وفي الشريعة فسحة، والذي خلق البكاء والأحزان هو الذي خلق الضحك والسرور {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]. ومن هنا جاءت السنة المطهرة بالترغيب في أن يهشّ المسلم في وجه أخيه
كما هو معروف فإن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بالحظر والمنع، والإسلام الحنيف دين الفطرة السمحة يكره الغلّو كما يكره التفريط سواء بسواء.. ووسطية الإسلام تسع الناس جميعًا، وتُساير فِطَرهم في كل الأزمان ووفق جميع العصور.. والنفس البشرية تُحبّ الإمتاع والمؤانسة، وإدخال السرور عليها والترويح عنها بين الحين والحين، بما يُفرِّح النفس ويُسعد القلب؛ خشيةَ السآمة؛ لأنَّ رقعة الأحزان والجراحات تحتلّ مساحة كبيرة من عمر الإنسان.. هذا الكائن الذي يَكدّ ويكدح ويئنّ ويَنْصَب لَهُو في مَسِيس الحاجة إلى انبساط النفس كي تقوى وتشتد لمواصلة الجد في الحياة.
إن «الإسلام بوصفه دين الفطرة لا يُتصور فيه أن يُصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط، بل هو على العكس يرحّب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشّة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة»[1].
لذلك أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يُعين الفرد المسلم على تحمُّل مشاقّ الحياة وصعابها والتخفيف من الجانب الجدي فيها، ومقاومة رتابتها؛ شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه أنَّ حَنْظَلةَ الأُسَيْديَّ -وكان مِن كُتَّابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أَنْتَ يا حَنْظَلَةُ؟ قالَ: قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحَانَ اللهِ! ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[2].
قال المباركفوري في شرح سنن الترمذي: «وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً»؛ أَيْ سَاعَةً كَذَا، وَسَاعَةً كَذَا يَعْنِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ، وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ. انتهى.
وهذا أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: «إني لأستجمّ لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق».
ومما يُنْسَب لعلي -رضي الله عنه- قوله: «روِّحوا القلوب ساعةً؛ فإنها إذا أُكرهت عميت».
وعن قسامة بن زهير قال: «روّحوا القلوب تعي الذكر».
وإن الدين الإسلامي يتسامى إلى الحد الذي يتفق ونفسية المسلم السمح المتفائل المتناغم مع جمال الكون وما فيه، وبالتالي فهو يحارب القنوط والعبوس، ويكره الضيق والتبرم بالحياة، ويضيق باليأس وينهى عن كثرة الأحزان { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة الحديد: 23].
«إن الهموم تقتل النفس، والأحزان تُميت الروح، وإن التمادي في شغل الفكر يهدم الحياة وما فيها من متاعب يضعف العزم ويقرب من اليأس ويحمل على عبوس الوجه»[3]. ثم «إن الترويح عن القلوب أمر لا بد منه، ومن المستحيل أخذ النفوس بالجد على اطراد الزمن وتوالي الأيام، والإنسان محتاج إلى ما يُجدِّد مشاعره وينفي عنه الملل والسآمة، ويبعثه على العمل بين الحين والحين كما ينبعث إليه المستيقظ بعد ليل هادئ ونومٍ مريح وفي مرات الاستجمام ما يوفر على الإنسان هذا الحظ المرغوب»[4].
وفي الشريعة فسحة، والذي خلق البكاء والأحزان هو الذي خلق الضحك والسرور {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]. ومن هنا جاءت السنة المطهرة بالترغيب في أن يهشّ المسلم في وجه أخيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وتبسُّمُك في وجهِ أخيكَ صَدَقةٌ»[5]، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ»[6].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول إلا حقًّا؛ كجوابه للمرأة التي جاءت تسأله عن الجنة فأخبرها أن الجنة لا يدخلها عجوز؛ يقول ذلك مداعبةً ومزاحًا، وهو في ذلك الوقت جدّ صدوق. فما كان من المرأة إلا أن ولَّت تبكي. ثم سرَّى عنها وأخبرها بأنها لن تدخلها على تلك الهيئة، بل بعد خلق وإنشاء جديد على سن الشباب.
كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحابيش أن يلعبوا في مسجده الشريف، وهو يُشجّعهم في ذلك ويقول: «دُونَكُمْ يا بَنِي أرْفِدَةَ»[7].
وعن حابر -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلما رجعنا وكنا قريبًا من المدينة، قلت يا رسول الله: إني حديث عهد بعُرْس. قال: أتزوجتَ؟ فقلت: نعم. قال: أبِكْر أم ثيّب؟ قلت: بل ثيّب. قال: فهلاّ بِكْرًا تلاعبها وتلاعبك، أو قال تُضاحكها وتضاحكك»[8].
فانظر -رحمك الله- لمّا كان الضحك والانبساط أمرًا مهمًّا في حياة الإنسان لما نبَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي هم راجعون من أمر مهمّ كالجهاد، يدلّ ذلك على أنّ انبساط النفس فيه قوة للقلب وجلاء للفهم، ودفعًا للروح من أخلاطها الرديئة.
وعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية -أي حديثة السن- لم أحمل من اللحم ولم أبدن، فقال للناس: «تقدَّموا»، فتقدموا، ثم قال: «تعالي حتى أسابقك»، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وبدنت وسمنت، فخرجت معه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال صلى الله عليه وسلم : «تقدموا» فتقدموا، ثم قال: «تعالي أسابقك»، ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال؟! فقال: لتفعلنّ. فسابقته فسبقني فجعل يضحك صلى الله عليه وسلم ويقول: «هذه بتلك»[9].
وعن عائشة -رضى الله عنها-، قالت: قَدم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غَزْوةِ تبُوكَ أو خَيْبَرَ، وفي سَهْوتِها سِتْرٌ، فهبَّتْ رِيحٌ، فكشَفتْ ناحيةَ السِّتْرِ عن بناتٍ لعائشةَ لُعَبٍ، فقال: ما هذا يا عائشةُ؟ قالت: بناتي، ورأى بينهنَّ فرَسًا له جَناحانِ مِن رِقاعٍ، فقال: ما هذا الذي أرى وسْطَهنَّ؟ قالت: فرَسٌ، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جَناحانِ، قال: فرَسٌ له جَناحانِ؟! قالت: أما سَمِعْتَ أنّ لسليمانَ خَيْلًا لها أجنحةٌ؟ قالت: فضَحِك حتى رأَيْتُ نواجذَهُ»[10].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «إني لطخت وجه سودة بحريره، ولطخت سودة وجهي بحريرة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك»[11].
فها نحن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويأخذ منه الضحك والانبساط مساحة معقولة حتى تبدو نواجذه (أي أضراسه) كل ذلك ليشيع السرور بمن حوله.. ويُضْفِي جوًّا من البهجة في محيط الأسرة ومع أصحابه، وفي هذا إرشاد للذين يترفعون ولا يضحكون، ويحرمون على أنفسهم حتى التبسم ويظهرون للناس كتماثيل من الشمع لا يلتفتون يمنة أو يسرة، هؤلاء ليسوا أسوياء بل غالبًا ما يصاحبهم كثير من العُقَد النفسية والعوارض المرضية التي تدفع بهم إلى تلك الدوافع، والإسلام براء مما يقصدون أو يحملون الناس على أن هذا السمت من جوهر الإسلام.
إن المزاح اللطيف الهادف البعيد عن الأذى والقبح مطلوب مرغوب لدفع مراحل الحياة القاسية، ولكي تمضي القافلة إلى مقصدها وغايتها.. فهذا رسول الله على رفعة قدره يداعب إنسانًا ويقول له: «يا ذا الأذنين»، ويأتيه رجل يطلب منه أن يحمله على بعير فيقول له: «إني حاملك على ولد الناقة؟»؛ فيتعجب الرجل ويقول: وما أصنع بولد الناقة؟! فيرد -عليه الصلاة والسلام-: «وهل تلد الإبل إلا النوق؟».
ولما قدم في آخر المهاجرين إلى المدينة (صهيب الرومي) أحد السابقين للإسلام جاء وهو أرمد العين فوجد في المجلس تمرًا فأكل. قال صلى الله عليه وسلم مداعبًا له: «أتأكل التمر وأنت أرمد؟»، وكانت في صهيب دعابة مع علو مقامه فأجاب: إني آكل بشق عيني الصحيحة؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه[12].
إذن فرسول الله هنا تُعجبه اللفتة الضاحكة، والكلمة الفكهة التي تُسرّي عن القلب همّه ويشيع بين الجالسين جوًّا مبهجًا، وخرج أبو بكر بتجارة إلى الشام ومعه نعيمان بن عمر وسويبط بن حرملة، وهما بدريان -من أهل بدر (وسويبط) على زاد أبي بكر. فطلب نعيمان إلى حرملة أن يُطعِمَه فأبى حتى يأتي أبو بكر فتوعده نعيمان. حتى إذا مروا بقوم عرض عليهم نعيمان شراء عبدٍ له فقبلوا؛ فقال لهم: إنه عبد له كلام، وسيرى أنه حر فإن كنتم ستقبلون كلامه فلا تُفسدوه عليَّ ولا تشتروه من الآن، قالوا: بل نشتريه، وباعه بثمن بخس جاءوه به فقال لهم: دونكم هو هذا، وأشار إليه، وصاح سويبط، فوضعوا الحبل في عنقه واقتادوه، وجاء أبو بكر وصحح الأمر، ولما عاد حكى الواقعة للنبي صلى الله عليه وسلم فظل يضحك منها عامًا حتى وفاته[13].
وإذا كان هذا المزاح مطلوبًا لكي يوافق حظ النفس وفطرتها فلا بد أن يكون ذلك بقدر.. فالأمة الوسط تأخذ من الجمال والتذوق والتفكّه حاجتها باعتدال وعفة وتهذيب، فعليها ألا تسرف في هذا الجانب؛ لأنها لو فعلت سيكون ذلك على حساب كثير من الجوانب الأخرى، فضلاً عن أنه يُميت القلب، ويُفوّت على النفس جانبًا مهمًّا من جوانب الجد فيها، كما أن هذا المزاح يجب ألا يكون فيه إضرار بالغير أو ازدرائه وانتقاصه؛ فيكون تعييرًا يصيب النفس البشرية بالانكسار والمذلَّة.
ولا بد من مراعاة مقتضى الحال، وأنّ لكل واقعة ما يناسبها، فلا نلهو في موطن الجد، يحملنا على كل ذلك فَهْم عالٍ تَصدر عنه جميع تصرفاتنا أو مقاماتنا.
[1] ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، ص305.
[2] رواه مسلم: 2750.
[3] علي رفاعي محمد، أنيس الجليس.
[4] محمد الغزالي، كفاح دين، دار الكتب الحديثة، ص274.
[5] أخرجه الترمذي ١٩٥٦، وصححه الألباني.
[6] صحيح مسلم: 2626.
[7] صحيح البخاري: 949.
[8] رواه البخاري ٥٣٦٧، ومسلم ٧١٥.
[9] رواه أحمد وأبو داود ٢٥٧٨، وصححه الألباني.
[10] رواه أبو داود ٤٩٣٢، وصححه الألباني.
[11] رواه ابن ماجه ٣٤٤٣، الحاكم ٣/٤٥١.
[12] الإصابة في تمييز الصحابة ٣/١٨٥.
[13] عبد الحليم الجندي، في السيرة النبوية، دار المعارف، القاهرة، ص123.