتها قاومت واستبسلت، وكبَّدته خسائر فادحة، وأجبرته على رفع الحصار والانسحاب نحو الشمال. وكل هذا زوّدتنا به الروايات الكنسية.

وقال ابن حيان برواية المقري في (نفح الطيب)، وسياق كلامه يدل على هذه الواقعة: «ولما أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم شارل مارتل ملك الفرنجة بالأرض الكبيرة، وانزعج لانبساطهم، فحشد لهم، وخرج عليهم في جمع عظيم، فلما انتهى إلى حصن لوذون، وعلمت العرب بكثرة جموعه، زالت عن وجهه، وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبنيون، فلم يجد بها أحدًا، وقد عسكر المسلمون قدامه في الجبال المجاورة لمدينة أربونة، وهم بحال غِرَّة لا عيون لهم ولا طلائع، فما شعروا حتى أحاط بهم عدو الله شارل مارتل، فاقتطعهم عن اللجوء إلى مدينة أربونة، وواضعهم الحرب، فقاتلوا قتالًا شديدًا، استشهد فيه جماعة منهم، وحمل جمهورهم على صفوفه حتى اخترقوها، ودخلوا المدينة ولاذوا بتحصيناتها، فنازلهم بها أيامًا، أُصيب له فيها رجال، وتعذر عليه المقام، وخامره ذُعر وخوف من مَدَد للمسلمين، فزال عنهم راحلًا إلى بلده، وقد نصب في وجه المسلمين حصونًا، على وادي رودنة ملأها بالرجال، فصيَّرها ثغرًا بين بلده والمسلمين.

4- جهاد عقبة بن الحجاج السلولي في فرنسا

في ذلك الحين كان عقبة بن الحجاج السلولي، أمير الأندلس، يتأهب لاستئناف الغزو بنفسه فيما وراء ألبرت، وكان عقبة «مجاهدًا مظفرًا»، من طراز قادة الأندلس الكبار -السمح بن مالك الخولاني، وعنبسة بن سحيم الكلبي، وعبدالرحمن الغافقي-؛ تقوًى لله، وحبًّا للجهاد، وخدمةً للإسلام، مع ألمعية، وحسن سيرة وعدل، وقد اختار الأندلس، بالذات؛ لأنه يحب الجهاد، ولأنها ثغر جهاد ورباط، لذلك قرر عبور جبال ألبرت بنفسه لتولّي الفتوح فيما وراءها، وكان عقبة قد صرف همّه فترة من الوقت، إلى تعزيز الأمن، وإشاعة العدل بين الناس في الأندلس، وترسيخ النظام، وتنظيم الجيش، وزيادة أُهبته وقوّته، وذلك قبل أن يقوده للغزو، في شمال الجزيرة، وينزل سَرَقُسْطَة، عاصمة الثغر الأعلى، ويتخذها قاعدة عسكرية، ومكانًا لتنظيم القوات، وقد اهتم عقبة بتطهير مناطق جبال ألبرت، من الثائرين الجبليين الخشنين من قبائل البشكنس، ومن بقايا فلول القوط، التي اعتصمت بمرتفعات جبال جِلِّيقيَّة الوعرة والمجدبة، وبفتح المناطق التي ظلت مستعصية على المسلمين، في تلك الأنحاء، منذ فتح الأندلس، ضعفت الصخرة، التي احتمى بها بلاي، وهو أحد كبار القوط الذين فرّوا في أثناء الفتح الإسلامي، وعزّ عليه الخضوع للفاتحين الجدد. وبعد ذلك استقر عقبة، في أربونة، وأسكن بها جماعة من المسلمين ممن جلبهم معه، وذلك في ربيع سنة 120هـ/ 738م، وكان الإسكان يتضمن الإثبات في الديوان وتوفير المنزل والمحرث.

وكان عقبة قد عقد العزم على إعادة عهد الجهاد والفتوحات العظيمة، ولذلك، فإنه بعد أن نجح في إعادة هيبة المسلمين في سبتمانيا، إلى مكانتها، شرع في استرداد ما انتزعه شارل مارتل من القواعد والمقاطعات في جنوب شرقي فرنسا، فتحرَّك نحو نهر الرون على رأس جيشه، واستعاد مدينة آرل للمرة الثالثة أو الرابعة؛ نظرًا لأهمية موقعها عند مصبّ نهر الرون، شمالي مرسيليا؛ وذلك لضمان حرية التحرك شمالًا، من جهة، ولتأمين وصول أيّ قوات من الأندلس، إلى شاطئ البروفانس، عن طريق البحر، من جهة أخرى.

وكان الدوق مورونت قد عاد إلى الظهور والعمل مع المسلمين، من جديد، بمجرد عودة شارل مارتل إلى الشمال، فاستولى عقبة بمعاونته على أفينيون، مفتاح نهر الرون، وعلى عدة معاقل أخرى في بروفانس وبرغندية والدوفينيه في جنوب شرقي فرنسا.

ويذكر حسين مؤنس في كتابه (فجر الأندلس)، أن عقبة أعاد فتح إقليم بورجونيا كله، واستولى على ليون من جديد، وأن جناح المسلمين الشرقي في إقليم دوفينيه امتد حتى وصل إلى بيدمنت في شمالي إيطاليا، وبدا أن المسلمين يستعيدون مراكزهم كلها في «غالة» عن قريب.

وقد اهتم عقبة خلال ولايته وفي أثناء حملاته العسكرية وفتوحاته، سواء في جِلِّيْقِيَّة أو في غالة، اهتمامًا كبيرًا، بدعوة الناس إلى الإسلام، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة الحجة عليهم؛ «فكان صاحب جهاد ورباط، وذا نجدة وبأس، ورغبة في نكاية المشركين، وكان إذا أسر الأسير، لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام حينًا، ويُرغّبه فيه، ويُبصِّره بفضله ويُبيِّن له عيوب دينه الذي هو عليه، فيُذكَر أنه أسلم على يديه، نتيجة لذلك، ألفا رجل»، كما اتبع عقبة سياسة جديدة لتثبيت الفتوح في «غالة»، وهي إقامة الرباطات على نهر الرون، وتشجيع المجاهدين على التناوب على المرابطة بها.

وقد ساعد عقبة على القيام بهذا الجهد، حالة الاستقرار التي كانت تسود الأندلس، إذ ذاك؛ إذ إنه حتى ذلك الوقت، لم تكن وصلت إليها الخلافات التي اندلعت في المشرق، وكان المجاهدون فيها بعيدين عن التناحر، ولكن هذا التناحر لم يلبث أن دخل إليهم. ففي غضون ذلك، وتحديدًا في سنة 122هـ، هبّت في المغرب عاصفة هوجاء مزلزلة، لم تكن بحسبان المسلمين في الأندلس، ألا وهي ثورة خوارج البربر، فصرفوا لمواجهتها جُلّ جهدهم، وصارت هي الشغل الشاغل لهم، فحالت بالتالي، بين عقبة وبين تحقيق حُلمه في تجديد الفتوح في «غالة»، بل وبين البقاء في أربونة، وكانت بداية النهاية لوجود المسلمين في جنوب فرنسا.

أعلى