تُوفِّي يوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين ومُؤسِّسها الحقيقي[1] في المحرم سنة 500هـ، بعد أن هزَم جيوش النصارى هزيمةً ساحقةً، في وقعة الزلّاقة سنة 479هـ، وقلَّم أظفار ملك قشتالة المتغطرس ألفونس السادس، وحال بينه وبين ابتلاع سرقسطة حاضرة الثغر الأعلى، وأبعَد خَطره عن بلاد الأندلس كلها إلى حين، وخلَّص أهلها من أمراء الطوائف السفهاء المتخاذلين، وأزال ما كانوا يَفرضونه على أهلها من مُكوس وجبايات غير شرعية، ووحَّدها والمغرب تحت راية واحدة.
حركة الاسترداد بعد وفاة ابن تاشفين
ترك ابن تاشفين لابنه وخليفته عليّ بن يوسف دولة قوية مترامية الأطراف. فلم يَكَد هذا يستقرّ على عَرشها في مراكش، حتى عبَر إلى الأندلس في نفس العام، سالكًا خطة أبيه تجاهها ومقتديًا به. وأقام علي بن يوسف أخاه الأكبر أبا الطاهر تميم، حاكمًا للأندلس، وجعل مركزه غرناطة، وجعَل إلى جانبه مجموعة من قوَّاد المرابطين الأشداء، وكان شُغْلهم الشاغل هو الجهاد ضد النصارى، ومحاولة استعادة ما ضاع من قواعد الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس على رأس المائة الخامسة للهجرة، وكَبْح جماح حركة الاسترداد. كون انتصار المرابطين الساحق على النصارى في الزلّاقة[2] -برغم أهميته الكبرى-، لم يضع حدًّا لتلك الحركة، بل على العكس من ذلك، فقد تحوَّلت هذه الحركة إلى مدٍّ جارفٍ وإلى حركة صليبية ضخمة، بعد انتصار الفرنجة بالمشرق على المسلمين، واحتلالهم للقدس وسواحل الشام سنة 497هـ.
وهذا يعني أن معركة الزلّاقة لم تكن نهاية لجهاد المرابطين بالأندلس، بل كانت، في الواقع بداية لهذا الجهاد، والذي وصل إلى ذروته في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، وهو الجهاد القويّ والساطع، والذي لم تَعرف الأندلس له مثيلاً من قبلُ.
فقد اتسعت دوائر القتال بين قوات المرابطين وقوات النصارى، وتعدَّدت الجبهات، فكانت المعارك تدور في عدة أماكن في وقتٍ واحدٍ من بلاد الأندلس، وتكاد لا تنقطع صيفًا ولا شتاءً، مُخلِّفةً وراءَها آلاف القتلى والجرحى من الطرفين.
وقد عجَّل تميم بن يوسف بالمسير لحرب قشتالة، والإثخان في العدو على أراضيها، ومحاولة استعادة طليطلة، وذلك في رمضان سنة 501هـ. وكان عليه قبل أن يدخل أرضها أن يقضي على الحامية النصرانية التي كانت تحتل مدينة أُقليش (أو أقليج) الحصينة، قاعدة كورة شنتبرية، الواقعة شرقي طليطلة. وكانت أقليش شوكة في ظهر المسلمين؛ لكونها تقع في طريقهم إلى بلنسية بشرقي الأندلس، وإلى سرقسطة بشمالها. فحاصَرها المرابطون، ودخلوها عنوةً في اليوم التالي، ولكنَّ حاميتها النصرانية تحصَّنت في قصبة (قلعة) المدينة المنيعة.
ابن ملك المرابطين في مواجهة ابن ملك القشتاليين
كان ألفونس السادس، ملك قشتالة، آنذاك، لا يزال على قيد الحياة، وكان جبارًا عنيدًا شديد التعصب لمِلّته، شديد العداء للمسلمين، وكان قد استأنف استعداداته ونشاطاته العدوانية بعد كارثة الزلّاقة، بعام واحد، وعاد يُثْخِن في القواعد الإسلامية المتاخمة لطليطلة، من جديد، وكان يُعلّق أهميةً كبرى على مدينة أقليش الحصينة، في منع المسلمين من التوغُّل في أراضي مملكته.
ولذلك أخذ يتأهب للمسير على رأس جيشه، لدفع المرابطين عنها، وإغاثة قواته المُحاصَرة في قصبتها، ولأنه كان قد بلغ من العمر عتيًّا، وصار عاجزًا عن خوض معارك من هذا العيار الثقيل؛ فقد أشارت عليه زوجته أن يُوجِّه ولده شانجة (سانشو) عِوَضًا منه؛ ليواجه شانجة ابن ملك النصارى تميمًا ابن ملك المسلمين، فراقت له هذه الفكرة، وعمل على تنفيذها، وكان شانجة -البالغ من العمر خمسة عشر عامًا فقط آنذاك-، هو ولده الوحيد ووليّ عهده، فبعثه بصُحْبة مُؤدّبه ألكونت غرسيه، في جيوش كثيرة من زعماء مملكته وأنجادهم، وعلى رأسهم قائده الكبير البَرْهانش.
ولمَّا علم بذلك تميم بن يوسف جمع قادته، وشاورهم في الأمر، فأجمعوا على المواجهة، وقيل: إن تميمًا فكَّر في الانسحاب، وترك البلد للنصارى، ولكنَّ قادة المرابطين أصرُّوا على المواجهة، وهوَّنوا عليه أمر جيوش النصارى، فعمل برأيهم، وفي صبيحة يوم الجمعة 16 شوال سنة 501هـ، تحرَّك الجيش المرابطي، والتقى بجيش النصارى في ضواحي مدينة أقليش، ودارت بين الفريقين معركة حامية لا تقلّ، في شدّتها وعُنفها وضراوتها، عن معركة الزلّاقة، وانتصر فيها المرابطون انتصارًا ساحقًا على جيوش قشتالة للمرة الثانية، واستسلمت لهم قلعة أقليش.
وقد هلك في هذه المعركة من النصارى أكثر من عشرين ألفًا، وعلى رأسهم سبعة من أكبر فرسانهم وكونداتهم، ولذا فهُم يسمُّونها «موقعة الكوندات السبعة»، كما قُتِلَ فيها شانجة الابن الوحيد لألفونس السادس وولي عهده، واستُشْهِد فيها كذلك جماعة من المسلمين، منهم الإمام الجزولي، وكان رجل صِدْق من فقهاء المرابطين والأندلسيين الذين كانوا في مقدّمة صفوف المجاهدين دومًا.
نتائج وقعة أقليش
إذا كانت وقعة الزلاقة قد قلَّمت أظفار ألفونس السادس ملك قشتالة المتغطرس، فإن الكارثة التي حلَّت بجيشه في أقليش ومقتل ابنه الوحيد، بقية أمله ووارث عرشه، قد حطَّمت أسطورته تمامًا، فتُوفِّي بعدها بعام واحد حزينًا كئيبًا (3 -6-1109م/ 29 شوال 502هـ)، فخلفته ابنته «أوراكا»، واضطربت الأمور في عهدها، وبذلك انحسر الخطر المستمر الذي كانت تُشكِّله مملكة قشتالة على المسلمين. واستولى المسلمون على العديد من حصونها وقلاعها الواقعة على مقربة من أقليش.
انتصار المسلمين هذا فتح الطريق أمامهم إلى سرقسطة في شمال الأندلس، والتي كانت على وشك السقوط في أيدي قوات أرغون النصرانية، فدخلوها بمساعدة أهلها سنة 503هـ[3]، وأنهوا بذلك دولة بني هود آخر دول الطوائف بالأندلس.
كما أن المرابطين تشجّعوا بعد انتصارهم الساحق هذا، وأقبلوا في سنة 503هـ، يقودهم علي بن يوسف نفسه بعد عبوره إلى الأندلس للمرة الثانية، ووِجْهتهم طليطلة، فشنُّوا عليها غارات عنيفة، واسترجعوا العديد من كبار مدائنها مثل مجريط ووادي الحجارة وطلبيرة، وحاصروا طليطلة لمدة شهرين، دون جدوى، وعادوا إلى قرطبة بعد أن ألقوا الرعب في نفوس أهل قشتالة وأمنوا خطرهم.
وقد انتهز علي بن يوسف فرصة الهدوء في هذه الجهة، وأرسل قائده المظفر سير بن أبي بكر في حملة ضخمة إلى غرب الأندلس استعادت مدائن شنترين وبطليوس وبرتقال ويابرة وأشبونة (504هـ).
وقد استمرت حملات المرابطين تغادي طليطلة وتراوحها خلال السنوات التالية، ولكنّها كانت تستعصي عليهم في كل مرة، فقد كانت أمنع مدن الأندلس، كما تابعوا الغارات على جهات شرقي الأندلس حتى برشلونة، فكانوا ينجحون في معركة هنا، ويُخفقون في معركة هناك؛ نظرًا لاشتداد حركة الاسترداد، التي كانت تُذْكِي أوارها وتُحرِّض عليها البابوية في روما.
وقد استُشْهِد كبار قادة المرابطين بالأندلس واحدًا بعد الآخر في تلك المعارك، واستُنْزِفَتْ الدولة المرابطية، وهي تدافع عن الوجود الإسلامي بالأندلس.
والمُحْزِن غاية الحزن، أن قبائل مصمودة بالمغرب (الموحدين)، بزعامة مهديهم ابن تومرت، استغلوا انشغال دولة المرابطين بالجهاد بالأندلس، فوجَّهوا لها طعنات قاتلة متلاحقة في الظهر، أزالتها من الوجود سنة541هـ[4].
[1] حول نشأة هذه الدولة، ودور يوسف بن تاشفين في تأسيسها؛ انظر مقال: «المرابطون وملحمة توحيد المغرب العربي»، مجلة البيان، العدد 442، جمادى الآخرة 1445هـ/ ديسمبر 2023م، على الرابط التالي:
http://169.62.228.253/MGZarticle2.aspx?ID=25680
[2] حول هذه المعركة، انظر مقال «وقعة الزلاقة وإشكالية عدم استعادة طليطلة»، مجلة البيان، العدد 369، جمادى الأولى 1439هـ/ يناير-فبراير 2018م، على الرابط التالي:
https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=6123
[3] لم تستمر سرقسطة طويلاً بأيدي المرابطين؛ نظرًا لكثرة النصارى حولها، وبُعْد مركز المرابطين عنها، ولم تلبث أن سقطت بأيدي قوات أرغون (512هـ)، وعلى إثر ذلك اهتزت سُمعة المرابطين لدى أهل الأندلس، وبدأت أزِمَّة الأمور بالأندلس تفلت من أيديهم، وبخاصة أنهم كانوا قد فشلوا في استعادة طليطلة التي من أجل تحريرها كان دخولهم الأول إلى الأندلس.
[4] استمر الموحدون في الجهاد بالأندلس، وحقَّقوا نصرًا ساحقًا على النصارى في وقعة الأرك (591هـ)، ولكنَّ الكارثة حلَّت بجيشهم بعد ذلك في وقعة العقاب (609هـ)، ولم تقم لهم قائمة بعدها، وحل محلهم المرينيون بالمغرب (620هـ).