والكلِمةُ صارَ جَسَداً..
إن الناظر بعين البصيرة في
دعوى النصارى في المسيح عليه السلام أنه «الكلمةُ» الأزلية التي صارت جسداً، وبين
دعوى «الجذبيين»[1] أنّ «الفكرة» تصير واقعاً؛ يدرك أن بينهما نَسَباً،
وهو نسب يلتقي عند أسلافهم من فلاسفة اليونان من أمثال أنَكْساغورَس Anaxagoras وأفلاطون وغيرهما[2]
ممن زعموا أن العقل – الذي أسموه صانعاً (demiourgos) – هو الخالقُ لِعالم الحِس أو العالم المادي، وأنه
هو الذي نَقَله من حالة (الهَيُولي) أو المادة الخام إلى حالة (الصورة) أو
التشكُّل، أو من الفوضى إلى النظام.
يقول الفيلسوف المؤرخ «فريدريك
كوبلستن» في كتابه الشهير «تاريخ الفلسفة» حاكياً مذهب أفلاطون: «... يمكننا أن
نتحدث عن العقل الإلهي Divine Reason [في فلسفة أفلاطون] باعتباره
«ذهن الإله» “Mind of God” (إذا ما ساوينا الإله
بالواحد)، وعن المُثُل Forms
باعتبارها أفكاراً للإله Ideas
of God»[3].
معنى ذلك أن الله – تبارك
وتعالى عن كفرهم – لم يخلق الخلق بأمره، وإنما أفاض عقلُه (أو ذهنُه) على العالم
المادي أنماطاً يَتصوَّر العالم تبعاً لها؛ وهذه الأنماط هي ما يُعرف عند أفلاطون
بالمُثل أو الصُّور أو الأفكار. وتخبُّط أفلاطون في هذه المسألة معلوم، بل جُلُّ
كلامه في «الإلهيات» عديم المنفعة؛ وإنما أوردت مذهبه هذا لأنه من أقدم القائلين
بأن العالم إنما خُلق بواسطة العقل، ولِيُعلَم أن بين قديم الكفر وحديثه نسباً.
لكن ما علاقة هذا المذهب
الفلسفي العتيق بدعاوى النصارى وأهل الجذب؟
أما علاقة هذا المذهب بدعوى
النصارى فبيِّنة لمن تأمل كلام يوحنا في أول إنجيله واصفاً المسيح عليه السلام:
«في البدءِ كان الكلمة، والكلمةُ كان عند الله، وكان الكلمةُ الله» [يوحنا 1: 1].
فإن المرادف لـ «الكلمة» في
النص اليوناني لهذه الفقرة هو «لوجوس» (logos)؛ وهو مصطلح مُترَعٌ بالمعاني الفلسفية؛ فهو مشتق من الفعل (lego) الذي يحمل معنى «النطق» أو
«الكلام» ومنه جاءت الكلمة الإنجليزية (lexicon) بمعنى «معجم» أو «قاموس»؛ كما يحمل معنى «العقل»
و«الإدراك» ومنه الكلمة الإنجليزية (logic)
أي «المنطق». وقد أثّر هذا المعنى فيمن نقلوا الفلسفة اليونانية إلى العربية، إذ
عبَّروا عن العاقل بـ «الناطق»، ومرَدُّ ذلك إلى أن الكلمة اليونانية «لوجوس» (logos) تحمل معنى «الكلام» كما تحمل
معنى «العقل» في آنٍ معاً.
ولا يعنينا هنا إن كان نص
يوحنا قد كُتب في أصله باليونانية أو أنه نُقل عن السُّريانية؛ فإننا إن رجعنا إلى
معاجم السريانية المعتبرة سنجد أن الكلمة «مِلْثا» المستعملة في النص السرياني
للتعبير عن «الكلمة» تعني كذلك «العقل» و«الإدراك»[4]،
ولعل ذلك من تأثير الفلسفة اليونانية على السُّريان.
لقد عُرف القديس يوحنا كاتبُ
السفر الذي يحمل اسمه، بتأثره بالفكر الغنوصي الباطني الذي كان رائجاً في زمنه،
وهو مذهب ثنوي منحدر من الفلسفة اليونانية؛ ولذا فإن فهم كلام يوحنا لا يَحصُل إلا
بفهم الخلفية الفلسفية لكلمة «لوجوس». وبالرجوع إلى كتابات فلاسفة اليونان نجد أن
الكلمة «لوجوس» جاءت في كتابات أرسطو بمعنى «الكلام» و«البيان» ونحوهما، بينما
استُعملت في كتابات هِرَقليطُس Heraclitus
لمعانٍ يمكن وصفها بالفلسفية، لكنها لم تأخذ صورتها التي أثَّرت بها على مفهوم
«الكلمة» عند النصارى إلا بظهور الفلاسفة الرواقيين Stoics أو «أصحاب المَظالِّ»، أتباع
«زينون الكِتْيومي» Zeno of
Citium، وكان ظهورهم في القرن الثالث قبل الميلاد.
لقد جعل الرواقيون العالم –
كما حكى مذهبهم «ديوجينيس» – قائماً على مبدأين اثنين:
أحدهما سالب: وهو الهيولى أو المادة الخاملة القابلة للانفعال
والتأثر.
والآخر موجب: وهو اللوجوس أو العقل الفعال المؤثر في تلك المادة
فيَهبُها (الصورة)[5].
أو بعبارة أيسر، العالم مادةٌ
خامٌ يُشكِّلها الـ «لوجوس» أو العقل فيجعل منها ما نراه مما هو كائن. ولذا وُصف
الـ «لوجوس» عند هؤلاء الرواقيين بأنه «الإله الأزلي، صانع كل متعدِّدٍ في المادة»[6].
فجعلوا بذلك للكون خالقَين،
أحدهما: (العلة الأولى) التي يعبّرون بها عن الإله الواحد الذي فاض عنه العقل.
والآخر: هو هذا (العقل) أو الـ (لوجوس) الذي فاضَ فأبدع الكون ووهَبَه صورته، فأخذ
كلُّ عاقلٍ منه بنصيب. ولذا قد يعبّر عن هذا العقل بـ «العقل الكلي»؛ لأنه بزعمهم
ينساب في الكون كله؛ وهذا أصل القول بأن الكون عبارة عن ذرات واعية أو عاقلة كما
سيأتي. ومذهب الرواقيين كما ترى صورةٌ مهذبة للفلسفة الأفلاطونية.
ولعلي أضرب لهذا المذهب
مَثَلاً أُقرِّب به صورته: هل سبق أن أمعنت النظر يوماً في شاشة تلفازك؟ إنك
ستكتشف أن كل ما تراه على سطحها من صوَر هو مجرد نقاط صغيرة جداً تُعرف
بالعُنصُورات أو الـ «بِكسِل» pixels،
فإذا ما وجَّهتَ جهاز التحكم عن بُعد (الريموت) إلى الشاشة وقلَّبت القنوات،
تغيَّر نشاطُ تلك النقاط مستجيباً، فأبصرتَ زيداً وعَمراً، وشجرة ونهراً، وسماء
وأرضاً.
وهكذا هو العالم عند الفلاسفة،
فهو أشبه ما يكون بشاشة عظيمة ثلاثية الأبعاد، مؤلفةٍ من عدد هائل من العنصورات (pixels) التي تمثلها هنا ذرات الكون.
أما العقل الفعال فهو بمثابة (جهاز التحكم) أو (الريموت) الذي يمنح الشاشة صوَرها،
إذ يؤلف بين «عنصوراتها» (ذرات الكون)، لكنه لا يوجِدها من العدم؛ فهي أزلية
بزعمهم. وكما أن عنصورات الشاشة تستجيب لأماني جهاز التحكم لما بينهما من اشتراك
في التركيب، فكذلك تستجيب ذرات الكون للعقل الفعال بسبب ما فاض عليها منه، فأصبح
الكُل عاقلاً واعياً بما استفاد من العقل الفعال الذي هو المنتهى في الإدراك
والتفكير والعقلانية.
تأثر بهذا الفكرِ الرِّواقيِّ
الفيلسوفُ اليهودي فِيلون الإسكندري Philo،
فجعل الـ «لوجوس» صانعاً (demiourgos)
أو خالقاً وسيطاً بين الإله الواحد – الذي يسمونه «العلة الأولى» – وبين العالم
المادي، تماماً كما صنع أسلافه من الفلاسفة[7].
وأصل زندقة هؤلاء ومن سار في ركابهم من المتفلسفة الباطنية، كابن سينا وإخوان
الصفا، أنهم قالوا بأن الله واحدٌ مُطلق لا يتكثَّر، فلا يستقيم أن يخلق خلقاً
متعدداً متكثراً دون وسيط؛ لأنه يتأثر بخلقه المتكثر المتعدد، وهذا خلاف التوحيد
عندهم.. لذا استدعى الأمر وجود وسيط هو «العقل» الصانع الذي فاض عن العلة الأولى
فأبدع الخلق مع بقاء العلة الأولى منزهة عن التكثُّر كما يزعمون. ولسنا في معرض
بيان فساد هذا القول، فقد بيَّن بطلانه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواطن كثيرة من
كتبه، وإنما القصد تَصوُّر مقالتهم.
تسلّل فكرُ فيلون الإسكندري
والمدرسةِ الرواقية إلى يوحنا الإنجيلي الذي جعل وصف المسيح عليه السلام بالكلمة
مطابقاً لما زعمه الفلاسفة في عقل الفعال، وفي ظل هذا التأثر نستطيع أن نفهم قول
يوحنا: «في البدء كان الكلمةُ [«لوجوس» في اليونانية]، والكلمةُ كان عند الله،
وكان الكلمةُ الله». فالله – بزعمهم – أوجد «عقلاً» (لوجوس)؛ وهذا العقل أزلي لأنه
فاض عن أزلي؛ وهو المراد بقول يوحنا «في البدء... كان عند الله»، أي منذ الأزل.
ففي البدء فاض هذا العقل عن الله، فكان إلهاً. وهذا عين ما قال الرواقيون كما سبق
بيانه.
وإذا كان المسيح عليه السلام
باعتباره الـ (لوجوس) عند النصارى يقابل (العقل الفعال) عند الدهريين، فيلزم منه
أن يكون المسيح عند النصارى هو الصانع الوسيط الذي خُلق به كلُّ شيء. وهذا ما
عبَّر عنه يوحنا (1: 3) حقيقةً بقوله: «كلُّ شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان»، وقوله (1: 10)
«وكُوِّن العالمُ به»، والمراد «بواسطته» في الموضعين كما هو مصرح به في
«الأصل» اليوناني هكذا (di’
autou).
بقي مما يعنينا من كلام يوحنا
قوله (1: 14): «والكلمةُ صارَ جسداً وحَلَّ بيننا»؛ إذ به تكتمل الصورة. فالـ
(لوجوس) عبارة عن «فكرة» أو «كلام نفسي»[8]
فاض عن الله – تعالى عما يقولون – ثم تحول في هذا العالم المادي إلى جسد أو حقيقة
ملموسة أو واقع مشاهد. وبما أن الله أزلي فكذلك الفكرة التي فاضت عنه. وهذه الفكرة
الأزلية هي المثال الأعلى لكل فكرة، بل هي (العقل الكلي) Universal Logos الذي يستمد منه جميع الخلائق
عقولهم وأفكارهم. فتأمل التطابق بين عقيدة الدهرية في العقل الفعال (demiourgos) وعقيدة النصارى في الكلمة (logos).
هذا التواطؤ بين المعتقَدَين
الدهري والنصراني يدعونا إلى الحديث عن عقيدة باطنية قديمة حديثة يدعونها «قانون
الجذب» Law of Attraction.
وهذه العقيدة قائمة على تصوّر الدهرية لفكرة الـ (لوجوس) أو (العقل الفعال)؛
فالإنسان كائنٌ عاقلٌ مفكرٌ وواعٍ، يستطيع أن يُحدث تغييراً في أجزاء من العالم
المادي من حوله عن طريق عقله وتفكيره، فهو إذن صورة مصغَّرة للإله الواحد الذي
أحدث صورة العالم المادي عن طريق العقل الفعال؛ فالإنسان يتأمل، فينقدح في ذهنه
«كلام عقلي» أو «فكرة»، فترتبط عن طريق ذبذباتٍ بالعقل الكلي (أو الـ «لوجوس»)
المنساب في ذرات الكون، فتتشكل الذرات تبعاً لذلك، فتصير الفكرة جسداً أو حقيقة
مشاهدة.
ومن أنكر أن يكون مقصود قانون
الجذب على نحو ما ذكرنا من مضاهاة خلق الله وادّعاء أننا مخلوقون بالعقل خالِقون
به؛ فليقرأ كلام الكاتبة الباطنية «آليس بيلي» Alice Bailey الذي صرحت به عام 1922م في
كتابها «وعيُ الذَرَّة» إذ قالت:
«إن الإنسان يُظهر نشاطاً
عاقلاً، فهو قادر على العاطفة والحب، كما يضيف إلى ذلك عاملاً آخر هو الإرادة
العاقلة. إنه إلهُ نظامِه الصغير؛ فهو ليس واعياً فحسب، بل واعٍ بنفسه. إنه يبني
جسد التجلي الخاص به، تماماً كما يصنع اللوجوس، ولكن على نطاق أصغر؛ إنه يتحكم في
نظامه الصغير عن طريق القانون العظيم، قانون الجذب والطرد law of attraction and repulsion،
كما يصنع اللوجوس...»[9].
وإذا كان الإنسان إلهاً لكونه
الصغير، واعياً بنفسه، ذا إرادة؛ فهو قادر على أن «يبني جسد التجلي»، أي أن يُوجِد
«فكرة» تَخلق واقعاً، كما أن الله – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – أوجد في ذاته
بِطَريق الفيض «عقلاً» أو «فكرة» (لوجوس) خَلق بها العالم المادي.
وهذا ما عبَّرت عنه «روندا
بيرن» – حقيقةً لا مجازاً – في كتابها «السر» بقولها: «إن السر [أي قانون الجذب]
يعني أننا الخالقون لكوننا، وأن كل أمنية نبتغي خلقها ستتجلى في حياتنا»[10].
فنحن – عياذاً بالله – آلهة صغرى تشارك الخالقَ خلقَه. فكلُّ عاقلٍ قد استفاد
عقلَه من (العقل الفعال)، وبالقدْر الذي فاض عليه من العقل الفعال يستطيع أن يخلق
كونَه الصغير الذي هو جزء من الكون الأكبر. بمعنى أن كل إنسان يمتلك جهاز تحكم
(ريموت) هو (العقل) يستطيع به أن يغيِّر جزءاً من الشاشة الكبرى التي هي الكون!
وهؤلاء قد يعبِّرون عن فيض العقل بـ «النية» تارة وبـ «الوعي» تارة أخرى؛ فإذا
أرادوا أن يُضفوا على هذا المعبود شيئاً من العقلانية أو «الأكاديمية» أسموه
«طاقة»، لكن الحقيقة أن هذه الأسماء تُعبّر عندهم عن المسمى نفسه.
هذه العقيدة الوثنية قادت
جُلَّ هؤلاء القوم إلى القول بوحدة الوجود وأنه لا فارق بين المخلوق والخالق،
فالكل واحد، لكنهم يخفون عقيدتهم هذه خلف مصطلحات ظاهرها العلمية كـ «التكاثف
الكَمِّي» و«سُحُب الاحتمالات» وغيرهما، يُلبّسون بها على غير المختص.. لكن إيمانهم
بوحدة الوجود ليس بمستغرب، فأسلافهم آمنوا بأن (العقل الفعال) الذي خلق الكون قد
انساب في ذراته فصيَّره عاقلاً؛ فمن الطبيعي على مذهبهم ألا يكون ثمة فرق بين
العاقل والمعقول، فكلاهما عقل. وهذا يفسر لنا ما تقصده الباطنية «آليس بيلي» من
عنوان كتابها سالف الذكر «وعي الذرة»؛ فكلُّ ذرةٍ في الوجود عاقلةٌ أو واعيةٌ،
ويمكن التحكم بها عن طريق جهاز التحكم عن بُعد (العقل) لما بينهما من اشتراك في
الجوهر.
يقول أحد أئمة الجذبِيّة
المعاصرين «ديباك شوبرا» [11]Deepak Chopra:
«إننا من خلال الوعي نُظهر
الكون كله. حالتنا الأصلية أو الأساسية هي أننا وعي صِرْف.. أنت تَنظُر إلى مدينة
نيويورك خلفي، لكن مدينة نيويورك ليست خلفي، إنها في وعيك.. ليس ثمة شيء خارج
الوعي».
ثم يُضفِي على هذا الوعي (أو
العقل) صفات الألوهية فيقول: «وهذا الوعي خارجُ المكانِ والزمان، إنه فوق الزمان
والمكان، إنه مُتعالٍ؛ إنه ليس محدوداً».
أي أننا والكون مجرد (وعي)،
نحن الكون والكون نحن. وهو يستشهد لوحدة الوجود هذه بقول جلال الدين الرومي: «أنتَ
لست قطرة في المحيط، بل أنت المحيطُ بأكمله في قطرة».
ثم يحدثنا «شوبرا» عن ذرات
الكون «الواعية» التي شبَّهتُها أعلاه بالعنصورات أو «البكسل» على شاشة التلفاز،
فيقول: «لكنه [أي الوعي] يحوي سُحُباً من الاحتمالات هي قالبٌ من الصور الفكرية
ذات القدرة الكامنة التي تقع في وعيك الخاص...»، وبواسطة «النية» التي هي بمنزلة
توجيه (الريموت) إلى الشاشة «تبدأ أنت بإظهار الأشياء؛ لن تُظهِرها بمفردك، بل في
عملية خلقٍ مشتركة مع اللُّغز الذي نسميه «الله» (in co-creation with the mystery that we call “God”)».
ثم يفسِّر هذا الشِّرك
الصُّراح بقوله: «عندما تكثِّفُ أنت سحابة احتمال [أي تجمع ذرات الكون العاقلة] من
خلال النية... هذا ما يحدث: تحصل لديك أولاً تجربة داخلية في ذهنك، كما تحصل لديك
أيضاً تجربة خارجية هي العالم، لكن في الحقيقة كلتاهما تحدثان داخلك... العالم
الخارجي هو صورة رمزية للمُثُل الذهنية التي تنتج عن التكاثف الكمي في حقل
مُتعالٍ» – أي تنتج عن تجاذب الذرات الذي يخرج لنا صورةً أو مخلوقاً ما.
وبعد أن يعبِّر «شوبرا» عن
الشرك القديم بأسلوبه «الأكاديمي العلمي الحديث»، يضيف قائلاً: «قد يكون هذا
الكلام ثقيلاً بعض الشيء، لكنَّ العلم يتجه هذه الوجهة. بِدونكَ لن يكون ثمة كون،
أو بدون كائن واعٍ لن يكون ثمة كون... أنت جزء من حقل أكبر من الوعي، إنه لغزٌ نسميه
(الله)».
فـ (الله) و(الوعي) – أو العقل
– عند هؤلاء، اسمان لنفس المسمى، وبما أن الإنسان جزءٌ من هذا الوعي، فهو أيضاً
«خالقٌ» – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا ما نصَّت عليه الصحفية
الأمريكية الشهيرة «لين مَكتاجَرت» Lynne
McTaggart في كتابها «الحقل: البحث عن قوة الكون الخفية»، إذ قالت: «إن
البشر وكل الكائنات الحية مركبٌ من الطاقة، في حقل من الطاقة، مرتبطون بكل شيء في
العالم... ليس في أبدانِنا ثنائيةُ «أنا» و«غيري» بالنسبة للكون، إنما هو حقل طاقة
أساسي واحد»[12].
كما صرحت في حوار أجراه معها
«آلان ستاينفلد»، بأن الوعي هو الخالق. بل نقلت عن بعض من أسمتهم «علماء» قولهم
إنه لو لم ينظر الناس إلى القائد النازي «هِتلر» في زمنه لما وُجد! بل إن الكون
ربما يختفي أثناء النوم[13]!
فملاحظة الإنسان وقصده النظر هو الذي يجمع ذرات الكون لتصوِّر مخلوقاً، فإذا غاب
هذا المصوِّر غابت الصورة!
وفي عام 2007 كتبت هذه الوثنية
الضالةُ كتاباً أسمته «تجربة النية»، وهي تعني بالنية توجيه العقل لتغيير الكون أو
«تكثيفَ سحابة الاحتمال»، كما عبر عن ذلك «شوبرا» في كلامه السابق. ولن أقتبس من
متن الكتاب خشية الإطالة، لكن يكفي لمعرفة محتواه تلك الدعاية الجانبية على غلافه:
«احتل مكانَك ضمن أكبر تجربة تبحث في تحكم الذهن (mind) في المادة (matter)». فحقيقة الكتاب أنه إحياء
لثنوية «العقل» و«المادة» عند الرواقيين، وأن الأول هو الخالق للآخر على نحو ما
سبق بيانه.
لكن الأغرب من هذا كله أن نُقل
الكتاب إلى العربية بإشراف الدكتور صلاح الراشد الذي امتدحه قائلاً: «لم أفهم
النية عملياً إلا عندما قرأت لها. هذا الكتابُ نقلةٌ حقيقية لمعنى أن الحياة نية
وتركيز نية. إذا أردت أن تفهم كيف تحقق ما تريد من الحياة عن طريق النية فهذا
الكتاب هو مدخلك لذلك»[14].
ولمَّا سئل الدكتور صلاح
الراشد في أحد البرامج الحوارية: «هل النية أقوى من الدعاء في جذب ما تريد؟»،
أجاب: «أكيد! النية هي الأصل، هي أصل كل شيء بما فيها الدعاء والأعمال»[15]،
بل ذهب أبعد من ذلك فطفق يروج لدراسة غربية وصفها بالـ «محيرة»، مفادها أن الدعاء
قد يحدث أثراً سلبياً؛ وكأنه لم يقرأ قول الله جل شأنه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي
لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:
٧٧]، بل فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) بقوله: «لهذا
الحديث تفسيرات كثيرة، واحد مما أراه في عمق الحديث هو: أن الأحداث (الأعمال)
تتحقق بالنيات!»[16]، وهو بهذا يبرر لـ «شوبرا» و«مكتاجرت» – التي
وصفَتْه بـ «ديباك شوبرا» الشرق الأوسط»[17]
– ضلالهم في زعمهم أن فيض العقل أو الوعي أو النية هي التي توجِد الخلق وما
يعملون.
ومثل هذه المحاولات لأسلمة
الوثنية الغربية باسم التنوير والعقلانية، تنُمُّ عن عقدةِ نقصٍ متأزِّمة وتبعية
عمياء، وقد سبق إلى مثلها أناسٌ من المتفلسفة الباطنية استدلوا لضلال الفلاسفة
الدهرية بحديثٍ موضوعٍ مكذوبٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصروا به
(العقل) كما ينصره هؤلاء، فزعم أولئك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ
أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ! فَأَقْبَلَ،
فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ! فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا
أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك، فَبِك آخِذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك
الْعِقَابُ)[18]، وها هو التاريخ يعيد نفسه.
وهؤلاء المفتونون – رغم
تهافتهم – يرمون خصومهم بالجهل بمرادهم، فهُم الخواصُّ الذين أدركوا لُباب العلم
وباطنه بينما تركوا لنا الظاهر والقشور. وحجتهم في ذلك أنّا لا نواكب الجديد من
علوم الغرب، بل نقف حيث انتهى سلَفُنا. وهذا من التلبيس على العامة، فإن ما يزعمون
أنه من جديد العلم إنما هو في الحقيقة من قديم الشرك كما بيّنَّا. بل جُلّ ما
يزعمون أنه من العلم هو لحمُ جملٍ غثٌّ، على رأس جبلٍ وعْرٍ، لا سهلٌ فيُرتقى ولا
سمينٌ فيُنتقل. وإني أتحدى هؤلاء «الجذَبة» أن يثبتوا لنا بالدليل أن ما يروجون له
من قانون الجذب مغاير لشِرك الفلاسفة الدهريين والنصارى وزعمهم أن العقل هو الذي
صنع العالم – ودونَ ذلك خرطُ القَتاد.
فقانون الجذب تحدث عنه باطنيو
الحركة الثيوصوفية منذ مائة عام كما فصلته في مقالة أخرى[19].
واعتقاد تسخير القدَر عن طريق هذا القانون، وأنك إن فكرت فيما تشتهي أتاك راغماً؛
ليس عِلماً ولا هو بالحديث، فإننا إن عدنا إلى عقيدة الرواقيين وجدناهم يُسمُّون
الـ (لوجوس) «قدراً»؛ وذلك لارتباط فيض العقل عندهم بحصول الأمر. يقول «ديوجينيس»
حاكياً مذهبهم: «يُعرَّف (القَدَر) بأنه سلسلة لا متناهية من العلل بها تحصل
الأشياء، أو أنه الـ (لوجوس) أو الصيغة التي يسير بها العالم»[20].
فتأمّل كيف جلب هؤلاء على أمة
الإسلام بجهالتهم شركاً أعظم من شرك النصارى؛ فإن النصارى جعلوا المسيح عليه
السلام شريكاً لله في إيجاد خلقه، بينما جعل هؤلاء «الجذَبة» كل إنسان، نبياً كان
أو غير نبي، شريكاً لله في خلقه، قادراً على التصرف في أقداره.
فتنبَّه يا من خُدع بشعارات
زائفة، ووعود كاذبة، فإنك لن تُحصِّل من دنياك إلا ما قدَّره الله لك، وإن قضيت
عمرك محتبياً تتأمل.
لو أن في صخرةٍ
صمَّاً مُلملَمةٍ
في البحرِ راسية
مُلسٌ نواحيها
رزقاً لعبد براه
الله لانفلقت
حتى تؤدي إليه
كل ما فيها
وإن من الغبن أن تدفع لـ
«عَليم الدين» حُرَّ مالِك، بينما لا «تجذب» من دنياك إلا خسران آخرتك.
::
مجلة البيان العدد 313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.
* سفر يوحنا 1: 14. هنا وفي مواضع أخرى من سفر يوحنا تُعامل «الكلمة» معاملة المذكَّر.
[1] أعني
بالجذبيين أنصار قانون الجذب.
[2] Plato. The Timaeus of Plato, R. D. Archerhind, ed. (London: McMillan and Co., 1888), pp. 10-40.
[3] Frederick Copleston. A History of Philosophy (Image Books, 1993), vol. I, p. 193.
[4] انظر على
سبيل المثال: معجم لويس
كوستاز، ص
138؛ وقاموس Compendious Syriac Dictionary ص 275.
[5] Diogenes Laertius, VII, 134 (pp. 238-239).
[6] Diogenes Laertius, VII, 134 (pp. 238-239).
[7] William Reese. Dictionary of philosophy and Religion (New Jersey: Humanities Press, 1996), p. 571.
[8] قول الأشاعرة
في كلام الله عز وجل بأنه معنى واحد قائم بذاته لا يتجزأ، ووصفهم له بـ «الكلام النفسي»، مُستمد من
تصوُّر الفلاسفة للوجوس أو العقل الفعال.
[9] Alice Bailey. The Consciousness of the Atom (Lucis Trust, 1989), p. 69.
[10] روندا بيرن،
كتاب السر، ص
27-28.
[11] انظر على
يوتيوب: (ديباك شوبرا/ كيف تُظهر
الأشياء في حياتك؟)، علماً أن
الترجمة المصاحبة غير دقيقة، لذا لم أعتمدها، لكنها كافية لبيان المقصود.
[12] Lynne McTaggart. The Field: the Quest
for the Secret Force of
the Universe (Harper Collins
Publishers, 2001), “prologue”.
[13] انظر على
يوتيوب:
Lynne McTaggart interviewed by Alan Steinfeld
/New Realities
[14] http://www.alrashed.net/products/PublicationDetails61.htm.
[15] انظر على يوتيوب: (قناة الرسالة
الفضائية - لقاء الجمعة – د. صلاح الراشد)، الدقيقة: 0:54:33
[16] راجع كلامه
بتمامه على الرابط التالي تحت عنوان «جلسات إرسال النية» لتدرك خطورة
ما نتحدث عنه:
https://www.facebook.com/ssalrashed/posts/144086105648196?comment_id=1229639&offset=0&total_comments=26.
[17] انظر على
يوتيوب: (لين ماكتاجريت/ تتحدث عن
تجربة إرسال النية يوم
11 سبتمبر)، الدقيقة: 0:15.
[18]
مجموع فتاوى ابن تيمية، 11: 230.
[19] في مقالٍ بعنوان «قانون الجذب،
من السر إلى السحر».
[20] Diogenes Laertius, VII, 149 (pp. 252-253).