• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ما بين النكبة والطوفان.. هل هرمت «إسرائيل»؟

التحفت الصهيونية بالدين رغم أن قادتها لم يكونوا متدينين، وبعضهم كانوا ملحدين، لكنهم آثروا دغدغة مشاعر بسطاء اليهود الشرقيين بذلك.


عند النظر لأول وهلة في المرآة التاريخية العاكسة، ستجد أن الصورة تبدو متطابقة في خطوطها الخارجية:

هنا تقف عصابات هوشيمير (1909م)، ثم الهاجانة (1920م)، وأرجون (1937م)، وشتيرن (1940م) لتُشكّل نواةً للجيش الصهيوني، والتي تضخّمت بسرعة لا سيما بعدما انضمَّ إليها الفيلق اليهودي (معظم قادة هذه العصابات كانوا من أوروبا الشرقية)، في مقابل تحالف الجيوش العربية التي قيل حينها: إنها زحفت لتحرير فلسطين.

احتشد العرب في يوم 14 مايو 1948م حين كان عليهم الانتظار حتى ينتهي ما يُسمَّى بالانتداب البريطاني لفلسطين في ذلك اليوم، لتبدأ الحرب بين جيوش عربية تُمثِّل ملايين العرب في مقابل عدة مئات الآلاف هم كل المغتصبين اليهود حينها لأرض فلسطين.

تم التنسيق بين جيوش مصر وسوريا والعراق وإمارة شرق الأردن لتزحف إلى فلسطين، لمواجهة عصابات صهيونية، نسَّقت هي الأخرى فيما بينها، وقد كان بعض تلك الجيوش تخضع لتأثير بريطاني كبير، كونها هي أيضًا تعاني من الاحتلال البريطاني، وبعضها تعاني من الاحتلال الفرنسي. 

ومعلوم أن الجيوش العربية حينها كانت أضعف، وأقل قدرة، على القتال من العصابات الصهيونية لأسباب عديدة.

وبالنظر في الجهة الأخرى من المرآة، تقف الفصائل الفلسطينية في غزة قبالة جيش صهيوني، يضم مستشارين غربيين، وتديره غرفة عمليات أمريكية/بريطانية/فرنسية/ألمانية/إيطالية، ويتقدم صفوفه جنود مرتزقة من دول مختلفة. لكنَّ هذه الفصائل هي التي أوجعت التحالف العسكري المعادي وكبَحت عنفوانه.

تبدو الصورة في خطوطها الخارجية مشابهة إلى حدّ بعيد، بيد أن عصابات الإجرام ليست كفصائل المقاومة، ولا خفة الجيوش ورعونتها يومئذ، كصولة واندفاع حلفاء اليوم، الذين هرعوا ليضعوا حاملات طائراتهم في خدمة الكيان الغاصب، ويفتحوا خزائن أسلحتهم على مصاريعها فداءً لـ«إسرائيل» في مِحْنتها الفريدة.

ومنذ أن حطّت أقدام يعقوب دوري قائد الهاجاناة، وإسحاق رابين قائد بالماخ فرع الهاجاناة (الأوكرانيين)، ومناحيم بيجين مؤسس الأرجون وقائدها (البلاروسي)، وديفيد بن جوريون مُؤسِّس الجيش الصهيوني، وإسحاق شامير قائد شتيرن (البولنديين)، وغيرهم، أرض فلسطين؛ فإنهم شرعوا في إقامة جيش صهيوني، ثم مصنع أسلحة تحت الحماية البريطانية لمواجهة أصحاب الأرض الفلسطينيين، لكنَّ فصائل المقاومة في الحقيقة لم تَحْظَ بدعمٍ مُوازٍ، واضطرت إلى معاندة العالم كله لتقف يومًا ما في مواجهة شبه متكافئة أمام جيش يُعدّ من بين أقوى 20 جيشًا في العالم حسب الإحصاءات الغربية، بل وتضع رأسه في الوحل في مذلة 7 أكتوبر، وما تلاها من معارك بين أطلال غزة.

هنا المفارقة لافتة جدًّا، حتى دون النظر لنتائج الحرب التي دارت في قطاع غزة المُدمَّر؛ فهي تختصر 75 عامًا من الصعود ثم الهبوط للكيان الصهيوني، وما بين ضعف العمل المُقاوِم إلى قوته وبأسه ونكايته في العدو الصهيوني. إنه انقلاب لصورة مغايرة تمامًا في العقد الثامن من عمر الكيان الصهيوني، بل هو عمر ثلاثة أجيال أسَّست هذه الدولة المزعومة، تومئ إلى نظرية ابن خلدون أو يومئ إليها؛ حيث قراءته الفريدة لصعود الدول وهبوطها في كتابه العظيم: المقدمة.

مع «المقدمة».. شمشون أم الطائرة؟

تقوم نظرية ابن خلدون فيما يخص أعمار الدول على كونها تمر بثلاثة أجيال؛ جيل البداية الذي يُعالج قادته تحديات النشأة من حروب وفتوحات وتأسيس في مجالات مختلفة، وتتسم بالخشونة نوعًا ما، وتقوم على وجود عصبية تجمع الجيل الأول، والجيل الوسيط الذي يبدأ في رؤية حياة الترف والدعة لكنه لا ينسى تحديات البداية، بل ويكمل عليها بما تقتضيه حاجة التوسعات ونحوها، ثم يأتي الجيل الثالث الذي لم ير إلا حالة الترف والازدهار والحضارة، فتزداد نفقاته وتقل قدراته على مواجهة التحديات، وتبدأ معه الدولة في مرحلة الهرم، شأنها شأن الإنسان حينما يصل إلى شيخوخته[1] لا يعود إلى صباه وحيويته أبدًا.[2] فهل وصلت «إسرائيل» إلى تلك المرحلة رغم ما تبدو عليه الآن من تماسك وقوة بأس؟

قبل عشرين عامًا، أفرد الدكتور عبدالوهاب المسيري، الخبير في الشؤون الصهيونية، وصاحب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» فصلًا في كتابه: «من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية»، أسماه «نهاية إسرائيل»[3]؛ حشَد فيه دلائل على دُنُوّ أجل الكيان الصهيوني، لافتًا إلى الأسطورة اليهودية عن «العقدة الشمشونية»[4] و«ماساداه»[5]، ناقلًا عن كُتّاب صهاينة ترجيحهم سيناريو التعلق بالطائرة الأخيرة، على شاكلة تعلق فلول الأمريكيين ومرتزقتهم وعملائهم بآخر طائرة حوامة حطت على السفارة الأمريكية في سايغون بفيتنام[6]؛ آمِلِين في النجاة والفرار من الانتقام الفيتنامي[7]. مؤكدًا أن ذلك قد حصل في انتفاضة الحجارة 1987م في حديث شارون، ثم في حديث الصحافة العبرية في انتفاضة الأقصى 2000م؛ إذ كان الحديث عن الهروب في النهاية وليس الانتحار. ولربما لو امتد العمر بالمسيري، لقرأ بنفسه اليوم عشرات من المقالات والتحليلات، التي نطالعها عن هذا السيناريو، والحديث الإعلامي والشعبي، والسياسي أحيانًا عن «نهاية إسرائيل»، هذا بالطبع عن قطاع كبير من المتفائلين في الجانب المسلم، ومِن قبلهم كان زعيم حماس الراحل الشيخ أحمد ياسين الذي نظر لـ«الخلدونية» من زاوية أخرى: «نكبة ثم انتفاضة ثم انتصار لفلسطين».

لكنّ رؤية نتنياهو[8] ورفاقه على ما تبدو حتى الآن، تبدو متوجِّهةً إلى الجمع ما بين الخيار شمشون والانتصار الكاسح معًا! أي الهروب إلى الأمام؛ لاعتبار أن التوقف عن مسعى تصفية المقاومة مُفْضٍ إلى تدمير «إسرائيل»، فلا خيار أمامه فيما يبدو إلا تدمير غزة بمقاومتها[9] ومبانيها وبناها التحتية، ولو أدى ذلك إلى انكسار الجيش الصهيوني تمامًا؛ فهي حالة «هروب إلى الأمام» لم تقدم عليها «إسرائيل» من قبل، وهي حرب لم تَخُضْها «إسرائيل» يومًا ما برغم كل جولاتها السابقة من الحروب مع دول الطوق.

هل هرمت «إسرائيل»؟

ليست الإجابة على ما تبدو لأول استهلالٍ يسيرة، لكنَّها أيضًا ليست صعبة؛ فما يلاحظه أي باحث أو قارئ في هذا الصدد أن الخبراء والمحللين والمفكرين من كافّة المشارب إنما يدورون حول تساؤل عن زوال «وشيك» لـ«إسرائيل» أو أنها بداية النهاية اللائحة في الأفق.. فهل هي غادرت مرحلة الشباب منذ أجل أم مرحلة الشيخوخة؟

وفقًا لابن خلدون[10]؛ فإن الحكم لا بد له من عصبية، وإذ يحصرها نوعًا ما في القبائل والعشائر، فإن خلفاءه في علم الاجتماع توسَّعوا، وألحقوا بها الأحزاب والوحدة الفكرية، ونحو ذلك، ولهذا أمست «الصهيونية» التي نادى بها هرتزل ورفاقه، ثقبًا أسود يجذب إليه كل المهاجرين من بطش هتلر أو أوروبا الشرقية أو حالم بالرفاه من فقرائها، أو «متدين»، أو راغب بمزيد من الثراء في جيتوهات اليهود في أوروبا والمشرق العربي. ووفقًا لابن خلدون[11]؛ فإن العصبية لا بد لها من دعوة دينية، وقد التحفت الصهيونية بالدين رغم أن قادتها لم يكونوا متدينين، وبعضهم كانوا ملحدين، لكنهم آثروا دغدغة مشاعر بسطاء اليهود الشرقيين بذلك.

ويعزو ابن خلدون دخول الدولة في مراحل الشيخوخة إلى زيادة الترف والدعة والانفراد بالمجد، وتحوّلها من «البداوة» إلى «الحضارة» بما يَعنيه ذلك لديه من مصطلحات تقضي بأن يدبّ حبّ الدنيا في نفوس عسكرييها وكبار قادتها ونحو ذلك، وهو ما يبدو أنَّه مُشاهَد في «إسرائيل» وجيشها اليوم، فلم يَعد مقارنة فلوله اليوم، وما تصوّره مقاطع الفيديو من داخل الجيش، قبل الحرب، من انصراف المجندين والمجندات إلى اللهو والرقص ونحوه على خلاف ما كانت عليه عصابات الهاجاناة وشتيرن ونحوها التي تأسَّس الجيش الصهيوني على أكتافها في أول الأمر، كما لا يمكن مقارنة قادة الأمس بقادة اليوم. هذا فضلًا عن أبناء القادة؛ فلم تزل صورة نجل نتنياهو وهو يلهو في ولاية ميامي الأمريكية تضغط على أعصاب الجنود المهلهلين في غزة، مثلما لم تزل صور أبناء القادة المؤسسين[12]، وهم يتنعمون في أوروبا وأمريكا تشي بأن جيل النهاية قد وُلِدَ منذ فترة، وتولَّى أو كاد، المسؤولية عن مواراة الدولة الغاصبة التراب. وأما الترف الداخلي؛ فهو مُشاهَد في مدن فلسطين المحتلة الكبرى كأمثال تل أبيب[13] وحيفا ويافا والقدس الغربية، وفي الدخول العالية لأبناء طبقة الاشكناز، الأكثر ثراءً في «إسرائيل».

إن «إسرائيل» في الحقيقة قامت على فكرة، الصهيونية، وقد كانت جامعة لشتات طوائف يهودية جاءوا من جميع أصقاع الأرض، لا سيما أوروبا الشرقية، والمغرب والعراق وإيران ومصر، ودول غربية (بهذا الترتيب لكثافة الهجرة تقريبًا)، وهذه الجامعة قد خفَّت كثيرًا عند الأحفاد، لا من حيث الإيمان بالصهيونية كمُقوّم جامع، وإنما لم يَعُد بريقه لدى الشباب المترف الغارق في شهواته كما سبق، ولهذا يحرص الكثيرون على أن يحتفظوا بجنسيات أخرى ليس بالضرورة للهجرة تحت وطأة الحروب، وإنما جريًا خلف الثراء والدعة، ولهذا فإن كثرة الحروب وانطلاق زخات الصواريخ باتجاه المدن الكبرى المحتلة دافعة للتفكير مرارًا في التخلّي النسبي عن هذه الجامعة.

أما التدين؛ فبخلاف ما يذهب إليه ابن خلدون؛ فإنه في الحالة اليهودية الحالية ربما كان دافعًا نحو الانقسام أكثر في «المجتمع الصهيوني». صحيح أن الأحزاب الدينية باتت تجد لها حظوظًا أوفر داخل الكنيست، وفي التأثير السياسي الداخلي والخارجي، استنادًا إلى الفارق في نسبة المواليد ما بين التيارات الدينية والعلمانية، التي ترجّح زيادة معدلات الأولى عن الثانية ما غيَّر نوعًا ما داخل المجتمع الصهيوني؛ إلا أن هذا الأثر ربما صار أكثر ضررًا في توحيد الجبهة الداخلية الصهيونية لأسباب منها:

- ميل الشباب «الإسرائيلي» إلى الانحلال والميوعة والتعلق بشهواته، وتقليد انحرافات الغرب المختلفة.

- عدم واقعية أحلام وأهداف الأحزاب اليمينية الدينية في «إسرائيل»، كإنشاء «إسرائيل» الكبرى؛ فيما هي لم تزل عالقة في غزة، فاشلة في إخراج بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين من شبكة أنفاق غزة.

- زيادة الانقسام في المجتمع الصهيوني، وزيادة تشظّي أحزابه (ظل الصراع طويلًا ما بين حزبين رئيسين على طريقة الولايات المتحدة (بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي)، وبريطانيا (بين المحافظين والعمال)، إلى أن تشظت الأحزاب الصهيونية بسبب زيادة الانقسام داخل الأحزاب ذاتها على النحو الذي شُوهِدَ في تجارب الدول غير المستقرة، والبلدان التي تشهد فوضى سياسية واجتماعية.

وإلى ذلك، فإن ما يُشدِّد عليه ابن خلدون عند حديثه عن وجود قبائل وفِرَق كثيرة ومتشاكسة في دُوَل تُؤذن بخراب عمرانها[14]، هو عينه، ما يتجلى في المشهد الصهيوني حتى قبل فضيحته في 7 أكتوبر، فقبل أشهر من اندلاع المعارك كانت «إسرائيل» منقسمة حول ما أطلق عليه اسم «الانقلاب القضائي»، وهو مسمى ذو مغزى؛ إذ إنها المرة الأولى التي تتحدث فيها «إسرائيل» داخليًّا عن انقلاب، وهي التي استندت في بعض أدواتها التسويقية في الغرب على أنها «واحة الديمقراطية الفريدة في الشرق الأوسط»! ثم هي الآن تتحدث عن احتمال حدوث «انقلاب عسكري» بسبب الهوة التي تزداد اتساعًا بين الجيش والقيادة السياسية؛ حيث تضع الأخيرة أهدافًا للحرب تفوق قدرات الأول.

إنه الانقسام إذن، ديمقراطية لا تستقيم مع «انقلاب قضائي»، وهو قائم لرغبة نتنياهو وحلفائه اليمينيين في تقييد السلطة القضائية، ومنح رئيس الحكومة سلطات أوسع، ورقابة أقل. وإذ يرى الجيل الجديد نفسه غربيًا بخلفية يهودية، فإنه لا يقبل ببساطة هذا التغول السلطوي، ثم هي ديمقراطية لا تنسجم مع الاحتلال والقوة الغاشمة، وهي كذلك لا تجد حلًا للقنبلة الديموغرافية لعرب «إسرائيل» كما يُقال، الذين يتكاثرون بمعدل أعلى من اليهود داخل الخط الأخضر. وليبرالية وحقوقية لا تمتزج مع ظهور جيشها أمام العالم كله كميليشيا قاتلة بدلًا من استمراره في خداع البعض بأنه «مقاتل محترف شريف»! انقسام مردّه التناقض ما بين صهيونية علمانية أصيلة للكيان (حيث نشأ في فترة صعود العلمانية الأوروبية بالأساس)، بات يُمثّلها اليسار أكثر، وبين يمينية صاعدة متطرفة لا يمكن تنفيذ أجندتها لا السياسية الخارجية، ولا القانونية في «مجتمع منفتح» (اصطلاحًا)، فلا هي أصبحت دولة قومية علمانية، ولا دينية يهودية!

ثم هو الصراع الطبقي الآخذ في تشقيق «المجتمع» أكثر وأكثر؛ ففي عدوان غزة، ثمة ما تحدَّث عنه ابن خلدون من محاولة لتجديد شباب الدولة الهرمة، بقوله: «وربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصارًا وشيعة من غير جلدتهم ممَّن تعوَّد الخشونة؛ فيتخذهم جندًا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره»[15]، لكن ما عناه ابن خلدون هنا صحيح فيما يخص القوات الصهيونية المهاجمة في غزة، التي تتكون الآن من أربعة مستويات طبقية:

1- مرتزقة الخارج: من الأوروبيين والآسيويين، والذين كشفت عن وجودهم المقاومة ومصادر إعلامية.

2- وحدات المستعربين: والتي لها علاقة بالجيش وقت الحروب، كوحدة دوفدفان، ووحدة ي.م.س، ومعظمها من الدروز الذين تُضحّي بهم «إسرائيل» وقت الحاجة.

3- ضباط وجنود الفلاشا من الإثيوبيين، وبعض دول أوروبا الشرقية.

4- ضباط وجنود يهود الاشكناز الغربيين: وهم أصحاب الحظوة والنفوذ والاعتبار في الجيش وغيره.

وهذه الطبقية تُتيح للكيان الصهيوني قدرةً أكبر على تحمُّل خسائر أكبر مما كان سيتحمله لو كان القوات الصهيونية مقتصرة على العنصر الرابع أو حتى الثالث فحسب.

لكن ما هو مزية في الجيش، ربما لا يكون كذلك فيما يخص غيره؛ فمعظم سكان غلاف غزة -على سبيل المثال- هم من اليهود الشرقيين، فيما يتركز الاشكناز في تل أبيب ونحوها، وهذا يحدث شرخًا حين يَطال الأُسَر، وخاصةً الشرقيين، وتتباطأ سلطات «الاشكناز» عن نجدتهم، والأمر نفسه يتعلق بالهجمات والتعرض لزخات صواريخ المقاومة، ولا شك أن تصريح إذاعة الجيش عن أنها ستضمن وقف الهجمات بعيدة المدى دون قصيرة المدى، لاعتبار سهولة استهداف منصات الصواريخ الكبيرة عن الصغيرة، ونحو ذلك، ما سيزيد من جملة التحديات التي تواجهها الطبقات الدنيا، بما يوسِّع من الشروخ التي تتَّسع تدريجيًّا أصلًا بين الطبقات، مع تراجع الصهيونية واليهودية أمام النمط الاستهلاكي المادي الاجتماعي في الكيان.

*    *    *

ثمة ملامح لا يمكن التغافل عنها عند النظر إلى الحالة الصهيونية في نُسختها الحديثة، ويومها الأخير، ويمكننا ملاحظة رؤية النمر الورقي وقدماه تغوصان في الوحل شيئًا فشيئًا، لكنَّ حبلًا من الناس لم يزل يُقيم صُلبه حتى الآن، وضعفًا في المحيط يُبقيه على قيد الحياة، ولربما ذلك سيزيد من يومه الأخير لمدة قادمة بعض الشيء، لكن يتعذّر الظن بأن هذا الكيان الهزيل سيبقى طويلًا بالمعنى الدقيق لحياة الدُّوَل.

 


 


[1] مقدمة ابن خلدون 2/545.

[2] يستثني ابن خلدون حالات يمكن للدولة فيها أن يمتد عمرها، منها: تغيير قوتها العسكرية بأخرى مستجلبة خشنة (كمثل أحوال المماليك وغيرها)، ومنها تجديد حاكم جديد لطريقة حكم أسلافه، فيعتبره قد بدأ دولة جديدة، وهكذا. وقد تتبّعه بعض العلماء والمفكرين في ذلك بالنقد؛ لكون أعمار الأجيال قد لا تحقّق نظريته، ومنهم رشيد رضا، حين قال: «ومما أخطأ فيه جعله عمر الدولة ثلاثة أجيال، ولو قال: عمر الدولة ثلاثة أيام من أيام الله: طفولية، وبلوغ رشد، وشيخوخة وهرم، ولم يُقدّرها بالسنين لسدَّد وقارَب» تفسير المنار 8/405.

[3] عبدالوهاب المسيري، «من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية»، ص134.

[4] هدم شمشون هيكل سليمان على رأسه ومهاجميه.

[5] إيثار اليهود المحاصرين في آخر قلاعهم الانتحار على الاستسلام للرومان سنة 70 ميلادية.

[6] لعله مشهد مشابه كثيرًا لما حصل في أفغانستان عند انسحاب الأمريكيين منها في 31 أغسطس 2021م حين تعلق الفلول والعملاء بعجلات الطائرة المغادرة.

[7] عبدالوهاب المسيري – مصدر سابق ص135-137.

[8] وأركان حكمه بطبيعة الحال؛ فرئيس الحكومة مهما كانت حساباته الشخصية وخشيته من المحاكمة لا يمكنه إلا أن ينفذ إستراتيجية دولته في هذه اللحظة العصيبة، ولا يمكنه أن يسير بالقاطرة إلى غير غاية كبار ركابها.

[9] ليس من قبيل المصادفة أن يكرر نتنياهو وأركان جيشه حديثه عن «تدمير حماس»، في وقتٍ يكاد يتيه الجيش الصهيوني بين أطلال غزة، مُعرِّضًا نفسه هو الآخر لحدّ كبير من التدمير، وليس من قبيل المصادفة أيضًا أن يذيع عن الجيش الصهيوني اعتماده بروتكول «حنابعل» لقتل جنوده إذا ما وقعوا في الأسر، بعد أن كان سرًّا، ويظل يتردد ذلك دون خجل من قادته الصهاينة الذين يدندنون كثيرًا عن حرصهم على حياة جنودهم في الحرب!

[10] ابن خلدون 2/521.

[11] ابن خلدون 2/526.

[12] يقول المسيري: «أبناء كثير من مؤسسي الكيان الصهيوني وقادته، أمثال بن جوريون، وموشي ديان، مناحم بيجين، وإسحاق رابين، يعيشون في الخارج»، عبد الوهاب المسيري – المصدر السابق ص97، وكذلك يقيم نجل نتنياهو ووزير الدفاع السابق بنيامين بن اليعازر.

[13] أسست على أنقاض قرية تل الربيع الفلسطينية.

[14] ابن خلدون 2/536 إذ يعنون بابه بقوله: «إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة».

[15] ابن خلدون 2/544.

 

 

أعلى